نظرة في أسباب فشل مشروع الدولة في المنطقة العربية ونشوء ظاهرة الارهاب

نظرة في أسباب فشل مشروع الدولة  في المنطقة العربية ونشوء ظاهرة الارهاب

  

نظرة في أسباب فشل مشروع الدولة

في المنطقة العربية ونشوء ظاهرة الارهاب

 

 

                                                                                    الشيخ د خالد العطية

 مـقــدمـة

  إن نشوء الدولة بمفهومها الحديث في الغرب كان نتيجة لتقدم الحضارة البرجوازية، اي انها جاءت تعبيرا عن حاجة اقتصادية رأسمالية وتطور سياسي يصحبه وعي اجتماعي وطبقة وسطى تمثل المورد الحيوي المتجدد لديمقراطية الدولة، اما نشوء الدولة في المنطقة العربية فقد كان نتيجة قسرية لمراحل ما بعد الاستعمار والتي أسفر عنها تسلط حكومات عسكرية وإيديولوجيات تسببت في اضعاف واضمحلال الطبقات الوسطى التي كان يعول عليها في ادامة روح الدولة وترسيخ مبادئ الديمقراطية وتنمية طبقات المجتمع . إن مشروع الدولة حسب المفهوم الديمقراطي الناجح والأصيل ظل مؤجلا في عالمنا العربي بدليل ما شهدته دول الربيع من صراعات وظواهر اجتماعية قد تكون تناظر من ناحية الاجتماع السياسي ارهاصات نشوء الدول القومية في اوروبا في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر.

  ومن أجل رصد طبيعة المتغيرات وفهم اتجاهات التفاعل الاجتماعي والسياسي يمكن أن نقسم المراحل التي مرت بها مجمل الدول العربية بعد تفكك الدولة العثمانية وفق ما يأتي :

 

المرحلة الأولى  : التأسيس بعد الحرب العالمية الاولى والنظم البرلمانية الهشة

كانت هذه الدول بصيغتها البدائية تمثل ( سلعة مستوردة) فتستمر نتيجة الضغط الاستعماري من ناحية ونتيجة تأثير المحاكاة والتقليد من ناحية أخرى بالاستئثار بمزايا السلطة الاستعمارية التي ورثتها، ويؤدي ذلك حتمية انعزالها عن مجتمعها، والاعتماد على الدعم الخارجي أكثر فاكثر، وهذا يفسر الطبيعة القلقة لتلك النماذج من الدول والتي كثيرا ما تشهد عنفا وحربا مستمرة ضد مجتمعاتها المحلية ، والمحصلة ستكون دولا ضعيفة ومجتمعات ضعيفة معا، والعراق الملكي الذي كان يخوض جيشه الفتي قتالا شرسا مع الاكراد والعشائر خير مثال يجسد ملامح تلك المرحلة، وفي ظل اجواء نشوء كتلك، كيف يراد ان تستكمل الدولة بالمعنى الاصطلاحي للكلمة متطلبات التعافي والنمو المتزامن للقوى المدنية والطبقات الاجتماعية والمهنية على اختلاف ادوراها واحجامها مع بناء واستكمال المؤسسات وتحقيق الانسجام والتكامل بين مكونات الدولة سياسيا واجتماعيا واقتصاديا ؟ وكيف لمعايير الديمقراطية وسيادة القانون ان تترسخ في ظل إحياء واستغلال البنى الاجتماعية التقليدية كالقبائل والعشائر والطوائف والأعيان الريفيين وأرباب العائلات في السعي لتقوية القبضة على السلطة في مقابل تهميش المثقفين المتمردين، بل ان مجموعات المعارضة والمواطنين العاديين سعوا ايضا الى حماية انفسهم من تهديد الدولة المستبدة بواسطة تعبئة العشائرية والطائفية والاثنية، وكيف سيكون مصير تشكل الهوية الوطنية الجامعة التي ينبغي ان توفر الحد الادنى من المشتركات مع صون الخصوصية الثقافية وغيرها للمواطنين كافة مهما اختلفت وتنوعت طوائفهم واثنياتهم ؟

ولنا ان نقارن تعقيدات هذه النشأة المأزومة لغرض توقع النتائج، بنشأة أخرى في الجانب الآخر من العالم حيث يترعرع وينمو المجتمع الديمقراطي الامريكي في اجواء سهلة ومؤاتية في القرن الثامن عشر بالشكل الذي يصفه (توكفيل ) : (إن الامريكيين ولدوا متساويين، ولهذا السبب لم تقلقهم مسالة المساواة، ولقد نشأت اميركا بحكم وبمؤسسات سياسية وبممارسات مستوردة من انكلترا القرن السابع عشر، ولم يكن الاميركيين ليهتموا بالتالي، بمسألة ايجاد الحكم ) . لقد اختزن نموذج الدولة العربية الاولى إشكاليات واسباب الفشل الذي ظل يستنزف المقدرات مرحلة بعد مرحلة، ويتسبب في فوات فرص التنمية والتقدم الحضاري جيلا بعد  جيل .

المرحلة الثانية : بروز الايديولوجيات وحكم العسكر بعد الحرب العالمية الثانية والنصف الثاني من القرن  العشرين .

  وهي المرحلة التي شهدت ظهور دول الاستقلال نتيجة حركات التحرر او الاتفاقيات الدولية، وقد اتسم عملية بناء (نموذج الدولة) فيها على نحو فوقي، معتمدة على نموذج الدولة الواحدية بشكله البريطاني أو الفرنسي، ولكونها فوقية بمعنى لم يتوافر لها مقومات الدولة وفق فرضيات أساسية مستمدة من التجربة العلمية والنظرية لبناء الامم في القرن التاسع عشر، فان هذا النموذج يجمع بين وصفي التغرب (من الغرب) وصفة كونه تقليدي في الوقت ذاته، فهي قد استمدت نموذج اجهزتها الادارية والامنية والعسكرية من التجربة الغربية، وفي الوقت ذاته استخلصت من موروثها الثقافي فكرة جعل السلطة حكرا على الحاكم وحاشيته، والنتيجة الحتمية لهكذا بناء مشوه هو الحكم الاستبدادي الذي يهتك فيه الشأن الخاص خدمة لما هو عام .

  برزت في هذه المرحلة ازمات التفكك وتنامي الاحتجاجات الفئوية (طائفة – مذهب – مناطق) وصعود الاسلام السياسي الذي آذن بتحول الثقافة السياسية في الوطن العربي من الفكر القومي / الاشتراكي الى الاسلامي .

  لقد اكتنفت التجربة الايديولوجية العاصفة في الخمسينيات والستينيات والتي تنازعت السلطة او تشاركتها مع العسكرتاريا، جملة من السمات والمميزات العامة تجدر ملاحظتها لما لها من انعكاسات عميقة أسهمت بالامعان في تشويه وافشال التجربة :

 

أولا : العنف كنمط سلوكي !

  لقد اتسم النموذج الايديولوجي (سواء كان سلطة او معارضة ) بمختلف الوانه باتباع أساليب عنفية على مستوى الخطاب او الممارسات، ولم يكن مستغربا ان تتضمن البيانات الحزبية تحريضا مباشرا على استخدام العنف والتصفية الجسدية ( مجابهة الشيوعيين حركة الشواف في الموصل وكركوك ) .

ثانيا : اختلاف سياسي ... توافق سلوكي !!

   مهما اختلف الاتجاه السياسي للجماعات والافراد فان الخصائص النفسية تظل متقاربة، وأن السلوك السياسي سواء كان ماركسيا او اسلامويا او قوميا كان متشابها الى حد كبير نتيجة كون الجميع يشتركون في ارضية اجتماعية واحدة، وتغذيهم قنوات التنشئة الاجتماعية ذاتها بتشوهاتها المعروفة، لذلك كانت ساحة الاحتدام بين المتصارعين عبارة عن منازلات جسدية قمعية تدمي وتسفر عن  تصدعات اجتماعية وسياسية بدل ان تكون حراكا فكريا تنويريا بين ما يمثلونه من منظومات قيمية مختلفة يفضي الى تنوع وتعدد في وسائل الإبداع والتقدم الحضاري، فكانت المنافسة تفضي الى نتائج صفرية (من في السلطة يقود التصفيات لمن هو خارج السلطة ) في حين شهدت اوروبا في مراحل الصيرورة السياسية والاجتماعية نموا زاخرا متزامنا لشتى التيارات السياسية والاجتماعية ما زالت النظم السياسية والساحة الحزبية في فرنسا والمانيا وانكلترا وغيرها تنعم بما أسفر عنه من تنوع في الأسس والمدارس والسياسات والآليات والبرامج .

 

ثالثا : فشل نموذج الدولة القومية والتي كان يفترض ان تنبثق عنه من زاوية الاجتماع السياسي انماطا مقاربة للدولة القومية كمصطلح سياسي والتي ظهرت في اوروبا على أثر صلح وستفاليا (م1648) الذي انهى فترة الحروب الدينية وجرد الدولة من لبوسها العقائدي الكنسي، فلقد كانت القومية العربية خالية من النزعة الانسانية و شوفينية احيانا، وان ذلك يعود بحسب باحثين الى كون الدولة القومية في اوروبا ارتبطت بالفلسفة الالمانية أو الاوروبية عموما، في حين لم تكن القومية العربية إفرازا لصيرورة اجتماعية ثقافية (فكرية )عميقة بالقدر الكافي .

 

رابعا : تعدد منظومات القيم وحالة ( اللا قيم ) !!

  من منظور اجتماعي فان الحالة المثالية للمجتمع ان تكون له ثقافته أو مخزونه القيمي الذي يعر عن هويته، وهي الهوية الثقافية والقيمية التي تشكل مرجعيته في التعامل مع كل مكونات الوجود المحيط به، الا ن الامر لم يكن كذلك في مجتمعاتنا، فقد حدثت قطيعة مع الموروث الديني والثقافي، وبدأت النظم السياسية في استجلاب قيم على هيئة ايديولوجيات غربية وغريبة على المجتمع من الخارج، لتساعد في تحديث المجتمع، ونتيجة لذلك رفض المجتمع القيم والإيديولوجيات التي أتت بها الانظمة السياسية، تلك الانظمة التي رفض المجتمع ايديولوجياتها من قبل لانها رفضت موروثه الثقافي، ونتيجة لذلك فلا الموروث الثقافي تم تجديد بعض عناصره ليشارك في تحديث المجتمع، وضبط التفاعل في اطاره، ولا المجتمع انصاع وحدث نفسه وفق قيم ومبادئ ايديولوجيات نجحت في تحديث مجتمعات اخرى، وقد ادى ذلك الى وضع مدهش وغريب، حيث تواجدت على ساحة المجتمع عدد من منظومات القيم غير متفاعلة، وتنفرد منظومة القيم الدينية بكونها قوية ومتجذرة في بنية الشخصية العربية والمسلمة، في حين أن الانظمة العربية ظلت تؤكد على تحديد فاعلية الدين بحدود الضمير الفردي، دون ان تكون له علاقات في تنظيم الحياة في مختلف مجالاتها، الى جوار ذلك تواجدت منظومة القيم الاشتراكية التي تؤكد على المساواة وفرض أولوية مصالح الجماعة على الفرد، ثم منظومة القيم الليبرالية والتي دعت الى الحرية الاقتصادية والسياسية والاحتكام الى حياة ترفيه استهلاكية على خلاف الدينية والاشتراكية، وهذا يعني وجود منظومات قيم متعددة في نفس الفضاء الاجتماعي لم تكن منفصلة فقط ولم تنصهر في منظومة قيمية كذلك، ولكنها قدمت معاني متناقضة، الامر الذي أضعف فاعليتها في توجيه سلوك البشر في مختلف المجالات، واعاقها عن الانصهار والتجانس ،ونتائج ذلك (1)  ان كل منظومة ترفض معاني المنظومة او المنظومات الاخرى ووجود حالة من انعدام المعايير متفق عليها وهي حالة تشجع على رفض الاخر وتمهد للعنف (2) ان التغير المستمر في تبني الانظمة لمنظومات قيمية متناقضة أدت الى خلق لاوعي في المجتمع منطقه أن كل شيء مآله الى التغيير والاستبدال، إذن فلنتعايش مع منظومات القيم دون أن نستوعبها بانتظار التغيير المحتمل، حتى لو كان التغيير بلا قيم !!

 

خامسا : ظهور التطرف الديني

  شهدت هذه المرحلة نشوء وتكون بذور التطرف السلفي التكفيري والارهاب، وفي تقديرنا فقد تظافرت عوامل متعددة أسهمت بدرجات متفاوتة في هذه النشأة والظهور .

    وكما استعرضنا في النقاط السابقة فان الاجواء السائدة سواء من قبل السلطة (رفض الموروث الثقافي ) او من قبل المعارضين تتسم باستخدام العنف والإرهاب الفكري والمادي، وفي ذلك إشارة الى الجذور الاجتماعية لتكون الظاهرة مع الاخذ بنظر الاعتبار حالة تآكل الطبقة الوسطى والتي في حال كونها متعافية فان منظومتها ومعاييرها هي التي تتدفق في المجرى الرئيسي للمجتمع، ولكون الحراك السياسي لم يحمل بعدا فكريا يتحرك ويؤثر في (منظومة القيم الادراكية) والتي من شانها أن تقوي الجانب العقلاني في الانسان، نرى انه بسقوط الايديولوجيات الشيوعية والقومية ووجود حالة شبه فراغ في الساحة الفكرية عموما انبثقت السلفية من ركامها بموروثاتها التقليدية لكي تعزز منظومة القيم الوجدانية، دون أن تكون هناك حركات إسلامية تنويرية تتسم بالحيوية والتجديد اللازمان لمهمة تقديم نموذج تطبيقي للدولة وفق رؤية إسلامية حديثة، ويعود السبب في ذلك الى انشغال الجهود المعرفية في منظومة الفكر الاسلامي في قضايا (الامة) لا ( الدولة )، والانشغال في موضوعة (الخلافة) على حساب تقديم الرؤى التطبيقية في شؤون الحكم والسلطة، والتكاسل عن إبراز الاخلاق الاسلامية بقوالب قانونية وأطر مرجعية تنسجم مع متطلبات بناء الدولة والمجتمع . إن القضية الجوهرية والسؤال المحوري والذي وفقا للاجابة عليه يتحدد اتجاهات التيارات الاسلامية السياسية هو علاقة الدين بالدولة، من حيث انها علاقة انصهار واندماج، أم هي علاقة فصل واختلاف وصراع مبنية على أساس فصل الدين عن الدولة، وتقفز حركات السلفية الجهادية الى واجهة المشهد السياسي والأمني بعد سد الخلل والنقص برأيهم و الذي لازم السلفية   التقليدية من خلال تبني أسس جديدة لخطابات حركات العنف التكفيري منذ السبعينيات وما بعدها انطلاقا من إعادة تعريف مفهوم التوحيد بتصنيفاته : الديني (الألوهية، توحيد الربوبية ) والشق السياسي (الحاكمية )، والاجتماعي ( الجاهلية ) .

المرحلة الثالثة : مرحلة اضمحلال الايدولوجيا ورسوخ المضمون التسلطي للدولة، تحالف (السلطة – الأمن – المال ) .

  بعد إخفاق المشاريع التنموية تخلت الدولة عن مشروعه التحرري الذي استهلك خطابات السياسة لسنين متطاولة، وبدلا من العي لتقرير سلطته واكتساب شرعيتة المتهاوية ،اصبح نموذج النظام العربي يعتمد على القهر وعلى التحالف مع طبقات رأسمالية صاعدة في اطار التبعية للسوق العالمية . لقد تميز فصل الختام الطويل لرحلة الانظمة العربية بسمة بارزة، هي تقارب أنماطها بعد أن تخلصت من المظهر الايديولوجي الذي كانت تستر به أو تعلنه مصدرا لشرعيتها، ( حتى أنها انتهت الى مركب يكاد أن يعمّ عربيا لتشترك فيه الجمهوريات والملكيات في نوع من (جمهوكيات ) بحسب المؤرخ اليمني عبدالله البردوني، وتشمل عناصر هذا المركب أسرا حاكمة (بحزب أو من دون حزب )، أجهزة أمنية قوية دخلت السياسة بشكل علني، وفئة من رجال الاعمال يختلطون بصلة القرابة او المصاهرة مع رجالات السياسة والأمن .

الا أن المتغير الجديد هو ظهور طبقة واسعة من الشباب المتعلم، نتيجة التفجر السكاني الشبابي، والذي ترافق مع ضعف معدلات النمو الاقتصادي لكي تتحول هذه الطبقة المتعلمة الى عبء على الانظمة المتداعية، مع استمرار توسّع الفجوة بين هذا الجيل الذي يرفض ان يكون انعدام الحقوق طبيعيا، وجيل آخر قد طبـّع علاقته مع واقع فقدان   الحقوق .