حالتان متناقضتان (المذهبية والطائفية) مظاهرهما وعلل الانحراف

حالتان متناقضتان (المذهبية والطائفية) مظاهرهما وعلل الانحراف

 

حالتان متناقضتان (المذهبية والطائفية)
مظاهرهما وعلل الانحراف

 

محمد علي التسخيري

الأمين العام للمجمع العالمي للتقريب بين المذاهب الإسلامية

 

والصلاة على محمد وآله الطاهرين وصحبه الميامين وبعد،

فإن الدارس لتاريخ العلاقة بين علماء المذاهب يلمح ظاهرتين متناقضتين إحداهما هي (التنوع المذهبي) وتستمد جذورها من روح الاسلام وعقلانيته ومنحه حرية الاجتهاد ووضعه قواعد الحوار وتاكيده على الأصول العامة للدخول في نطاق الأمة وكذلك تركيزه على روح الاخوة والوحدة،

والثانية هي (الطائفية) وهي تتنافى مع اصول الاسلام وقواعده.

امثلة من مظاهر التعامل المذهبي الإيجابي

ورغم احتدام الخلاف الفكري بين العلماء من اتباع المذاهب فاننا نلاحظ في كثير من الأحيان علاقات صفاء ومحبة وتمازج الى حد كبير بحيث يدرس بعضهم على بعض، ويدرّس البعض فقه المذاهب الأخرى، وينقل مناهجهم الى مذهبه ويطلب بعضهم الإجازة من البعض الآخر. وهناك مجموعة رائعة من كتب الفقه المقارن، ونقل رائع لآراء الآخرين.

ومما روي عن الشيخ الصدوق أنه كان يجوب البلدان ويجلس الى العلماء مهما كان مذهبهم ومنهم الحاكم ابو محمد بكر بن علي الحنفي الشاشي([1])

وابو محمد محمد بن ابي عبدالله الشافعي الفرغاني([2])

وكان التعامل يتم عبر مجالات عديدة كالتعليم والدراسة والحوار والاستفادة المتبادلة من المصادر والبحوث ونقد الآراء والتزاور والجلسات التي تتم في المناسبات.

ففي مجال التعلم نجد كتب الفريقين متبادلة في الجامعات العلمية والحوزات تستفيد منها دون ان تسأل عن مذهب الكاتب ويشمل هذا مختلف العلوم كالنحو والفقه واصول الفقه والحديث بطرقه المختلفة:

(السماح والقراءة او العرض، والإجازة والمناولة والمكاتبة والوصية والوجادة).

ولقد كان شيخ الشيعة ببغداد (الشيخ المفيد) يحاور العلماء من شتى المذاهب الاسلامية ويجالسهم([3]) وكان يحرص على التعليم – حيث يقول الذهبي: وإن كان ليدور على المكاتب وحوانيت الحاكمة فيلمح الصبي الفطن فيذهب الى أبيه وأمه حتى يستأجره ثم يعلمه، وبذلك كثر تلامذته. ([4])

ولقد جاء كتاب الخلاف لشيخ الطائفة الطوسي «المتوفى سنة 460هـ» أروع مثال على ذلك وقد نقل بكل أمانة آراء المذاهب الأخرى وبالتفصيل ومنها آراء المذهب الشافعي الى الحد الذي ظن السبكي معه انه من علماء المذهب الشافعي وذكره في طبقاتهم رغم اعترافه بأنه فقيه الشيعة ومصنفهم ولكنه يقول عنه (كان ينتمي الى مذهب الشافعي). ([5])

وكان الشيخ يعتمد على ما روي في مصنفات أهل السنة اذا لم يجد ما يعتمد عليه في مصنفات الشيعة تبعاً لرواية عن الصادق(ع) تقول: (اذا نزلت بكم حادثة لاتجدون حكمها في ما روي عنا فانظروا الى ما رووه عن علي(ع) فاعملوا به). ([6])

وهذه ظاهرة رائعة نلمحها في بعض العلماء فتعبر لنا عن امتزاج عجيب بين المذاهب، وقد عبروا عن ابن الفوطي (توفي 723) وهو صاحب (معجم الالقاب) وكان قيماً على أعظم مكتبة في عصره - عبروا عنه بأنه كان شيعياً حنبلياً. كما ذكر الشيخ وهبة الزحيلي([7]) بان الطوفي المعروف بدفاعه الشديد عن أصل (المصالح المرسلة) هو من غلاة الشيعة متبعاً في ذلك ابن رجب الذي عده من علمائهم، في حين أن الطوفي كان من علماء الحنابلة في القرن الثامن. ([8]) ودفاعه عن هذا (الاصل) الذي يرفضه الشيعة، وعدم ذكره في فهارس علماء الشيعة يؤيدان كونه حنبلياً.

وهذا محمد ابن أبي بكر السكاكيني العالم الشيعي المعروف كان كل مشايخه من أهل السنة. وقد خرّج له ابن الفخر علاء الدين ابن تيمية (المتوفي سنة 701) ما رواه عن شيوخه وناظره وشهد له بالتفوق وقال عنه : (هو من يتشيع به السني ويتسنن به الرافضي) وقد نسخ صحيح البخاري بيده، وهو صاحب القصيدة المعروفة ومطلعها:

أيا معشر الاسلام ذمي دينكم تحير دلّوه بأوضح حجة

وهو صاحب (الطرائف في معرفة الطوائف) الذي مزقه السبكي وأحرقه.

ولو رجعنا الى كتب طبقات الحنابلة لرأينا التقارب العجيب فهذا المحبي كبير السنة في دمشق يمدح البهاء العاملي عالم الشيعة المعروف فيقول عنه (كما في خلاصة الأثر): وهو أحق من كل حقيق بذكر أخباره ونشر مزاياه، واتحاف العالم بفضائله وبدائعه، وكان امة مستقلة في الأخذ بأطراف العلوم والتضلع بدقائق الفنون، وما أظن الزمان سمح بمثله ولا جاد بنده وبالجملة فلم تشنف الاسماع بأعجب من أخباره.

وقد ذكر الخطيب البغدادي أن سيرة سلف السنة هو الأخذ بروايات الثقات من الشيعة.([9])

ومن العروف ان الشيخ الطوسي كان له مشايخ من أهل السنة ومنهم: ابو الحسن بن سوار المغربي،

ومحمد بن سنان

والقاضي ابو القاسم التنوخي([10]) وعده صاحب (الرياض) من الشيعة.

وعندما ندرس اوضاع حوزة الحلة التي ازدهرت بعد القضاء على حوزة بغداد من قبل السلاجقة نجد مجالاً رحباً للتسامح.

فهذا الشيخ ابن ادريس يدرس على مجموعة من علماء اهل السنة([11])، وهذا المحقق الحلي يؤلف كتاب (المعتبر) ويذكر فيه آراء المذاهب بل ويستخدم نفس اسلوبهم في الاستدلال، ثم نجد تلميذه العلامة الحلي المؤلف الكبير يستجيز الكثير من علمائهم ويعتبر عصره من أروع عصور التعامل الايجابي، وهو يقول في مقدمة كتابه (منتهى المطلب) أنه يذكر مذاهب المخالفين مع حججهم على وجه التحقيق. ([12]) وله اساتذة من علماء اهل السنة ذكروا في مقدمة كتابه (ارشاد الأذهان).

هذا ويعتبر الشهيد الأول من خريجي هذه المدرسة.

ويعتبر الشهيد الاول وهو محمد بن جمال الدين مكي العاملي الجزيني، من علماء القرن الثامن، والشهيد الثاني وهو زين الدين بن علي العاملي الجبعي من علماء القرن العاشر، يعتبران مثلين رائعين من أمثلة الانفتاح والتمازج الفكري بين العلماء رغم أنهما كانا نموذجين بارزين من أمثلة ما يؤدي اليه التطرف المذهبي من نتائج فجيعة.

فهذا الشهيد الاول يعيش مع علماء عصره، وكان مجلسه لا«يخلو غالباً من علماء الجمهور لخلطته بهم وصحبته لهم»([13])، وقد قال في بعض اجازاته (أنه يروي عن نحو أربعين شيخاً منهم)([14]) وهي إجازته لابن الخازن حيث جاء فيها (فاني أروي عن نحو اربعين شيخاً من علمائهم بمكة والمدينة ودار السلام بغداد ومصر ودمشق وبيت المقدس، ومقام الخليل إبراهيم عليه السلام فرويت صحيح البخاري عن جماعة كثيرة بسندهم الى البخاري، وكذا صحيح مسلم ومسند ابي داوود وجامع الترمذي... الى غير ذلك مما لو ذكرته لطال الخطب، وقرأت الشاطبية على جماعة منهم قاضي قضاة مصر.. بن جماعة».([15]) والجميل أن نجد شمس الأئمة الكرماني الشافعي – وهو احد شيوخه يصفه بـ (المولى الأعظم الأعلم إمام الأئمة صاحب الفضلين مجمع المناقب..) ([16])

وكان (ره) كما يقول المرحوم صاحب الرياض: «يشتغل بتدريس كتب المخالفين ويقرئهم».([17])

وكان يرى أنه لو كانت هناك صلاتان للجماعة احداهما للشيعة والأخرى للسنة فان حضور الثانية افضل لأنه روي عنهم(ع)([18]) من صلى معهم في الصف الأول كان كمن صلى خلف رسول الله صلى الله عليه وآله فيه»، قال: ويتأكد مع المجاورة. ([19])

وهذا الشهيد الثاني كان يذكر الصحابة بكل احترام فهو يقول: «ورجعت الى وطني الاول بعد قضاء الواجب من الحج والعمرة والتمتع بزيارة النبي وآله واصحابه صلوات الله عليهم...» ([20]).

وقد اجتمع الى جملة من علماء السنة؛ ففي سفره الى مصر اجتمع مع «الشيخ الفاضل شمس الدين بن طولون الدمشقي وقرأ عليه جملة من الصحيحين في الصالحية بالمدرسة السليمية واجيز منه بروايتهما... ثم سافر الى بيت المقدس في ذي الحجة (948هـ) واجتمع بالشيخ شمس الدين بن ابي اللطيف المقدسي وقرأ عليه بعض صحيح البخاري وبعض صحيح مسلم وأجازه إجازة عامة ثم رجع الى وطنه واشتغل بمطالعة العلوم ومذاكرته مستفرغا وسعه وفي سنة 952هـ سافر الى الروم ودخل القسطنطينية في 17 ربيع الاول ولم يجتمع مع احد من الأعيان الى ثمانية عشر يوماً وكتب في خلالها رسالة في عشرة مباحث من عشرة علوم وأوصلها الى قاضي العسكر محمد بن محمد بن قاضي زاده الرومي فوقعت منه موقعاً حسنا وكان رجلاً فاضلاً واتفق بينهما مباحثات في مسائل كثيرة... واجتمع فيها بالسيد عبدالرحيم العباسي صاحب معاهد التنصيص وأخذ منه شطراً ... وأقام ببعلبك يدرس في المذاهب الخمسة واشتهر أمره وصار مرجع الأنام ومفتي كل فرقة بما يوافق مذهبها...» ([21]) ورحل الى مصر وقرأ بها على ستة عشر رجلاً من أكابر علمائهم وقد ذكرهم مفصلاً، ويبدو أنه استجازهم وروى كتبهم ويقول صاحب رياض العلماء «ويظهر منه ومن إجازة الشيخ حسن وإجازات والده أنه قرأ على جماعة كثيرين جداً من علماء العامة، وقرأ عندهم كثيراً من كتبهم في الفقه والحديث والاصول وغير ذلك، وروى جميع كتبهم وكذلك فعل الشهيد الأول والعلامة».([22])

وذكر هو بعض هؤلاء:

من قبيل الشيخ زين الدين الجرمي المالكي

والشيخ ناصر الدين اللقاني

والشيخ ناصر الدين الطبلاوي الشافعي

والشيخ شمس الدين محمد بن ابي النحاس

وقال ابن العودي تلميذه: كثيراً ما كان ينعت هذا الشيخ يعني ابن ابي النحاس بالصلاح وحسن الأخلاق والتواضع. ([23])

والحديث مفصل في هذا المجال.

وكأن هذا المسلك لم يرق لبعض العلماء وخصوصا للاخباريين منهم فابدوا عدم رضاهم به([24]) وقد اتهمه البعض بالميل الى التسنن. ([25])

وربما جاء الاتهام لأنه (رحمه الله) قام بعمل فريد اذ اعتمد منهج اهل السنة في علم الدراية وطبقه في المجال الشيعي؛ يقول صاحب الرياض: «ثم اعلم أن الشيخ زين الدين هذا هو أول من نقل علم الدراية من كتب العامة وطريقتهم الى كتب الخاصة، وألف فيه الرسالة المشهورة ثم شرحها كما صرح به جماعة ممن تأخر عنه، ويلوح من كتب الأصحاب ايضاً، ثم الف بعده تلميذه الشيخ حسين بن عبدالصمد الحارثي وبعده ولده الشيخ البهائي وهكذا... ([26])

وهنا يقول العلامة الامين: «والعلامة والشهيدان أجل قدراً من أن يقلدوا أحدا في مثل هذه المسائل او تقودهم قراءة كتب غيرهم الى اتباع ما فيها بدون برهان وهم رؤساء المذهب ومؤسسوا قواعده وبهم اقتدى فيه أهله ومنهم أخذوه، وإنما أخذوا اصطلاحات العامة ووضعوها لأحاديثهم غيرة على المذهب لما لم يروا مانعاً من ذلك، وكذلك فعلوا في أصول الفقه وفي الإجماع وغيره كما بين في محله وكذلك في فن الدراية وغيره «وكيف يكون عدم رضا الشيخ حسن بما فعلوا لهذه العلة وهو قد تبعهم وزاد عليهم».([27])

وهكذا نجد التعامل الايجابي البناء بين القادة:

- احترام يصل إلى حد التكريم الرفيع.

- وعبارات المودة والمحبة سائدة رغم النقد العلمي احياناً،

- وانبهار واحترام يفوق الوصف،

- وعلماء الفريقين يشرح بعضهم كتاب الآخر

- وإرجاع من امام إلى امام،

- وتدريس البعض وافتاؤه الناس بالمذهب الآخر،

- واعتراف بالفضل والعلم بأروع التعابير،

- وإلحاح على التعلم رغم الوضع السياسي الحرج،

- واستجازة البعض من البعض الآخر ورواية كتبه،

- واخيراً عدم إلاصرار على الراي، ورد للمنقول عنهم اذا لم يوافق الكتاب والسنة.

- وامتزاج الى حد عدم تبين المذهب لدى البعض،

- وحرية في الاجتهاد وقبول بالتعددية وانفتاح على الآخر،

- ونقل المنهج العلمي لدى الآخر الى علوم المذهب،

فهل يا ترى تقتضي العقلانية غير ذلك؟ وهل احتفظ اتباع الأئمة بمثل هذه الروح بعد ذلك؟!

وصايا إلى الاتباع

وازاء هذا التعامل الجميل بين الأئمة نلاحظ الوصايا التي تترى منهم لاتباعهم، كي يتعاملوا بنفس الروح التسامحية، ويتجاوزوا الخلافات الفرعية في العقيدة والتقييم التاريخي والفقه إلى الموقف المبدئي والتحاب ووحدة الموقف، والتعالي إلى المستويات المصلحية العليا. فلنلاحظ بعض النصوص كما يلي:

1- ذكر التاريخ ان عبدالله بن احمد بن حنبل روى ان قوماً من الكرخيين ذكروا خلافة الخلفاء الراشدين (وربما تنازعوا فيما بينهم) فقال: الامام احمد ناهياً اياهم عن هذه النـزاعات الجانبية العقيمة:

«يا هؤلاء أكثرتم القول في علي والخلافة، والخلافة وعلي؛ إن الخلافة لم تزين علياً، بل علي زينها»([28]).

2- وقد طرد الشيخ الحسين بن روح - أحد النواب الاربعة للامام الثاني عشر المهدي(ع) - خادماً له لأنه سمعه يهين معاوية([29]).

3- واوصى الامام الصادق اصحابه فقال لهم: صلوا عشائركم، واشهدوا جنائزهم، وعودوا مرضاهم، وادوا حقوقهم، فان الرجل منكم اذا ورع في دينه، وصدق الحديث وادى الامانة، وحسن خلقه مع الناس وقيل هذا جعفري، يسرني ذلك ويدخل علي منه السرور، وقيل هذا أدب جعفر»([30]).

4- روى ابن ابي يعفور قال: سمعت الصادق يقول: «كونوا دعاة للناس بغير ألسنتكم، ليروا منكم الاجتهاد والصدق والورع»([31]).

5- تذكر لنا الروايات أنه جرى ذكر قوم عند الامام الصادق فقال بعض شيعته: انا لنبرأ منهم، انهم لا يقولون ما نقول، فقال الامام: «يتولونا ولا يقولون ما تقولون، تبرأون منهم»؟ فاجاب الراوي: نعم، قال: «هو ذا عندنا ماليس عندكم، فينبغي لنا ان نبرأ منكم»([32]).

6- وعن الصادق: «من خلع جماعة المسلمين قدر شبر خلع ربقة الايمان من عنقه»([33]).

7- وعن الباقر(ع) في قوله تعالى: (أو يلبسكم شيعاً)، قال: «وهو اختلاف في الدين وطعن بعضكم على بعض»([34]).

8- وقال الصادق: «عليكم بالصلاة في المساجد، وحسن الجوار للناس، واقامة الشهادة، وحضور الجنائز، انه لابد لكم من الناس، ان احداً لا يستغني عن الناس في حياته، والناس لابد لبعضهم من بعض»([35]).

9- معاوية بن وهب قال: قلت له (اي الصادق) كيف ينبغي ان نصنع فيما بيننا وبين قومنا، وبين خلطائنا من الناس، ومن ليسوا على أمرنا؟ فقال: «تنظرون إلى أئمتكم الذين تقتدون بهم فتصنعون ما يصنعون، فوالله إنهم ليعودون مرضاهم ويشهدون جنائزهم، ويقيمون الشهادة لهم وعليهم، ويؤدون الامانة اليهم»([36]).

10- وقال الصادق(ع): «رحم الله عبداً اجترّ مودة الناس إلى نفسه فحدثهم بما يعرفون، وترك ما ينكرون»([37]).

11- وقال زين العابدين(ع): «العصبية التي يأثم عليها صاحبها أن يرى الرجل شرار قومه خيراً من خيار قوم آخرين، وليس من العصبية أن يحب الرجل قومه، ولكن العصبية ان يعين قومه على الظلم»([38]).

وهكذا نجد الأئمة يؤكدون على العلاقات الحسنة، والتعامل الايجابي، وعدم الغرق في نزاعات غير عملية، وعدم الاساءة والاهانة، والدخول في قلب العمل الاجتماعي، وعدم الاعتزال نتيجة الايمان برأي يخالف الأكثرية من الناس، والسعي للتأدب بأدب الأئمة، وعدم الغرور العلمي، وعدم جعل الاختلاف في الراي سبيلاً للتدابر، والدخول في جماعة المسلمين، واجتناب العصبية واجترار حب الناس وامثال ذلك.

من مظاهر الحالة الطائفية اللاعقلانية

نعم لم تستمر تلك الحالة النيرة كثيراً، فسرعان ما ساد التعصب والانغلاق، وتقليد المجتهدين لغيرهم «حتى آل بهم التعصب إلى ان أحدهم إذا ورد عليه شيء من الكتاب والسنة على خلاف مذهبه يجتهد في دفعه بكل وسيلة من التأويلات البعيدة، نصرة لمذهبه ولقوله»([39]).

ونقل الفخر الرازي عن اكبر شيوخه انه قال: قد شاهدت جماعة من مقلدة الفقهاء، قرأت عليهم آيات كثيرة من كتاب الله في بعض مسائل، وكانت مذاهبهم بخلاف تلك الآيات فلم يقبلوها، ولم يلتفتوا إليها، وبقوا ينظرون الي كالمتعجب – يعني كيف يمكن العمل بظواهر هذه الآيات مع ان الرواية عن سلفنا وردت على خلافها- ولو تأملت حق التأمل وجدت هذا الداء سارياً في عروق الأكثرين من اهل الدنيا»([40]).

وقد ذكر الشيخ أسد حيدر اقوالاً اخرى من هذا القبيل([41]).وربما كان اغلاق الاجتهاد وحصر المذاهب نتيجة وعاملاً على المزيد من ذلك.

ولم يقتصر الامر على هذا الحد، وانما انتقل إلى مرحلة نقل الصراع من مرحلة (الخطأ والصواب) إلى مستوى (الكفر والايمان)، الأمر الذي نقل الخلاف إلى الجماهير العريضة، وتسبب في كوارث يشيب لها الوليد.

واشتد الهجوم على العلوم العقلية والمتعاطين بها سواء بين الشيعة([42]). او السنة([43]).

وراحت التهم تطال المذاهب والآراء فتصفها بالهالكة، وانها مجوس الامة وامثال ذلك، وزاد الخلاف على الفرعيات والانشغال بها وهكذا([44]).

وزاد تدخل الحكام (وكانت البلاد قد تحولت إلى اقطاعيات كبيرة) الطين بلة (ومع كل جائحة من عداوة وغضب، اسرفت تهم النبذ والتحريم والتكفير والرمي بالباطل ضد الآخر مقدمة للقتل واحراق الممتلكات واتلاف كتب أصحاب المذاهب ومؤلفات فقهائها ونشر الرعب والكراهية.

وفي تاريخ الجائحات تكررت همجية البطش مع كل سلطة جديدة مرة ضد الشيعة، ومرة ضد السنة... ([45]).

وراح الفرد يحاسب على مذهبه؛ فعندما بنى السلاجقة المدرسة النظامية في قبال بناء الازهر من قبل الفاطميين اشترطوا ان يكون المدرسون والتلامذة شافعيين ولذا منعوا الفصيحي الاسترآبادي وهو تلميذ عبدالقاهر الجرجاني من التدريس رغم علمه الجم بالعربية([46]) وأصدر شهاب الاسلام عبدالرزاق رئيس المدرسة النظامية بنيسابور أمراً بقتل الفتال النيسابوري صاحب (روضة الواعظين).

وعند استعراض عوامل جرأة التتار على مهاجمة المسلمين نجد أن النزاع بين الدولة الخوارزمية والدولة العباسية يشكل عاملاً مهماً بالاضافة لدور الصراع المذهبي الرهيب؛ يقول المؤرخ ابن ابي الحديد: «فانهم (اي التتار نزلوا عليها (اي على اصفهان) مراراً في سنة سبع وعشرين وستماءة وحاربهم اهلها وقتل من الفريقين مقتلة ولم يبلغوا منها غرضاً.

حتى اختلف اهل إصفهان في سنة ثلاث وثلاثين وستماءة وهم طائفتان حنفية وشافعية وبينهم حروب متصلة وعصبية ظاهرة.

فخرج قوم من اصحاب الشافعي الى من يجاورهم ويتاخمهم من ممالك التتار فقالوا لهم: اقصدوا هذا البلد حتى نسلّمه اليكم.. فنزلوا على اصفهان في سنة ثلاث وثلاثين (وستماءة) المذكورة وحصروها.

فاختلف سيفا الشافعية والحنفية في المدينة حتى قتل كثير منهم وفتحت المدينة؛ فتحها الشافعية على عهد بينهم وبين التتار أن يقتلوا الحنفية ويعفوا عن الشافعية، فلما دخلوا البلد بدأوا بالشافعية فقتلوهم قتلاً ذريعاً، ولم يقفوا مع العهد الذي عهدوه لهم ثم قتلوا الحنفية، ثم قتلوا سائر الناس وسبوا النساء وشقوا بطون الحبالى ونهبوا الأموال وصادروا الأغنياء ثم أضرموا النار فاحرقوا اصبهان حتى صارت تلولاً من الرماد([47]) وهكذا دامت هذه النزاعات حتى ادت الى سقوط بغداد بعد زمن قصير.

وهذه النزاعات تقودنا الى تذكر نزاعات طائفية أخرى ادت الى تدخل الصليبين الذين صنعوا العجائب والفواجع في العالم الاسلامي.

يقول احد المؤرخين الغربيين لهذه الحروب: «على ان الضعف لم يلحق سوريا فحسب بسبب ما حدث من انفصالها عن جسم الامبراطورية السلجوقية، بل أيضاً بسبب ما انتابها من انقسامات في الداخل، وما تعرضت له من هجمات الخليفة الفاطمي بمصر من الخارج. ففي سنة 1095، تولى الاخوان، رضوان ودقاق، حكم حلب ودمشق على الترتيب، غير ان الحرب لم تلبث ان شبت بينهما، واشترك ياغي سيان امير انطاكية فيما وقع بينهما من المنازعات، ولم يتوقف رضوان وياغي سيان عن مهاجمة دقاق، الا حين بلغتهما الانباء باقتراب الصليبيين، فاسرع ياغي سيان إلى انطاكية، في خريف سنة 1097.

وفي تلك الاثناء لم يتوان الفاطميون في الافادة من هذه المنازعات. إذ ان انشقاقاً دينياً كبيراً، كان يفصل الخليفة الفاطمي في القاهرة، وزعيم المذهب الشيعي، عن الخليفة العباسي ببغداد، وزعيم المذهب السني. وهذا الاختلاف يجوز مقارنته، بما كان بين الكنيستين اليونانية واللاتينية من نزاع. بل انه يفوقه بما غلب عليه من طابع الاختلاف السياسي. وكيفما كان الأمر، فان هذا الاختلاف ادى إلى عرقلة حركة المسلمين مثلما ادى ما بين الكسيوس واللاتين من الحسد والحقد، إلى عرقلة حركة الحرب الصليبية. وادرك الامراء الصليبيون تمام الادراك، الفجوة التي تفصل بين خليفة القاهرة عن الامراء السنيين في سوريا، وسعوا عن طريق مبعوثيهم إلى ان يتصلوا بخليفة القاهرة، املا في ان يظفروا، بفضل مساعدته، ببيت المقدس، التي حكمها وقتذاك نيابة عن الترك سقمان ابن الامير ارتق([48]). غير ان الخليفة (الفاطمي) رأى ان ينفرد بالعمل لنفسه، واستغل ما وقع بين امراء سوريا من حروب، وما اثاره زحف الصليبيين من الخوف والرعب، فاستولى على بيت المقدس (اغسطس سنة 1098) على الرغم من ان زعماء الحملة الصليبية لم يحرزوا شيئا من النجاح في استغلال ما وقع من منازعات بين المسلمين على النحو الذي يبتغونه، فالواقع ان ما اصابوه من النجاح، انما يرجع إلى حد كبير إلى هذه المنازعات»([49]).

وكذلك لنا أن نقرأ قول ابن خلدون عن عهد المستعصم بالله «وكانت الفتنة ببغداد لاتزال متصلة بين الشيعة واهل السنة، وبين الحنابلة وسائر أهل المذاهب، وبين العيارين والدعار والمفسدين»([50])

كما لنا ان نتذكر ان الصراع بين الصفويين والعثمانيين - وكل منهما يتمترس خلف خلفية مذهبية – دام اربعة قرون واورث الأمة خراباً ودماراً، واضعفها امام عدوها الغربي.

هناك نص للشيخ الطوفي من أئمة الحنابلة ذكره للاستدلال على مبدأ (المصالح المرسلة) مقدماً اياه على النصوص والاجماع، لأنه راى ان النصوص متعارضة، والاجتهادات متضاربة، والاحاديث الموضوعة كثيرة. وفي هذا السياق يذكر بعض انماط الصراع في تلك العصور فيقول:

«ان المالكية استقلت في المغرب، والحنفية بالمشرق، فلا يقار احد المذهبين احداً من غيره في بلاده الاعلى وجه ما. وحتى بلغنا أن اهل جيلان من الحنابلة اذا دخل اليهم حنفي قتلوه، وجعلوا ماله فيئاً، حكمهم في الكفار، وحتى بلغنا أن بعض بلاد ماوراء النهر من بلاد الحنفية كان فيه مسجد واحد للشافعية، وكان والي البلد يخرج كل يوم لصلاة الصبح فيرى ذلك المسجد فيقول: أما آن لهذه الكنيسة أن تغلق؟ فلم يزل كذلك، حتى اصبح يوماً وقد سد باب ذلك المسجد بالطين واللبن فاعجب الوالي ذلك»([51]).

والتاريخ يحدثنا عن صور اخرى معبرة عن الحالة المزرية من التعامل الطائفي؛

من قبيل:

- هجوم الغوغاء على بيت الشيخ الطوسي واحراق مكتبته عام 449. ([52])

- والهجوم على مساجد الشيعة عام 483 واتلاف الكتب فيها. ([53])

- وحادثة منع دفن ابن جرير الطبري واتهامه بالالحاد مشهورة

- والاتهامات وانماط التكفير تزخر بها كتب التاريخ

والروايات الموضوعة التي تسفه المذاهب كثيرة.

عوامل الانحراف:

وبنظرة عامة نستطيع القول ان اهم العوامل التي نقلت الحالة المذهبية الى الحالة الطائفية هي:

أولاً: تآمر أعداء الأمة لخلق الظروف الملائمة لتمزيقها بشتى الأساليب من الدس والوضع والتحريك وخلق الفتن وهو تآمر مستمر على مر العصور ومنذ صدر الاسلام وحتى اليوم إذ نلاحظ الاستعمار الغربي يعمل خلال فترات الاحتلال وخصوصاً في الفترة التي احتل فيها العالم الاسلامي كله تقريباً، وقضى على آخر دولة اسلامية شمولية في الربع الاول من القرن الميلادي العشرين، لاحظنا انه اعتمد سياسة ثلاثية تستهدف:

1 ـ ابقاء الامة على تخلفها العلمي والاقتصادي والثقافي والتعليمي وغير ذلك.

2 ـ اشاعة الحالة العلمانية الغربية على الروح الاسلامية في العالم الاسلامي الى جانب تحريك النزعات القومية والعنصرية ولكن سرعان ما فشل مشروعه مما دعى بعض الكتاب المعاصرين لتسميته بـ«النصر سريع الزوال للعلمانية (1920 ـ 1970) »

3 ـ تمزيق العالم الاسلامي الى دول وشعوب متفرقة، وتحريك العنعنات المذهبية الجغرافية والقومية والعنصرية حتى التاريخية كل ذلك خوفا من هاجس الوحدة الاسلامية الذي يجري الحديث عنه والتخوف منه باستمرار من قبل القادة والمفكرين والكتاب الغربيين ويتم التنظير لصراع دائم مع العالم الاسلامي على اساسه تقول الكاتبة هانتر في مقدمة كتابها:

«قامت الرواية التي ألفها جون بوشان، وكان لايزال رائداً في إستخبارات الجيش البريطاني عام 1916، على فرضية قيام ثورة إسلامية، من شأنها، إذا ما اندلعت، أن تقلب مجرى الحرب العالمية الأولى في غير مصلحة القوات الحليفة.

كتب بوشان في روايته، العباءة الخضراء The Green Mantle: «الاسلام عقيدة قتالية، إذ لا يزال ذلك الشيخ يقف في المحراب حاملاً القرآن باليد والسيف المشهور في اليد الأخرى. فإذا افترضنا أن هناك أملاً بالخلاص يعيد الروح حتى إلى الفلاحين في المناطق النائية ويدغدغ أحلامهم بالجنة فماذا سيحدث يا صديقي؟ ستفتح جهنم أبوابها في هذه الأرجاء عما قريب. لدي تقارير من العلماء في كل مكان؛ صغار التجار في جنوب روسيا، وتجار الأحصنة في افغانستان والتجار التركمان، والحجاج في الطريق إلى مكة، والأشراف في شمال أفريقيا، ولابسي جلود الغنم من المغول، والفقراء الهندوس والتجار اليونانيين في الخليج، فضلا عن القناصل المحترمين الذين يستخدمون الشيفرة. هؤلاء جميعاً يجمعون في رواياتهم التي يرسلونها إلي على الأمر نفسه، أن الشرق في إنتظار إشارة إلهية».

بعد ذلك بنحو ثلاثة أرباع القرن، عبر المعلق السياسي الأميركي، تشارلز كراوثمر، عن مخاوف مماثلة عندما قال إن الولايات المتحدة تواجه خطرين جيوسياسيين محتملين، يتأتى احدهما من المنطقة نفسها التي ذكرها جون بوشان في روايته، فهو يتخذ «شكل عالم إسلامي متحد تحت راية أصولية على النمط الايراني تخوض صراعاً وجودياً ضد الغرب الكافر».([54])

وهي من اهم النقاط التي ركز عليها المرحوم السيد جمال الدين في خطته العامة لتحقيق نهضة اسلامية كبرى.

وها نحن نشهد دور اليد الاجنبية الممتدة لتحرك النزاعات الطائفية في باكستان والعراق وافغانستان ولبنان وسائر البلاد التي يتعايش فيها اتباع المذاهب. وربما استخدمت وسائل الاعلام والاقلام والالسنة الماجورة لتحقيق الهدف.

ثانياً: المصالح الشخصية لبعض الزعماء والحكام.

وهو امر شهدناه في عصور الظلام الماضية، ونشهده اليوم ايضاً حيث يستغل البعض نفوذه ليثير البسطاء بل ربما بعض المنتسبين لاهل العلم لتحريك الإحن والنزاعات الطائفية.

يقول احد الكتاب المؤرخين واصفاً بعض حروب الطوائف بتحريك من السلطات الحاكمة:

«وكانت لا تمر سنة دون عنف بين ما وصف بفرق السنة وفرق الشيعة في سائر ارجاء المنطقة العربية الاسلامية فقد تولى الترك بانفسهم عام 249هـ عمليات القمع الطائفي ضد الشيعة... وكان اكثر الضحايا من منطقة (الشاكرية) ببغداد وبنتيجتها هوجم السجن المركزي واحرق احد الجسرين الواصلين بين جانبي الكرخ والرصافة».

ويستمر في الحديث عن دور حكومات الطوائف في تحريك الفتن في مصر، وعن الاقتتال الطائفي بعد قيام حركة الزنج في سواد جنوب العراق، وامتداد النزاع الى المدينة المنورة والى طبرستان، وتواصلت الى شمال افريقيا وهكذا. ([55])

وهناك كتب كثيرة تتحدث عن هذه الظاهرة كمقدمة ابن خلدون وغيرها.

ويكفي ان نذكر بدور النزاع العثماني الصفوي في خلق الفتن الطائفية الداخلية واضعاف الامة الاسلامية مما جر بالتالي الى ان تفقد شوكتها وعزتها امام التحديات.

فلقد سيطرت الدولة العثمانية (1280 ـ 1924م) على الشام وأجزاء من العراق اضافة الى مناطق في شمال أفريقيا، وسيطرت الدولة الصفوية (1506 ـ 1734م) على ايران. وراحتا تتنافسان وتؤكدان هويتهما المذهبية.

مما أفرز نزاعاً طائفياً مقيتاً سببه نزاع المصالح ونهم الغزاة والقبائل والمستبدين لاالمذاهب، وشهدنا استعار موجة التكفير والقتل وإهانة المقدسات في كلا الطرفين.

ونحن إذ نشير الى هذا النزاع لاننكر الخدمات التي قدمتاها للحضارة الاسلامية ولكننا ننعى عليهما استخدام النزعات المذهبية لأغراض سياسية.

واذا كنا ننكر أي اكراه أو عنف للاجبار على تغيير المذهب فاننا ننكره على الطرفين معا وبمستوى واحد.

ثالثاً: التكفير

وتعد هذه الظاهرة من اهم العقبات بوجه التقريب. ورغم ان الاسلام وضح تماماً الحدود الفاصلة بين الكفر والايمان، وحددها بدقة فان هذه الحالة الغريبة حدثت بقوة.

فعن عبادة بن الصامت قال رسول الله (ص):

من شهد ان لا إله الا الله وحده لاشريك له وان محمداً عبده ورسوله وان عيسى عبدالله ورسوله وكلمته القاها الى مريم وروح منه والجنة حق والنار حق أدخله الله الجنة على ما كان من العمل.

وفي رواية ادخله الله من ابواب الجنة الثمانية أيها شاء وروى الشيخان والترمذي: من شهد ان لا اله الا الله وان محمداً رسول الله حرم الله عليه النار. ([56])

وروى سماعة عن الامام الصادق (ع) قوله:

الاسلام شهادة ان لا إله الا الله والتصديق برسول الله، به حقنت الدماء، وعليه جرت المناكح والمواريث، وعلى ظاهره جماعة الناس. ([57])

وربى القرآن الكريم الرسول الكريم(ص) اتباعه على التعامل العقلاني والحوار المنطقي والقبول بالتعددية الاجتهادية اذا كانت على اسس شرعية منضبطة.

الا ان هذه الظاهرة حدثت في ظل ظروف عصبية في مطلع الأمر كما في قضية الخوارج.

واني اعتقد أن أهم ما قاد لهذه الظاهرة هو ما يمكن تسميته بمؤاخذة الاخر بلوازم كلامه رغم ان هذا الآخر لا يؤمن بهذه الملازمة مطلقا.

فقديماً كفر الخوارج علياً عليه السلام معتقدين ان لازم موقفه من التحكيم كفره والعياذ بالله.

فقد ذكروا انه شك في نفسه حين قال للحكمين:

«انظرا فان كان معاوية احق بها فأثبتاه،وان كنت اولى بها فاثبتاني» فاذا هو شك في نفسه ولم يدر أهو أحق ام معاوية فنحن فيه أشد شكا».

ورد الامام عليهم بقوله: «فان ذلك لم يكن شكاً مني، ولكن انصفت في القول، قال الله تعالى: «وانا أواياكم لعلى هدى او في ضلال مبين».

ولم يكن ذلك شكاً وقد علم الله أن نبيه على الحق»([58])

وبعد عصر الأئمة دبت هذه الحالة بوتيرة اوسع وذلك كما لاحظناه في الاختلاف حول (زيادة الصفات على الذات الالهية) و(التحسين والتقبيح العقليين) حيث رأى الطرفان المتنازعان ان الطرف الآخر يقوده رايه الى الكفر وهكذا نجد هذه الظاهرة في قضايا كثيرة من قبيل (التوسل) و(الشفاعة) و(البداء) وحتى في مثل (الاستحسان) و(القياس) و(المصالح المرسلة) وغيرها. في حين لواحتكم الجميع الى الحوار المنطقي لاكتشفوا على الاقل لدى الطرف الآخر ما يبرر له الايمان بهذه القضية او تلك وربما اكتشفوا ان النزاع لفظي لاحقيقة له.

وزاد الجهل والتعصب الطين بلة حيث يدخل في عملية الفتوى من ليس أهلا لها فيفتي بغير ما انزل الله. وهذا ما شهدناه بكل وضوح في الحركات التكفيرية في عصرنا مما ادى الى سفك الدماء البريئة على نطاق واسع باسم الدفاع عن الدين والامة وهما من هذه الحالة براء.

رابعاً: التشكيك في نوايا الداخلين في الحوار فانه لا يحقق الجو الهادىء المطلوب، ويدفع لنوع من التهرب او المماطلة او تلمس العثرات مما يمنع من تحقق النتيجة المطلوبة. وهذا ما شهدنا نظيره في عمليات الحوار بين اتباع الاديان نتيجة ما يحمله كل طرف من تراكمات ذهنية عن الآخر فالطرف المسيحي مثلا يحمل احقاده الصليبية وايحاءات المستشرقين بما يسمونه بـ(الهرطقة الاسلامية) وما يدور في نفسه من هواجس الصحوة الاسلامية التي تنافس مشروعه في السيطرة، في حين يحمل الطرف الاسلامي سوابق ذهنية كبيرة عن خدمة التبشير المسيحي للاستعمار على مدى قرون.

ولكن العمل الجاد والتوجه للتعليمات الاسلامية الهادية والداعية لحسن الظن في الاخ المسلم يمنع من أن يلعب هذا العامل دوره في المنع من التقريب خصوصا اذا تم على مستوى العلماء العاملين الذين خبر بعضهم بعضا في مجالات العلم والاخلاص والعمل في سبيل الامة بمجموعها.

خامساً: التهويل والتضخيم واستحضار الماضي والتهجم على المقدسات وعدم احترام الآخر.

وكل واحد من هذه الامور يمكن ان يشكل بنفسه مانعاً من تحقق الحوار المطلوب وبالتالي الوصول الى التقريب، وقد وجدنا النصوص الاسلامية تتظافر في المنع من هذه الامور:

فقوله تعالى: «قل انما اعظكم بواحدة أن تقوموا لله مثنى وفرادى ثم تتفكروا ما بصاحبكم من جنة»([59]) يمنع من الحوار في الاجواء الانفعاليةالمصطنعة.

وقوله تعالى: «قل لا تسألون عما أجرمنا ولانسأل عما تعملون»([60]) يمنع من الانشغال بالماضي ويفرض احترام الآخر وذلك ايضا واضح في الآية التي تنهى حتى عن سب آلهة المشركين.

سادساً: اضف الى كل ذلك ان اختلاف مناهج الاستدلال وطرق الاستنباط يمنع من التقارب في النتائج فينبغي السعي الى ما يأتي:

1 ـ الفراغ من المفروضات المسبقة قبل بدء عملية الحوار

2 ـ الاتفاق على منهج واحد للاستنباط وليس هذا الاتفاق امراً صعباً.

3 ـ تحقيق محل الحوار بدقة لئلا ينظر كل طرف الى قضية ومفهوم لاينظر اليه الطرف الآخر.

وهناك موانع أخرى من قبيل

1 ـ اعتبار القول الشاذ علامة على المذهب كله.

2 ـ اخذ تصورات المذهب من اقوال خصومه.

3 ـ دخول من ليس اهلاً في عملية الحوار

4 ـ اتباع الاساليب الملتوية للظفر بالآخر

وغير ذلك مما لا يسعنا المجال للتعرض له ولكن يجب حذفه حتى نصل الى التقريب المطلوب بل الضرورة في عالمنا الملتهب.







--------------------------------------------------------------------------------

[1] - معاني الأخبار للصدوق ص 43.

[2] - معاني الأخبار للصدوق ص 59.

[3] - التهذيب ج 17.

[4] - تاريخ الاسلام للذهبي ج9 ص 228.

[5] - طبقات الشافعية الكبرى للشيخ تاج الدين تقي الدين السبكي ج3 ص 51.

[6] - راجع عدة الأصول ج 1 ص 139 وقاموس الرجال ج1 ص 20.

[7] - في بحثه المقدم الى ندوة الفقه الاسلامي بمسقط (شعبان 1408هـ).

[8] - مصادر التشريع ص 80.

[9] - الكفاية في علم الرواية ص 125.

[10] - راجع (الاجازة الكبيرة) للعلامة الحلي.

[11] - موسوعة ابن ادريس تحقيق السيد الخرسان ج1 ص 53.

[12] - منتهي المطلب: المقدمة ص 4 طبعة مشهد.

[13] - اعيان الشيعة للسيد محسن العاملي ج 10 ص 62.

[14] - ن.م،وذكر ذلك في أمل الأمل ج 1 ص 103.

[15] - بحار الأنوار ج 107 ص 191.

[16] - ن.م ص 183.

[17] - رياض العلماء ج 5 ص 185.

[18] - الوسائل ج 5 ص 381.

[19] - الدروس الشرعية طبعة مجمع البحوث الاسلامية – مشهد ج 1 ص 163.

[20] - اعيان الشيعة ج 7 ص 150.

[21] - الكنى والالقاب ج 2 ص 382 - 383.

[22] - رياض العلماء ج، ص 365.

[23] - اعيان الشيعة ج 7 ص 149.

[24] - راجع مثلاً، أمل الأمل ج1 ص 90 ورياض العلماء ج 2 ص 365 ومعجم رجال الحديث ج 7 ص 378.

[25] - كما ذكر ذلك المحدث الجزائري في كتابه (الجواهر الغوالي في شرح عوالي اللآلي) نقلاً عن بعض اولاد الشهيد الثاني «راجع مقال المحققين لكتاب (منية المريد)ص43».

[26] - رياض العلماء ج 2 ص 365.

[27] - اعيان الشيعة ج 7 ص 157.

[28] - تاريخ بغداد للخطيب البغدادي، ج 1 ص 109.

[29] - بحار الانوار، ج 51، ص 357.

[30] - عوالم الامام الصادق للبحراني، ج 2، ص 635.

[31] - الكافي ، ج 2، ص 105.

[32] - وسائل الشيعة، ج 16، ص 160.

[33] - بحار الانوار، ج 85، ص 13.

[34] - تفسير الميزان، ج 7، ص 149.

[35] - وسائل الشيعة، ج 12، ص 6.

[36] - وسائل الشيعة، ج 12، ص 6.

[37] - وسائل الشيعة، ج 11، ص 471.

[38] - الكافي، ج 2، ص 308.

[39] - مختصر المؤمل لشهاب الدين ابي شامة، ص 14.

[40] - التفسير الكبير، ج 16، ص 31 في تفسير الآية 31، من سورة التوبة .

[41] - الامام الصادق والمذاهب الاربعة طبعة مجمع اهل البيت، ج 3، ص 192 .

[42] - راجع كتاب (المعالم الجديدة لعلم الاصول) للامام السيد محمد باقر الصدر .

[43] - راجع مقال الاستاذ الطويل في كتاب قضية الفلسفة، ص 211.

[44] - راجع كتاب (قصة الطوائف) للدكتور الانصاري، فصل الحقبة الطائفية، ص 185.

[45] - ن.م. ص 219.

[46] -معجم الادباء للحموي ج15 ص 67.

[47] - شرح نهج البلاعة لابي الحديد ج8 ص 237 طبعة بيروت.

[48] - حدث في وقت واحد المفاوضات والقتال اثناء الحرب الصليبية الأولى. وجرى ذلك أيضاً في الحرب الثالثة والحرب السادسة. ونلحظ ما قام به العلمانيون من نشاط في توجيه سير الحرب الصليبية. فعلى الرغم من ان هذه الحرب قامت على أساس ديني، فانها اتخذت في سيرها صفة دنيوية. ومن الأمور المتناقضة ان حملة دينية اسهمت في نمو الحافز الدنيوي، وهيأت للعلمانيين ان يفلتوا من ذلك الميل نحو التيوقراطية البابوية، وكان ذلك واضحاً في زمن بابوية جريجوري السابع.

أنظر حبشي: الحرب الصليبية الأولى. القاهرة 1958 ص 126- 127.

William of Tyre Trans. Krey. 1943. Vo.l.pp.223-224 .

[49] - المؤرخ إرنست بارگر في كتابه (الحروب الصليبية) الفصل الثالث ترجمة الدكتور الباز العريني وقد قدم له بمقدمة جيدة.

[50] - العبر وديوان المبتدأ والخبر ج32 ص 536.

[51] - رسالة الطوفي، ص 116.

[52] - المنتظم لابن الجوزي ج16 ص 16 سنة 449.

[53] - تاريخ الاسلام للذهبي ج10 ص 471.

[54] ـ مستقبل الاسلام والغرب. شيرين هنتر تعريب زينب شوربا ص 111.

[55] ـ قصة الطوائف للدكتور فاضل الانصاري ص 233.

[56] ـ ذكرتها الصحاح في اول ما ذكرته من روايات وجمعها صاحب جمع الفوائد في مطلع كتابه.

[57] ـ الكافي، ج2 ص 25.

[58] ـ الاحتجاج للعلامة الطبرسي ج1 ص444.

[59] ـ سبأ 46.

[60] ـ سبأ 25.