لمن المستقبل؟

لمن المستقبل؟

 

لمن المستقبل؟

 

الأستاذ محمد الحبيب الأسود

 

 
بسم الله، والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه
 
﴿وَعَدَ اللهُ الذين آمَنُوا مِنْكُم وعَمِلُوا الصّالحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنّهُم في الأرْض كَمَا اسْتَخلفَ الذِينَ مِنْ قَبْلهِم وليُمَكِّنَنّ لهُم دِينَهُمُ الذِي ارْتَضَى لهُم وَليُبَدِّلنَّهُم مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِم أمْنًا﴾  )النّور:53(           
    بعض المحلّلين السياسيين والباحثين الجامعيين، وخاصّة الغربيين منهم، يؤكّدون في كتاباتهم وبحوثهم على أمريناثنين فيما يخص الحركات الإسلاميّة المعاصرة:
أوّلهما: أنّ هذه الحركات ما هي إلاّ إفرازة طبيعيّة لتدهور الأوضاع الاقتصاديّة في بلاد الإسلام، وأنّ الفقر والحاجة والتخلّف الاجتماعي يمثّل جميعها البيئة الطبيعيّة لنمو التطرّف الديني، ونشأة الحركات التيوقراطيّة التي تنتدب أعضاءها على حلم الجنّة وما عند الله خير من الدّنيا... ويستدلّون في ذلك بالأرقام والإحصائيّات حول معدّل الدخل الفردي والناتج القومي الخام والمديونية ونسبة النّمو والأميّة... ويرون أنّ هذه المعدّلات وهذه الأرقام هي من أضعف المؤشّرات على النمو والتطوّر في البلاد العربية والإسلاميّة التي تشهد نشاطات دينيّة متطرّفة وعملا مسلّحا إرهابيّا، ويذكرون الجزائر ومصر وسوريا والسودان والصومال... ونيجيريا، وجماعة 'أبو سياف' في ماليزيا والفيليبين، وحركات المعارضة الإسلاميّة في دول الاتحاد السوفيتي سابقا، وما يجري مع طالبان في أفغانستان، ولا ينسون ذكر إيران وتركيا... كأمثلة على صدق دعواهم.
ويرون أنّ السبيل الأمثل لإبعاد شبح الإسلاميّة الثوريّة وتهديدها لمصالح الغرب، هو إعانة هذه الدول المتخلّفة أو التي هي في طريق النمو على الخروج من أزماتها الاقتصادية والانخراط في اقتصاد السّوق حسب مبادئ النظام العالمي الجديد ومتطلّبات العولمة، التي تسيطر عليها مؤسسات المال الأمريكية والصرافة اليهودية، مع إدخالها في المنظومة الأمنيّة الأطلسية، التي من إستراتيجيتها الحفاظ عل أمن وكيان "إسرائيل"، وخدمة مصالح التحالف الغربي الصهيوني... وأنّ هامشا من الحريّة في هذه البلدان، وقليلا من الدّيمقراطيّة سيكون كافيا مع نمو اقتصادي يسمح بتقليص البطالة وفتح الأفاق أمام الشباب، لمحاصرة الظاهرة الإسلاميّة وتهميشها حتّى تنقرض من تلقاء نفسها، زيادة على العمل على بث الفرقة والتناحر وإشعال نار الفتنة والتمزق بين الفرق والمذاهب الإسلامية، حتى تفقد أمة الإسلام مقوّمات الوحدة والتكامل، وتبقى تحت رحمة تجاذبات مصالح المخابرات الأجنبية العاملة في فلك قوى الاستكبار في العالم.
ثانيهما: أنّ هذه الحركات الإسلاميّة ما هي إلاّ ظاهرة عابرة اقتضتها عوامل اقتصاديّة وظروف سياسيّة ساعدت بعضها على النمو بسرعة، وحتّى الوصول إلى الحكم، وأنّ ما وقع في إيران من ثورة شعبيّة بقيادة ومرجعية إسلامية أوصلت الإسلام السياسي إلى السلطة، ومكنت جزءً من الأمة الإسلامية بأن يكون حرا ومستقلا بسيادة كاملة، ويحوز القوة والعلم، ويستعصى على أعداء الأمة، لن يسمح العالم "الديمقراطي" ذو القطب الغربي مستقبلا بوقوعه في أي بلد آخر، وأنّ القوى العظمى ستوظّف وستستعمل كلّ الوسائل السياسيّة والاقتصاديّة والثقافيّة والإعلاميّة، وحتّى العسكرية إنّ لزم الأمر للحيلولة دون نجاح هذه الحركات الحرة المؤمنة بالمشروع الإسلامي وبوحدة الأمة الإسلامية وفي رحمة الاختلاف فيها وفي تعدد أفهامها ومذاهبها في صلب المنظومة الإسلامية نفسها، في الوصول إلى الحكم، وتهديد مصالح الغرب وهيمنته الاقتصاديّة وسيادته على العالم...
ويرون أنّ أفول هذه الحركات قد بدأ فعلا، وسيشهد مطلع القرن الحادي والعشرين انقراضها تحت وطأة العولمة وسيادة مبادئ الديمقراطيّة وحقوق الإنسان حسب المنظور الغربي ذي المكيالين.
أمّا إذا استقرأنا التّاريخ ودقّقنا النظر في الواقع، فإنّ هذا التحليل سيبدو لنا فجّا واهيا، لأنّه انطلق من ملاحظات عامّة حول الظروف الآنية لنشأة الحركات الإسلاميّة، دون النظر في جذورها التّاريخيّة ومخزون الحضارة الإسلاميّة وفعل العصبيّة الدينيّة في وجدان وتركيبة المجتمعات الإسلاميّة.
ولو كان التدهور الاقتصادي والفقر والتخلّف العوامل الأساسية لنمو الحركات الدينيّة المتطرفة، لكانت بنغلادش أكثر البلدان عرضة للتطرف الديني ولأعمال الجهاد باسم الإسلام.
فالتدهور الاقتصادي والفقر والتخلّف ما هي إلاّ واحدة من إفرازات الحكم الفردي والاستبداد السياسي الذي أرخى ظلاله على الأمّة، فأصابها بالعجز والكسل والخرافة، فتخلّفت وتدهورت أوضاعها، فعلّة الاستبداد هي نفسها سبب لكل تطرّف وإرهاب وتدهور اقتصادي وفقر وتخلّف.
ميلاد الحركات الإسلاميّة كما هي اليوم على اختلاف مذاهبها في الفكر وأساليبها في العمل، كان النتيجة الحتميّة للغياب التدريجي للإسلام من مساحات فعله السياسي والثقافي والحضاري والاجتماعي، ونقض عراه عروة بعد عروة، بدءا بعروة الشورى في الحكم إلى حدّ حصره في صورة من صور الماضي والتّاريخ وشيء من أشياء التراث، وهذه المنزلة التقليديّة التراثيّة ليست هي المنزلة الطبيعيّة للإسلام.
فالإسلام يقظة للشّعوب وليس أفيونا لها، وعامل حركة وتعمير وفعل واقعي وليس خيالا وذكريات وزوايا وشعوذة، وهو علم ونهضة وليس جهلا وتخلّفا، وقوّة وعزّة وليس هوانا وذلّة، ولذلك كلّما أصاب الأمّة شيء من أمراض التخلّف والجهل والخرافة والضعف والهوان، إلاّ وقامت هنا أوهناك بهذا الزّي أو بذاك الحركة التي تحاول تصحيح المسار وإرجاع الأمّة إلى هدى الإسلام الحنيف، حسب الفهم الذي قامت عله تلك الحركة.
فأمّة الإسلام كالجسم السليم، إن أصابته علّة تحرّكت فيه بالسليقة والفطرة والطبيعة المضادّات للعلل لتخليصه من الجراثيم والأجسام الدّخيلة عليه التي سبّبت له السقم.
من أجل ذلك لم تخل حقبة من حقب الزمن في تاريخ الإسلام إلاّ وشهد النّاس فيها حركيّة علميّة أو جهاديّة أو سياسيّة أو دعويّة إصلاحيّة لتصحيح العقيدة متى اعترتها الخرافات والبدع، أو لردع حاكم ظالم أفرط وطغى على النّاس، أو لطرد غاز أجنبي معاد للملّة والدّين، أو لنشر العلم والمعرفة حين تسقط الأمّة في الجهل والظلام وتتخلّف عن ركب الحضارة، فما انطفأت يوما شموع العلماء والمصلحين والمجاهدين على أرض الإسلام أبدا.
والحركات الإسلاميّة المعاصرة داخلة بالضرورة في هذا النّاموس، فنشأتها كانت حتميّة تاريخيّة اقتضتها عوامل حضاريّة ودينيّة ممزوجة بعقلية التحرّر والإنعتاق والتمرّد على الظلم الكامنة في تركيبة ونفسيّة المسلم، وهي التي تدفعه من موقع العصبيّة الدينيّة والإيمان للثأر لربّه ودينه.
فالمسلم الذي يلقي نظرة إلى تاريخه المجيد، وما كان عليه أجداده من علو شأن وعزّة ومناعة، وما كانت عليه أمّة الإسلام من تطوّر وعلم وحضارة وهيبة بين الأمم، وهيمنة عقليّة وسياسية على كلّ النظم الأرضية، ثمّ يتفحّص واقعه الحاضر، فيجد نفسه محكوما بالتخلّف والاستبداد، وحكّام عملاء يقهرون شعوبهم ويسلبونهم إرادتهم، ويجد اليهود قد وضعوا الذلّة عن أنفسهم ولهم الغلبة بحبل من الله وبحبل من النّاس أمام تخاذل الحكام العرب والمسلمين وضعفهم وهوانهم، ويجد الفساد والميوعة والتغريب والانحلال الخلقي والخروج عن الحياء والتمرّد على قيم الإسلام أمراضا قد شاعت أعراضها في شعوب مسلمة ممزّقة ومقهورة ومتخلّفة، تداعت عليها الأمم كما تداعى الأكلة إلى قصعتها، فنهشوا ثرواتها ولا يزالون يهيمنون على مقدّراتها.
أليس هذا كلّه كافيا لأن تتحرّك في مثل هذه الشعوب حركات وتنظيمات وجماعات تطلب الخلاص للأمّة من براثن التخلّف والاستبداد والهيمنة الأجنبيّة ومن الخرافة والجهل والظلام..؟ أفلا تكون هذه الشعوب في عداد الأموات إن لم تعش مثل هذه الحركيّة وتنهض فيها مثل هذه الدعوات الإصلاحيّة والثوريّة والجهاديّة..؟
فالجسم السليم هو الذي يعيش الصراع الدائم بين الصحة والسقم، وأمّا الجسم الميّت فإنّه يتعفّن وتأكله الوحوش الضارية وتأتي عليه الديدان ولا فعل له ولا حراك، فما تشهده شعوبنا العربيّة والإسلاميّة من نشاطات مكثّفة للحركات الإسلاميّة على اختلاف مفاهيمها ومذاهبها وأساليبها في العمل، إنّما هو دلالة على الصحة وليس على السقم، ومؤشّر مخاض على عتبة ميلاد عصر جديد ستكون للإسلام فيه صولة ونهضة ليس بعدها نكسة.
غير أنّ ما وقعت فيه بعض هذه الحركات وخاصّة منها التي أعلنت العمل المسلح ضد حكّامها من أخطاء فادحة جرّتها إلى أعمال ومغامرات لا ضابط شرعي لها، فخرجت بها عن سماحة الإسلام وعدله، جعل الكثيرين من أنصار العالم الدّيمقراطي ودعاة العولمة وحقوق الإنسان يتخوّفون من المشروع الإسلامي، ويتّهمونه بالظلاميّة والبربريّة وألاّ إنسانيّة، وربّما وجدوا لأنفسهم الأعذار في موقفهم هذا، حين يشاهدون سفك دماء الأطفال والنساء والأبرياء، وحين يرون كيف تعامل المرأة معاملة الشيء والدون، وحين يسمعون خطب الدعاة والأمراء المسلّحين يلعنون بعضهم البعض، ويرمون بالزندقة والكفر والإلحاد كلّ من لم يكن على فهمهم ودينهم.
سقوط هذه الحركات في الإرهاب وقتل المسلمين بعضهم البعض أعان الشيطان عليهم وسلبهم حق المشاركة الايجابيّة في نهضة شعوبهم، ولكن ربّما في خضم هذه الفتنة وهذا الاقتتال ألاّ مشروع، ميّز الله الخبيث من الطيب، وهيّأ الأسباب للأصلح والأفضل والأقرب إلى الله والى الحق أن يسود بعلمه وثقافته وفهمه الراشد والسليم للإسلام، وباعتداله ومبادئه السامية سمو الإنسان السوي التّقي، فقد قال تعالى ﴿مَا كانَ اللهُ ليذرَ المُؤمنين على ما أنْتم عَليه حتّى يميزَ الخبيث من الطيّب﴾ (آل عمران:179)
فعلى الإسلاميين في العالم أن يتّعظوا ويعتبروا بما آلت إليه تجارب بعض الحركات التي مارست المعارضة المسلحة ضد الحكومات، وشرّعت الاقتتال بين المسلمين، وتبنّت التحجّر والغلو في الدين وتكفير الناس، من خراب في النفوس والدّيار، ووقوع في الحرام وسفك للدماء بالباطل، وتشويه للإسلام والمسلمين،
فليتأمّلوا ويقيّموا أنفسهم وحالهم وحال الأمّة من حولهم، وليعتبروا حتّى يقدروا على تصحيح مسار دعوتهم، وتعديل مشروعهم على مبادئ وحدة الأمة وديمقراطية العمل الإسلامي وحقوق الإنسان والحريّة والسلام، ولينبذوا كلّ دعوة للعنف والمواجهات الدّامية، وليعملوا بالأساليب السياسيّة السلميّة، وليكونوا أوّل الدّيمقراطيين في مجتمعاتهم، وأوّل الدعاة للحريّة الشخصيّة ولحريّة الرأي والفكر والمعتقد، وليمارسوا السياسة ببرامج مدنية واقعيّة وواضحة تحلّ مشاكل الأمّة ولا تأزمّها، وليأخذوا دينهم بيسر وفهم علمي وحضاري كما أسلفنا القول، وليتعاملوا مع كلّ من يريد الخير لهذه الأمّة مهما كان انتماؤه السياسي أو الديني أو المذهبي، وليجتمعوا مع من يخالفونهم في الرأي على ما يتّفقون عليه من مبادئ وعمل لصالح شعوبهم، وليعذر بعضهم البعض فيما اختلفوا فيه من فلسفة ومذهب ودين،
وليقيموا دولة الإسلام في قلوبهم وفي بيوتهم بالعدل والإحسان والتقوى والإيمان بالحريّة وقبول الآخر، والعمل بالديمقراطيّة والمساواة، واحترام حقوق الإنسان، وإكرام المرأة، والانخراط في كلّ عمل صالح تحرّري وإنساني، وتبنّي كلّ القيم الكونيّة العادلة، فستقام دولة الله، دولة الإسلام في أوطانهم، فالله يحبّ الحريّة لعباده وقد خلقهم أحرارا، ويحبّ الإنسان وقد أكرمه في البر والبحر ورزقه من الطيبات، ويحب إكرام المرأة وقد خلقها والرجل من نفس واحدة، ويحب السلم والسلام وقد أمر بالدخول في السلم كافة، ويحب الوسطيّة والاعتدال وقد جعل أمة الإسلام وسطا ليكونوا شهداء على الناس.
فالمستقبل لأمة الإسلام موحّدة، وللإسلام التعدّدي والدّيمقراطي، مهما تراءى للبعض من علل وأسقام في مسيرة الدعوة الإسلاميّة، فسينقرض التّطرّف والعنف الديني والتناحر المذهبي من تلقاء نفسه، وستتّخذ الحركات الإسلاميّة النيّرة مسار الحكمة والموعظة الحسنة والبرامج الواقعيّة الجادّة، وستجد مكانها لتكون البديل الأفضل والأقرب إلى الحق والعدل، والأكثر استجابة لتطلّعات الشعوب وآمالها في التّنعّم بالحريّة والكرامة والوحدة في إطار فسيفساء اجتماعي فيه كلّ الألوان الفكريّة والسياسيّة دون إقصاء لأحد، فأروع ما في المجتمع الإسلامي السليم ديناميكيته المتواصلة وثراء زاده الفكري والسياسي ورحمة الاختلاف بين أفراده.
قال الله فينا:
﴿كُنتم خيرَ أمّة أُخْرجَت للنّاس تأمرُون بالمَعروفِ وتنهون عن المنكر وتُؤمنون بالله﴾ (آل عمران:110)
صدق الله العظيم