يلزم من عدم استنكاف المفضول عدم استنكاف الأفضل فالحاجة داعبة إلى ذكر الملائكة إذ لم يستلزم الأول الآخر فصار الكلام على هذا التقدير متجدد الفائدة متزائدها ومتى كان كذلك تعين أن يحمل عليه الكتاب العزيز لأنه الغاية فى البلاغة .
وبهذه النكتة يجب أن تقول : لاتؤذ مسلما ولاذميا فتؤخر الأدنى على عكس الترتيب فى الآية لأنك إذا نهيته عن أذى المسلم فقد يقال ذاك من خواصه احتراما لدين الاسلام فلايلزم من ذلك نهيه عن أذى الكافر المسلوبة عنه هذه الخصوصية فاذا قلت : ولاذميا فقد جددت فائدة لم تكن فى الأول وترقيت من النهى عن بعض أنواع الأذى إلى النهى عن أكثر منه ولو رتبت هذه المثال كترتيب الآية فقلت : لاتؤذ ذميا فهم المنهى أن أذى السلم أدخل فى النهى إذ يساوى الذمى فى سبب الالتزام وهو الإنسانية مثلا ويمتاز عنه بسبب هو أجل وأعظم وهو الاسلام فيقنعه هذا النهى عن تجديد نهى آخر عن أذى المسلم فان قلت : ولامسلما لم تجدد له فائدة ولم وتعلمه غير ماأعلمته أولا فقد علمت أنها نكتة واحدة توجب أحيانا تقديم الأعلى وأحيانا تأخيره ولايميز لك ذلك إلا السياق وما أشك أن سياق الآية يقتضى تقديم الأدنى وتأخير الأعلى ومن البلاغة المترتبة على هذه النكتة قوله تعالى : ولاتقل لهما أف استغناءا عن نهيه عن ضربهما فما فوقه بتقديم الأدنى ولم يلق ببلاغة الكتاب العزيز أن يريد نهيا عن أعلى من التأفيف والانتهار لأنه مستغنى عنه وما يحتاج المدبر لآيات القرآن مع التأييد شاهدا سواها ولما اقتضى الانصاف تسليم إقتضاء الآية لتفضيل الملائكة وكان القول بتفضيل الأنبياء عليهم الصلاة والسلام اعتقادا لأكثر أهل السنة والشيعة التزم حمل التفضيل فى الآية على غير محل الخلاف وذلك تفضيل الملائكة فى القوة وشد البطش وسعة التمكن والاقتدار .
وهذا النوع من الفضيلة هو المناسب لسياق الآية لأن المقصود الرد على النصارى فى اعتقادهم ألوهية عيسى عليه السلام مستندين إلى كونه أحيا الموتى وأبرأ الاكمه والابرص وصدرت على يديه آثار عظيمة خارقة فناسب ذلك أن يقال : هذا الذى صدرت على يديه هذه الخوارق لاسيستنكف عن عبادة الله تعالى بل من هو أكثر خوارقا وأظهر آثارا كالملائكة المقربين الذين من جملتهم جبريل عليه السلام وقد بلغ من قوته وإقدار الله تعالى له أن اقتلع المدائن واحتملها على ريشة من جناحه فقلبها عاليها سافلها فيكون تفضيل الملائكة إذن بهذا الاعتبار ولاخلاف فى أنهم أقوى وأبطش وأن خوارقهم أكثر وإنما الخلاف فى التفضيل باعتبار مزيد الثواب والكرامات ورفع الدرجات فى دار الجزاء وليس فى الآية عليه دليل وقد يقال : لما كان أكثر مالبس على النصارى فى ألوهية عيسى عليه السلام كونه موجودا من غير أب أنبأ الله تعالى أن هذا الموجود من غير أب لايستنكف من عبادة الله تعالى ولاالملائكة المجودون من غير أب ولا أم فيكون تأخير ذكرهم لأن خلقهم أغرب من خلق عيسى عليه السلام ويشهد أن الله تعالى نظر عيسى بآدم عليهما السلام فنظر الغريب بالأغرب وشبه العجيب من آثار قدرته بالأعجب إذ عيسى مخلوق من آدم عليهما الصلاة السلام وآدم عليه السلام من غير أب ولا أم ولذلك قال سبحانه : خلقه من تراب ثم قال كن فيكون ومدار هذا البحث على النكتة التى أشير اليها فمتى استقام اشتمال المذكور ثانيا على فائدة لم يشتمل عليها الأول بأى طريق كان من تفضيل أو غيره من الفوائد فقد طابق صيغة الآية انتهى