بعد وقوع التناسل بينهما في هذه النشأة وإن كانت مخلوقة مما خلق منه آدم فهو مع كونه خلاف نص كلامه يرد عليه إن هذا قول بما قاله أبو مسلم وإلا بكنه فهو قريب منه وأما الأول فلأنه لو كان الأمر كما ذكر فيه لكان الناس مخلوقين من نفسين لا من نفس واحدة وهو خلاف النص وأيضا هو خلاف مانطقت به الأخبار الصحيحة عن رسول الله وهذا يرد على الثاني أيضا .
والقول بأنه أي فائدة في خلقها من ضلع والله تعالى قادر على أن يخلقها من تراب يقال عليه : إن فائدة ذلك سوى الحكمة التي خفيت عنا إظهار أنه سبحانه قادر على أن يخلق حيا من حي لا على سبيل التوالدكما أنه قادر على أن يخلق حيا من جماد كذلكولو كانت القدرة على الخلق من التراب مانعة عن الخلق من غيره لعدم الفائدة لخلق الجميع من التراب بلا واسطة لأنه سبحانهكما أنه قادر على خلق آدم من الترابهو قادر على خلق سائر أفراد الإنسان منه أيضا فما هو جوابكم عن خلق الناس بعضهم من بعض مع القدرة على خلقهم كخلق آدم عليه السلام فهو جوابنا عن خلق حواء من آدم مع القدرة على خلقها من تراب والقول : بأن ذلك يجر إلى ما فيه إستهجان لا يخفى ما فيه لأن هذا التشخص الخاص الحاصل لذلك الجزء بحيث لم يبق من تشخصه الأصلي شيء ظاهر يدفع الإستهجان الذي لا مقتضى له إلا الوهم الخالص لا سيما والحكمة تقتضي ذلك التناكح الكذائي .
فقد ذكر الشيخ الأكبر قدس سره أن حواء لما أنفصلت من آدم عمر موضعها منه بالشهوة النكاحية التي بها وقع الغشيان لظهور التوالد والتناسل وكان الهواء الخارج الذي عمر موضعه جسم حواء عند خروجها إذ لا خلاء في العالم فطلب ذلك الجزء الهوائي موضعه الذي أخذته حواء بشخصيتها فحرك آدم لطلب موضعه فوجده معمورا بحواء فوقع عليها فلما تغشاها حملت منه فجاءت بالذرية فبقى يعد ذلك سنة جارية في الحيوان من بني آدم وغيره بالطبع لكن الإنسان هو الكلمة الجامعة ونسخة العالم فكل ما في العالم جزء منه وليس الإنسان بجزء لواحد من العالم وكان سبب الفصل وإيجاد هذا المنفصل الأول طلب الأنس بالمشاكل في الجنس الذي هو النوع الأخض وليكون في عالم الأجسام بهذا الإلتحام الطبيعي للإنسان الكامل بالصورة التي أرادها الله تعالى ما يشبه القلم الأعلى واللوح المحفوظ الذي يعبر عنه بالعقل الأول والنفس الكلية إنتهى .
ويفهم من كلامهم أن هذا الخلق لم يقع هكذا إلا بين هذين الزوجين دون سائر أزواج الحيوانات ولم أظفر في ذلك بما يشفى الغليل نعم أخرج عبد بن حميد وإبن المنذر عن إبن عمر رضي الله تعالى عنهما أن زوج إبليس عليهما اللعنة خلقت من خلفه الأيسر والخلفكما في الصحاحأقصر أضلاع الجنب وبذلك فسره الضحاك في هذا المقام وإنما أخر بيان خلق الزوج عن بيان خلق المخاطبين لما أن تذكير خلقهم أدخل في تحقيق ما هو المقصود من حملهم على إمتثال الأمر من تذكير خلقها وقدم الجار للإعتناء ببيان مبدئية آدم عليه السلام لها ما في التقديم من التشويق إلى المؤخر وأختير عنوان الزوجية تمهيدا لما بعده من التناسل .
وذهب بعض المحققين إلى جواز عطف هذه الجملة على مقدر ينبيء عنه السوق لأن تفريع الفروع من أصل واحد يستدعي إنشاء ذلك الأصل لا محالة كأنه قيل : خلقكم من نفس واحدة خلقها أولا وخلق منها زوجها إلخ وهذا المقدر إما إستئناف مسوق لتقرير وحدة المبدأ وبيان كيفية خلقهم منه بتفصيل ما أجمل أولا وإما صفة لنفس مفيدة لذلك وأوجب بعضهم هذا التقدير على تقدير جعل الخطاب فيما تقدم عاما في الجنس ولعل ذلك لأنه لولا التقدير حينئذ لكان هذا مع قوله تعالى : وبث منهما أي نشر وفرق من تلك النفس