تقويم الواقع المتخلف في العالم الإسلامي على ضوء القرآن الكريم
تقويم الواقع المتخلف في العالم الإسلامي على ضوء القرآن الكريم
أ.د. محمد علي آذرشب
أستاذ جامعة طهران
بسم الله الرحمن الرحيم
مقدمة:
دراسة الواقع المتخلف في العالم الإسلامي تدفع إلى دراسة ثقافتنا وحضارتنا، لأن الثقافة بمكوناتها الفاعلة هي التي تدفع نحو صنع الحضارة وإذا وجدتَ أمةً ابتعدت عن المضمار الحضاري فذلك يعود إلى ضعف تلك المكونات الفاعلة.
الثقافة الإسلامية تمتلك كل تلك المكونات الفاعلة. وبهذه المكونات بلغت الأمة الإسلامية قمة رقيها في عصر الازدهار الحضاري. لكن ثمة ظروفاً تاريخيةً واجتماعية تجمّعت لإضعاف تلك العناصر، فضعفت بالتدريج، ثم هبطت بشدّة بعد عصر الغزو الاستعماري الحديث.
غير أنّ هذه العناصر لم تمت، بل لا تزال حيّة بفضل إيمان المسلمين ومعتقداتهم وتعاليم دينهم وقرآنهم وسنة نبيّهم وعباداتهم، رغم انخفاض مفعولها إلى حدّ كبير. وقد تتاح الفرص بين حين وآخر لتستعيد تلك العناصر فعّاليتها، لكن الظروف المرّة الداخلية والخارجية تتكالب عليها لتعيقها عن التحرّك، لكننا مؤمنون بأن المستقبل سيكون في صالح قيم التقدم والازدهار وارتفاع صوت الثقافة الإنسانية الإسلامية.
من الطبيعي أن الإنسان هو الذي يصنع الحضارة، ومن الواضح أن الثقافة هي التي تعيّن طبيعة حركة هذا الإنسان وفاعليته نقف عند بعض عوامل التخلف وبعض عوامل الإحياء، على ضوء دراسات المفكرين والأدباء الإسلاميين الذين انطلقوا من مفاهيم القرآن الكريم ليطرحوا مشاريعهم في هذا المجال.
آراء في أسباب التخلّف الحضاري
من الطبيعي أن تشغل هذه المسألة ذهن كلّ المصلحين والإحيائيين المسلمين، وأن تكون في صدر اهتماماتهم الفكرية والعملية. لذلك نراهم تناولوها من وجهات نظر مختلفة وبيّنوا فيها آراءهم، لكنني بحدود اطلاعي لم أجد دراسة مستوعبة قائمة على أساس منظومة فكرية متكاملة تطرح هذه المسألة وتبيّن عواملها وسبل تجاوزها، وإنّما نرى أفكارًا في هذا المجال تحتاج إلى جهد علمي وفكري لوضعها في منظومة منسجمة متكاملة موجّهة.
كما أنني بحدود اطلاعي لم أجد أقسام دراسات الحضارة الإسلامية في الجامعات تتناول هذه المسألة، بل الاهتمام ينصبّ على دراسة تاريخ الحضارة الإسلامية في عصور انتاجها وحركتها، أما في واقعها ومستقبلها فقلّ أن نرى تناولاً لها.
أذكر هنا بعض آراء الإحيائيين المتأخرين ممن حملوا همّ التخلّف الحضاري في أمتنا.
من أوائل الذين حرّكوا موجة الإحياء في القرن التاسع عشر السيد جمال الدين الأسد آبادي المعروف بالأفغاني (1254هـ/ 1838م – 1314هـ/ 1897م).
هذا الرجل رأى المشكلة كامنةً في السلطة السياسية المهيمنة على العالم الإسلامي سواء كانت قاجارية أم عثمانية أم خديوية، ورأى أن هذه السلطة المستبدة سبب كل فساد في المجتمعات المسلمة.
وأقام مشروعه على ثلاثة محاور:
1ـ يقظة الشرق 2- العودة إلى الإسلام 3- وحدة المسلمين ([1]).
ويعود سرّ نجاحه بخاصة في رأينا إلى:
أ- انفتاحه على الآخر المسلم والغربي، فقد تجاوز التقسيمات العرقية والإقليمية والطائفية بين المسلمين وأصبح ينتمي إلى كلّ الأمة الإسلامية، كما أنه انفتح على الحضارة الغربية، ودعا إلى الأخذ بإيجابياتها.
ب – الجمع بين الأصالة والمعاصرة مما أعاد الأمل إلى النفوس المهزورة بإمكان عودة الإسلام إلى الحياة بلغة العصر وعلى مستوى متطلّبات العصر، وإمكان الإصلاح والنهضة من منطلق إسلامي لا غربي([2]).
ومن طلائع النهضة عبد الرحمن الكواكبي (1271هـ/1855م – 1320هـ/1902م)، وهذا الرجل أيضًا مثل السيد جمال الدين جمع بين الأصل الفارسي (من الأسرة الصفوية الإيرانية) والمحتد العربي (حلب سوريا)، وامتاز بعمق التفكير وبالثورة على الواقع. وذهب إلى أن مشكلة الأمة تكمن فيما سمّاه «الفتور»، وهذا الفتور ناشئ عن فقدان الحرية([3]).
وبالمناسبة أذكر هنا رأيًا آخر لشابّ لم يمهله الأجل لتقديم مشروعه النهضوي وهو أبو القاسم الشابي (1909-1934).
ولو قدّر لهذا النابغة التونسي أن يمتدّ به العمر لكان في مقدمة الإحيائيين المعاصرين. يتحدث عن سبب ما هو مشهود في الساحة البشرية من تفاوت بين الشعوب في ابتكارها وإبداعها وفنونها وآدابها، بين شعب يطفح بالحياة والحيوية وشعب هو أقرب إلى البطالة والفراغ والكسل والخمول، وينقل رأيًا يقول: إنه الحرية. ويرفض ذلك ويرى أنه «يقظة الإحساس» لا الحرية.. «يقظة روحية عميقة سامية تملأهم شعورًا بأنفسهم وبالحياة»([4]).
ولعل أكبر مفكر مسلم اهتمّ بدراسة التخلّف الحضاري في العالم الإسلامي وسبل الإقلاع الحضاري هو مالك بن نبي فقد كرّس أكثر كتاباته على هذا الموضوع، وأقام مشروعه على أساس «بناء الذات ومقاومة مخطط الاستعمار»([5]).
يرى مالك بن نبي أن الحركة الحضارية تنتج من تفاعل «الإنسان» و«التراب» و«الوقت»([6]). وهذا التفاعل يحتاج إلى طاقة روحية لا يمكن أن يوفّرها إلاّ الدين.
ويقصد بالدين أن ينشدّ الإنسان إلى معبود غيبي بالمعنى العام([7]).. أي أن ينشدّ إلى أهداف بعيدة يضع حجرها الأول جيل وتواصل بناءه، الأجيال المتعاقبة.
ونفس الحقيقة يلامسها الإمام الشهيد محمد باقر الصدر إذ يطرح نظرية المثل الأعلى في محاضراته حول التفسير الموضوعي للقرآن الكريم ويرى أن الأمة تتحرك بمقدار ما يملك مثلها الأعلى من طاقة للدفع، فإذا كان مثلها الأعلى هابطًا فإن الأمة تعيش همومها اليوميّة التافهة وتراوح في مكانها. أما إذا كان ذلك المثل الأعلى كبيرًا فإنه يدفع الأمة إلى أهداف كبرى. والدين الحقّ يدفع بالمسيرة الإنسانية لأن تتجه نحو الله سبحانه. والإنسان في حركته نحو الله يسير على طريق غير متناه، ومجال التطور والإبداع والنمو متواصل دائمًا دون توقف([8]).
ويمكن جمع كل الآراء السابقة سواء من رأى أن العامل في التحرّك الحضاري يكمن في التخلّص من «الاستبداد السياسي» أو الذي رأى أنه في «يقظة الشعور» أو «بناء الذات» و«مقاومة الاستعمار» أو الانشداد إلى «المثل الأعلى الحق». يمكن جمع كل تلك الآراء – في اعتقادنا – بعبارة واحدة هي أن عامل التحرّك الحضاري هو «العزّة».
فالعزّة تمنح «الحياة»، وبعكسها الذلّ عامل قهر وموت للإنسان والمجموعة البشرية.
وإذا نشطت روح الحياة في الكائن الإنساني والمجموعة البشرية استيقظ فيها الشعور، وتوفرت عوامل بناء الذات، وتصاعدت روح المقاومة واتجهت نحو الأهداف الكبيرة.
الإحيائيون بمختلف اتجاهاتهم حاولوا أن يغرسوا روح «العزّة» في النفوس، ويزيلوا من أمامها عوامل الإذلال.
العزّة وصناعة التاريخ
كلامنا عن «العزّة» باعتبارها منطلق الحركة الحضارية له ما يؤيده في الدراسات القديمة والحديثة.
لإن اختلفنا مع «فوكوياما» في كتابه نهاية التاريخ والإنسان الأخير في مشروعه الذي يطرحه عن الليبرالية الديمقراطية باعتبارها نهاية التاريخ، نقترب منه كثيرًا في تبنّي نظرية «التيموس» الأفلاطونية لتفسير حركة التاريخ.
والتيموس هو النـزعة الموجودة في نفس الإنسان لأن يعترف به الآخرون، ولا أجد في العربية مقابلاً لهذه النـزعة سوى «العزّة».
«إن رغبة الاعتراف قد تبدو للوهلة الأولى مفهومًا غير مألوف تمامًا، ولكنه في الواقع قديم قدم تراث الفلسفة السياسية الغربية وهو يشكل جزءًا لا يتجزأ من الشخصية الإنسانية. كان أفلاطون أول من وصف هذه الرغبة في الجمهورية، عندما أشار إلى أن الكائن الإنساني يتكوّن من ثلاثة مركّبات: جزء راغب وجزء عاقل وجزء يسميه تيموس (thymos) أو روح الحياة. هناك جزء كبير من السلوك الإنساني يمكن تفسيره من خلال اندماج العنصرين الأولين، الرغبة والعقل: فالرغبة تدفع البشر للبحث عن أشياء موجودة خارج ذواتهم بينما العقل والحساب يبيّنان لهم أفضل السبل للحصول عليها.
ولكن بالإضافة إلى ذلك يبحث الإنسان عن الاعتراف بكرامته الذاتية أو بكرامة الشعب أو الأشياء أو المبادئ التي يشحنها بالكرامة. فالنزوع إلى شحن الأنا بقيمة معينة وإلى طلب الاعتراف بهذه القيمة يتوافق مع ما نسمّيه في اللغة الجارية «احترام الذات». هذا النـزوع لاحترام الذات يولّد من هذا الجزء في الكائن الذي يسميه أفلاطون تيموس. فهو يشبه عند الإنسان نوعًا من الإحساس الفطري بالعدالة.
يعتقد الناس بأن لهم قيمة معينة وإذا ما عاملهم الآخرون وكأن قيمتهم أقل من ذلك فإنهم يشعرون بانفعال الغضب. وبالمقابل عندما لا يرفع الناس حياتهم إلى مستوى ما يعتبرونه قيمتهم، فإنهم يشعرون بالخجل، وأخيرًا عندما يقيَّمون بشكل صحيح يتناسب مع قيمتهم، فإنهم يشعرون بالاعتزاز. فرغبة الاعتراف والانفعالات التي ترافقها ـ الغضب والخجل والاعتزاز ـ تشكل جزءًا لا يتجزأ من حياة أية شخصية إنسانية. وبحسب هيغل إنها محركات السيرورة التاريخية بكاملها»([9]).
وهيغل تبنى هذه النظرية لتفسير حركة التاريخ.. «بالنسبة لهيغل، إن للكائنات الإنسانية، شأن الحيوانات، حاجات ورغبات طبيعية لأشياء خارجة عن ذاتها: الغذاء والشراب والمسكن وكل ما يحافظ على الجسد الذاتي. إلا أن الإنسان يختلف جذريًا عن الحيوانات لأنه بالإضافة إلى ذلك يرغب في «رغبة» الناس الآخرين، أي أنه يريد أن يتم «الاعتراف به» وخاصة يريد أن يعترف به ككائن إنساني، أي كائن مزوّد بكفاءة معينة وبكرامة معينة.
هذه الكرامة ترتبط بالدرجة الأولى بإراداته في احتمال تعريض حياته في صراع من أجل الاعتبار فحسب. فالإنسان وحده يستطيع أن يتجاوز غرائزه الحيوانية الخالصة ـ ومن بينها بشكل رئيسي غريزة البقاء ـ من أجل الالتزام بمبادئ وأهداف أسمى وأكثر تجريدًا.
بالنسبة لهيغل إن رغبة الاعتراف هي التي قادت أول خصمين مصارعين إلى السعي المتبادل كي «يعترف» الآخر بطبيعة الكينونة الإنسانية لخصمه مع تعريض حياتهما في صراع مميت.
وعندما يؤدي الخوف الطبيعي من الموت بأحد المصارعين للخضوع، فإن علاقة السيد والعبد تولد إذ ذاك. إن أسباب هذه المعركة الدامية في بدايات التاريخ، ليست الغذاء ولا المأوى ولا الأمن، ولكن الهيبة والاعتبار وحسب. ولأن سبب هذه المعركة لا يتحدّد بالبيولوجيا، فإن هيغل يرى فيه بالضبط النور الأول للحرية الإنسانية»([10]).
والعزّة لها مكانتها العظمى في الثقافة الإسلامية، ولا نبالغ إذا قلنا إنها أصل أصول الدين، لأنها مقرونة بالحياة. والقرآن يدعو الناس إلى عزّة حقيقية لا تتحقق إلاّ في كنف الله: > مَن كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعًا <. ويحذّر من ابتغاء العزّة عند غير العزيز المطلق : >يَبْتَغُونَ عِندَهُمُ الْعِزَّةَ فَإِنَّ العِزَّةَ لِلّهِ جَمِيعًا< ويقرر الكتاب الكريم أن البشر عطشى للتخلق بأخلاق الله ومنها «العزّة» لكن المنحرفين عن طريق الله (الكافرين) يتجهون إلى السراب ظانين أنه ماء: > وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاء حَتَّى إِذَا جَاءهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا وَوَجَدَ اللَّهَ عِندَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ <
من إفرازات التخلف الحضاري
الحديث عن إفرازات التخلف الحضاري، هو كما ذكرنا، الحديث عن الحالة النفسية للإنسان الذليل والحالة الاجتماعية للمجتمع الذليل، وهذه الإفرازات أو الأعراض أُجملها فيما يلي:
فقدان قيمة الإنسان:
حالة الذل تخلق عقدة الحقارة في نفس الإنسان، والحقارة هي أن لا يرى لنفسه وزنًا ولا قيمة.. ومن الطبيعي أن لا يرى للآخر الذي يعيش في مجتمعه قيمة. ولذلك تنعدم أخلاق الاحترام وحفظ الحقوق في مثل هذا المجتمع، ويصبح الإنسان أرخص شيء فيه، وتُهدر كرامته لأتفه الأسباب.
قصور الفكر المنهجي:
الإنسان المقهور يفقد قدرة التفكير الشمولي المنطقي القائم على منهج علمي، وتصبح تحليلاته للأمور فجّة وناقصة، وتكون مواقفه القائمة على أساس تلك التحليلات مواقف مهزوزه لا تصبّ في مصلحته ولا تتجه نحو مقصد واضح. يشير الكواكبي إلى هذه الحالة فيقول: ([11])
«ليس من شأن الشرقي أن يسير مع الغربي في طريق واحدة، فلا تطاوعه طباعه على استباحة ما يستحسنه الغربي، وإن تكلف تقليده في أمر فلا يحسن التقليد، وإن أحسنه فلا يثبت، وإن ثبت فلا يعرف استثماره، حتى لو سقطت الثمرة في كفه تمنى لو قفزت على فمه!.. فالشرقي مثلا يهتم في شأن ظالمه إلى أن يزول عنه ظلمه، ثم لا يفكر فيمن يخلفه ولا يراقبه، فيقع في الظلم ثانية، فيعيد الكرة ويعود الظلم إلى ما لا نهاية. وكأولئك الباطنية في الإسلام: فتكوا بمئات الأمراء على غير طائل، كأنهم لم يسمعوا بالحكمة النبوية: «لا يلدغ المرء من جحر مرتين»، ولا بالحكمة القرآنية:
)إن الله يحبُّ المتّقين( أما الغربي إذا أخذ على يد ظالمه فلا يفلته حتى يشلّها، بل حتى يقطعها ويكوي مقطعها».
التمزّق الاجتماعي:
ظاهرة التمزّق حالة طبيعيّة لغياب الهدف الذي يجمع الأمة، إذ يكون هدف كل فرد في المجتمع المقهور ذاتياته وأهواءه. والذاتيات الفردية لا تلتقي غالبًا، بل تتصارع المصالح الفردية في حالة غياب المصالح الاجتماعية.
أضف إلى ذلك فإن دافع حبّ الاعتراف تدفع المقهورين للانضمام إلى جماعات لا هدف لها سوى تحقيق الذاتيات أيضًا، غير أن هذه الجماعات إما أن تحمل عنوان قبيلة أو عشيرة، أو تتخذ صفة حزب وجماعة هي _ وإن حملت شعارات قومية أو وطنية ـ لكنها في الواقع عشائرية محضة. ثم إنك ترى داخل هذه الجماعات نوعًا من الارتباط، غير أنه ظاهري لأن كل فرد يعيش همومه الذاتية: ) تَحْسَبُهُمْ جَمِيعًا وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى (.
تكريس الذاتية:
وإذا كان الانكفاء على الذات يحول دون الانفتاح على الآخر، فإن تكريس الذاتية تجعل الفرد في كل المجالات لا يفكّر إلاّ بمصالحه الذاتية حتى في موقفه من أقرب الناس إليه. لذلك قلّ أن تجد عند المقهورين مشاريع عامة، وقلّ أن تجد خططًا ناجحة للتنمية الاجتماعية والاقتصادية، وقلّ أن تعثر على ابتكارات واختراعات لأن كل ذلك يحتاج إلى تجاوز الذات والتفكير في المصحة العامة.
استفحال الشهوات
الإنسان طبعًا له شهوات، ومن الطبيعي أن يكون جزء من وقته مخصصًا لتلبية حاجة هذه الشهوات، ولكن الإنسان الذليل تستعر عنده الشهوات حتى تستوعب كلّ تفكيره ومشاريعه. وللإحساس بالكرامة ارتباط مباشر بانخفاض ضغط الشهوات. وفي النصوص الدينية: «من كرمت عليه نفسه هانت عليه شهواته».
ويرى الكواكبي أن «الأسير» (وهو تعبيره عن المتخلف) لا يعرف من اللذات سوى اللذات البهيمية يقول:
«وهذه الحال تجعل الأسير لا يذوق في الكون لذة نعيم، غير بعض الملذّات البهيمية. بناء عليه، يكون شديد الحرص على حياته الحيوانية وإن كانت تعيسة، وكيف لا يحرص عليها وهو لا يعرف غيرها؟! أين هو من الحياة الأدبية؟! أين هو من الحياة الاجتماعية؟! أما الأحرار فتكون منزلة حياتهم الحيوانية عندهم بعد مراتب عديدة، ولا يعرف ذلك إلا من كان منهم، أو كشف عن بصيرته»([12]).
انسداد منافذ المعرفة
استفحال الذاتية وتضخّمها يجعلها طاغوتًا يقف سدًا أمام الحركة التكاملية نحو الله، ويسدّ منافذ المعرفة، ويحول دون «الاستماع» ودون قدرة انتخاب الأحسن مما يسمع.
وإلى ذلك تشير الآية الكريمة:
] وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ أَن يَعْبُدُوهَا وَأَنَابُوا إِلَى اللَّهِ لَهُمُ الْبُشْرَى، فَبَشِّرْ عِبَادِ، الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُوْلَئِكَ هُمْ أُوْلُوا الْأَلْبَابِ[.
وفي هذه الحالة ينعدم الحوار، لأن الحوار يتطلب قولاً واستماعًا، وإذا انسدت منافذ الاستماع لا يبقى إلاّ القول. حتى في المناظرات. الجانبات يقولان ولا يستمعان. أحدهما يقول بلسانه، والثاني يقول مع نفسه ليردّ على الآخر.
الفتور
وهي حالة الاسترخاء الذي تصيب الأفراد أو الجماعات فلا يظهر عليهم أي ردّ فعل تجاه ما ينزل بهم من إذلال، ويكونون حينئذ أقرب إلى الجسم الميت بسبب ما يشعرونه من هوان. وقديمًا قيل :
من يهن يسهل الهوان عليــه مالجـرح بــميــت إيــــلام
مشكلة الفتور بين الرومي والكواكبي
قصة الناي معروفة في ديوان مولانا جلال الدين الرومي، المعروف بالمثنوي، هذه القصّة التي تتصدر الديوان تشكل عصارة فكر هذا العارف الكبير، وخلاصة مشروعه الاستنهاضي، وأرى ثمة مشتركات كثيرة بين هذا الفكر ومشروع الاستنهاض الذي تبناه الكواكبي. قد يعود هذا التشابه إلى وحدة الدائرة الحضارية في العالم الإسلامي، هذه الوحدة التي جعلت كثيراً من تياراتنا الفكرية والأدبية والثقافية تنطق بلغة واحدة، وصيّر منها كما يقول بعضهم أواني مستطرقة.
ولعلّ ذلك يعود أيضاً إلى مشتركات أخرى توحيها الينا مفردات مثل: تبريز، وحلب، والمولوية، واللغة العربية، واللغة الفارسية، واللغة التركية، والواقع المتخلف، واسترخاء إنسان العالم الإسلامي، وطبيعة روح الاستنهاض في المشروع الإسلامي.
وقفة تحليلية عند قصة الناي
بعد الغزو المغولي للعالم الإسلامي أصيبت الأمة بحالة أشبه ما تكون بالوصف الذي أطلقه الكواكبي على الأمة بعد عصر الغزو الاستعماري الحديث وهو: الفتور العام([13]) .
وكلمة «الفتور العام» ذات دلالات كبيرة، فهي تعني ضعف روح الأمة وحركتها نحو التكامل بعبارة أخرى ضعف الروح الحضارية لدى الأمة.
الفتور العام هو وراء كل تخلّف معنوي ومادّي بين البشر، ويصيب الأمة بعد أن تفقد أهم عنصر من عناصر حيويتها وهو «العزّة».
جلال الدين الرومي في عمليته الإصلاحية يستهدف استنهاض الروح الإنسانية في الموجود البشري، واستثارة الأشواق التكاملية فيه، مع استشعاره بعزّته.
فهو يتحدث عن الناي الذي يشكو ويحكي عن آلام الفراق. فهذا الأنين الذي نسمعه من الناي هي أشواق لأصله الذي انتزع منه يقول:
بشنو از ني چون شكايت مي كند كــزنيستـان تـــامرا بُبريـده انــد
واز جـدائيهــا حكايت مي كند در نفيـرم مرد و زن نـــــاليـده اند
أي: اسمع من الناي إذ يشكو/وعن فراقه إذ يحكي /فما إن قطعوني عن مزرعة القصب/ حتى بدأت أئن ويئن معي الرجال والنساء.
فالموجود البشري يحمل أشواق العودة إلى أصله، وهو من الله، ففيه «نفخة روح ربّ العالمين» : > فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي <ولذلك فهو يحمل أشواق الاتجاه إلى الله.. أي الاتجاه نحو كل ما يتصف به الله من صفات الجلال والجمال نحو العلم والخلق والابداع والجمال والقوّة والعزّة والكرامة والرحمة.. وهذه حقيقة الموجود البشري، والتأكيد على هذه الحقيقة فيه استشعار لعزّة الإنسان، واستثارة لاشواقه نحو الكمال.
الأنين الذي يصدر من الناي هو شوق الكمال الحضاري، وهو جوهر الإنسان، وهو العشق في التعبير العرفاني.
لكنّ هذا الاشتياق نحو الكمال بحاجة إلى إنسان متألم متحسس لابتعاده عن ركب الحضارة الإنسانية، فالإنسان الذي لا يحمل هذا الهم لا يفهم هذا الاشتياق. يقول مولانا في هذه القصيدة:
سينه خواهم شرَحه شَرحه از فراق تا بگويم شــرح دردِ اشتيـــاق
أي: أطلب صدراً يتمزّق من هذا الفراق /لأبثّ له شرح آلام الاشتياق.
ثم ينحو باللائمة الشديدة على من لا يفهمون أسرار هذا الانين، أو أسرار هذا الشوق في الناي. يقول:
آتشست اين بانك ناي ونيست باد هركــه اين آتش ندارد نيست باد
أي: إن صوت الناي هذا هو نار وليس هواء/والموت لمن لا يملك هذه النار.
وهذه النار هي نار العشق.. العشق نحو الكمال.
باختصار الفتور الذي يصيب الإنسان والمجموعة البشرية ناتج عن خمود أشواق التكامل فيه، وهذه الاشواق بحاجة إلى استثارة، ولابدّ قبل هذه الاستثارة من توعية الإنسان على واقعه المتخلف كي يفهم صوت هذه الاشواق.
الفتور العام في فكر الكواكبي
يتحدث الكواكبي على لسان «المولى الرومي» وهو اسم له دلالة على عنوان بحثنا، عن سبب الفتور العام أو التخلف الحضاري بتعبيرنا، فيرى أنها فقدان «الحريّة». ولكن حين يتحدث عن الحرية بمفهومها العام تجد أنها العزّة بالذات. يقول:([14]).
«وعندي أن البلية فقدُنا الحرية، وما أدرانا ما الحرية؟! هي ما حرمنا معناه حتى نسيناه، وحرم علينا لفظه حتى استوحشناه. وقد عرف الحرية من عرفها: (بأن يكون الإنسان مختاراً في قوله وفعله لا يعترضه مانع ظالم). ومن فروع الحرية تساوي الحقوق ومحاسبة الحكام باعتبار أنهم وكلاء، وعدم الرهبة في العدالة بأسرها حتى لا يخشى إنسان من ظالم أو غاصب أو غدار مغتال؛ ومنها الأمن على الدين والأرواح، والأمن على الشرف والأعراض، والأمن على العلم واستثماره، فالحرية هي روح الدين، وينسب إلى حسان بن ثابت الشاعر الصحابي رضي الله عنه قوله:
وما الدين إلا أن تقام شرائع وتؤمن سبــل بيننا وهضاب
هذا، ولا شك أن الحرية أعزّ شيء على الإنسان بعد حياته، وإنّ بفقدانها تفقد الآمال، وتبطل الأعمال، وتموت النفوس، وتتعطّل الشرائع، وتختلُّ القوانين. وقد كان فينا راعي الخرفان حرًا لا يعرف للملك شنآنا يخاطب أمير المؤمنين بيا عمر، ويا عثمان، فصرنا ربما نقتل الطفل في حجر أمه ونلزمها السكوت فتسكت، ولا تجسر أن تزعج سمعنا ببكائها عليه.
وكان الجندي الفرد يؤمّن جيش العدو فلا يخفر له عهد، فصرنا نمنع الجيش العظيم صلاة الجمعة والعيدين، ونستهين دينه لا لحاجة غير الفخفخة الباطلة.
فلمثل هذه الحال لا غرو أن تسأم الأمة حياتها، فيستولي عليها الفتور، وقد كرّت القرون، وتوالت البطون، ونحن على ذلك عاكفون، فتأصل فينا فقدُ الآمال وتركُ الاعمال والبعدُ عن الجد والارتياحُ للكسل والهزل، والانغماسُ في اللهو تسيكنا لآلام أسر النفس، والإخلاد إلى الخمول والتسفل طلباً لراحة الفكر المضغوط عليه من كل جانب. إلى أن صرنا ننفر من كل الماديات والجديات حتى لا نطيق مطالعة الكتب النافعة ولا الإصغاء إلى النصيحة الواضحة، لأن ذلك يذكرنا بمفقودنا العزيز (انظر بدقة إلى عبارة: مفقودنا العزيز) فتتألم أروحنا، وتكاد تزهق إذا لم نلجأ إلى التناسي بالملهيات والخرافات المروّحات.
وهكذا ضعف إحساسنا وماتت غيرتنا، وصرنا نغضب ونحقد على من يذكرنا بالواجبات التي تقتضيها الحياة الطيبة، لعجزنا عن القيام بها عجزا واقعياً لا طبيعياً».
الشعراء وإيقاظ الشعور (الشابي نموذجاً)
الشعور باختصار هو القوّة التي تحرّر الإنسان من الانشداد بما تنشَدّ إليه البهائم، وترفعه ليطوي مراحل كما له.
وكل الخالدين في التاريخ من المصلحين وأصحاب الكلمة والفنانين والشعراء، إنّما خلدوا لأنهم ضربوا على وتر إيقاظ الشعور.
وكلّما كان الشعور لدى هؤلاء الخالدين أقوى كان تأثيرهم في إيقاظ المتلقّين أكثر وكان خلودهم أبقى وأدوم.
والشعراء من أقدر الناس على إيقاظ الشعور، لأنهم يستخدمون "الكلمة" و"الموسيقى". لكنّ العظام منهم يفوقون الباقين بقوّة تأثيرهم على الإيقاظ، لما في صدورهم من لهيب المشاعر التي تتحول إلى كلمات جزلة وأنغام عذبة تدخل القلوب وتثير العواطف والشعور.
قوّة الشعر إذن ليست في قديمه أو حديثه وليست في عربيّه أو فارسيّه، إنما في حرارة لهيبة. وهذا المقال يتناول من دائرة شعراء الفارسية القدماء حافظ وسعدي، ومن دائرة شعراء العربية المعاصرين أبا القاسم الشابي. ورغم ما بين الشيرازيين والشابي من فواصل الزمان والمكان واللغة فهم ينطقون جميعا بلغة واحدة.. لغة يقظة الشعور.
معنى يقظة الشعور:
يقظة الشعور تعني تحرّر الإنسان من ذاتيته وأنانيته لينطلق في حركة تكامليّة يتحدّى فيها العوائق والعقبات ليسجّل الانتصارات في حقل خلق مجتمع أفضل.
كل الأديان دعت إلى تحقيق هذا الهدف الكبير.. لأن فيه إحياءاً للإنسان، وهل الدين إلاّ الإحياء: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اسْتَجِيبُواْ لِلّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُم لِمَا يُحْيِيكُمْ﴾ .
وكان هذا أيضا هدف المصلحين والإحيائيين على مرّ التاريخ.
وإذا أردنا بيان هذه الحقيقة بلغة كتاب الله العزيز فإن الإنسان بالتعبير القرآني مخلوق من "طين" يرمز إلى الجانب الهابط من الموجود البشري ومن نفخة روح ربّ العالمين التي ترمز إلى الجانب المتسامي من الإنسان والى قدرة حركته التكاملية نحو أبعاد لا نهائية.
وفي الإنسان نوازع تشدّة إلى الطين ومهمة الرسالة السماوية أن تنتزع الإنسان من انشدادات الطين لتحلّق به إلى آفاق رحبة يرى فيها حقيقة إنسانيته ويكتسب فيها معرفة بحقيقة الحياة وحقيقة الجمال والكمال.
إيقاظ الشعور بهذا المفهوم يعني إذكاء الجانب المتسامي من الإنسان وتحريكه نحو الآفاق الرحبة من المعرفة والكمال والجمال.
نقف عند بعض محطات إيقاظ الشعور عند شاعر العشق والنهضة التونسي:
تونس والشابي
تونس مؤهلة بما فيها من جمال طبيعي خلاّب أن توقظ الحسّ الجمالي في الإنسان، لكنّ المهمّ أنّ الشابي عاش فترة النهضة في النصف الأول من القرن العشرين (1909-1934)، وهي الفترة التي أعقبت النهضة التي فجّرها السيد جمال الدين الأسدآبادي المعروف بالأفغاني (1838-1897) في العالم الإسلامي بشكل عام وفي مصر بصورة خاصة.
لقد وصلت موجة الأفغاني إلى تونس على يد محمّد عبده (1849-1905)، وكان والد الشابي هو "المثقف التونسي الوحيد الذي تتلمذ على الإمام محمد عبده مباشرة في الجامعة الازهرية بالقاهرة، حيث هاجر خصيصاً لهذه الغاية"([15]) .
ومحمد عبده زار تونس مرتين كانت الثانية عام 1903 "وكانت له ولجمعية (العروة الوثقى) علاقات قوية مع رجال الإصلاح والتنوير التونسيين.
وقد تتلمذ الشابي على عدد منهم، وأبرزهم العلامة الإمام محمد الطاهر بن عاشور"([16]) .
كل هذه كانت حوافز لتوجّه شاعرنا العاشق إلى نهضة قائمة على أساس الإسلام، وزاد من لوعة العشق في نفسه أنه حساس ورقيق النفس:
والشقي الشقي من كان مثلي في حساسيتي ورقّة نفســي
وهذا الشقاء الذي يذكره الشابي ليس هو شقاء الأنانيين الذين يشقون في سبيل الأغراض المادية الصغيرة، وإنّما هو شقاء الإنسان الذي يشعر بثقل الأمانة الكبرى بعد أن أبت السماوات والأرض والجبال أن يحملنها.
لقد انتمى الشابي إلى مدرسة العشق بامتياز في تغنيه بالحب والجمال وفي انتمائه إلى اليقظة الإسلامية عملاً وأدباً، بل إن الشابي على الرغم من الشوط القصير لحياته (26 سنة) يعتبر من رواد النهضة الإسلامية المعاصرة.
يعبّر شاعرنا عن تفاؤله بمستقبل الصحوة الإسلامية في زمانه وتعاطفه معها وابتهاجه بمشاريعها فيقول:
"وفي تونس اليوم نشاهد من آثار هذه اليقظة الإسلامية المباركة غراساًَ زاكياً، نتعشّم (نطمح) فيه خيراً كثيراً، ونرجو أن يؤتي أكُله بعد حين.. وأدعو الأمة التونسية الناهضة لتلبية هذا الصوت الإلهي الذي يتردّد في قلوب المسلمين في جميع نواحي العالم"([17]) .
العشق والنهضة على لسان الشابي
يفرّق الشابي بين ما مصدره الشعور وما مصدره الصنعة، وهذا يصدق في الشاعر:
"تسمع إلى هذا الشاعر فإذا أنت أمام روح إلهي نبيل يسمو بنفسك إلى آفاق الحقّ والفنّ والجمال، ويجعل منك كتلة من شعور قدسي مشبوب. وتسمع إلى آخر فترى أنك تسمع إلى حديث ساذج بسيط لا يميزه عن أحاديث الناس العادية إلاّ رنة النغم وتواتر القوافي وجمال التعبير، وتسمع إلى غيره فتخال أنك تُجلَد بالسياط أو تساق إلى الموت على وجهك"([18]) .
يلاحظ أن الشاعر الأول الذي يذكره الشابي هو العاشق الحقيقي الذي يسمو إلى آفاق الكون الفسيح، ويدعو مخاطبيه إلى هذا السمو بمقدار قدرتهم على التحرر والدخول في التجربة الشعورية للشاعر. أما الثاني فقد استشعر شيئاً من الجمال، لكنه لامَسَ ظاهره ولم يتوغل في أعماقه، أما الثالث فهو الذي يصدر شعره عن روح ميتة مغروسة في أو حال الذاتية، لم يستشعر جمالاً، ولم تدخل قلبَه حرقةٌ أو لهب.
ومثل الشاعر الموسيقار الموهوب الذي "يثير وجدانك ويهزّ عواطف قلبك ويُذكي خيالك إلى أقصى مداه حتى تكاد تستحيل شعلة متوهجة من خيال وذكريات وأحلام" ولكن تجد آخر لا تشعر من موسيقاه سوى حلاوة في الصوت وجمال في المقاطع، ثم هناك من تصغي اليه "فيكاد التثاؤب ينيمك والضجر يقضى عليك".
وبمثل هذا التقسيم ينظر الشابي إلى الشعوب فيرى أن شعباً من "شعوب الأرض، يجدّ ويكدح وينتج ويخصب أينع الثمار وأحلاها، فإذا له حياته الأدبية الناضجة وحياته العلمية الراقية وحياته العادية المهذبة ومشاعره الطامحة إلى ماهو أجلّ من ذلك وأسمى، إلى المثل الأعلى المحجب في ظلام المجهول.
وهذا شعب آخر، منصرف إلى التبطل، والفراغ، مُخلد إلى الكسل والخمول، لا يعمل، ولا ينتج، ولا يجود على الانسانية بخير، ليس له فن ولا علم، ولا أدب ولا طموح، بل ولا حياة... أيضاً، إلا كما تحيا ماشية الحقل وآبدة الجبل...".
بعد هذا التفريق بين شاعر وشاعر، وموسيقي وموسيقي، وشعب وشعب، يرى الشابي أن الفرق في كل ذلك يعود إلى "يقظة الإحساس".
وهذا هو الذي يميّز كبار الشعراء والفنانين والشعوب عن غيرها بما في ذلك الأمة الإسلامية التي "كانت بالأمس رائد العالم ورسول المدنية والنور، حين كانت روحها مستيقظة ناهضة، وإحساسها مضطرماً مشبوباً. ثم أمست في آخر القافلة الإنسانية نائمة تلوك أحلام الماضي، تبلّد إحساسها وفقدت شعورها بنفسها وبالحياة. ثم هاهي اليوم تحاول النهوض واليقظة ثانية لأن روحها قد أخذت تستيقظ من جديد"([19]) .
وفي عبارة أكثر صراحة ووضوحاً يذكر الشابي الارتباط بين ازدهار الآداب والفنون التي هي التعبير الفني للعاشقين وبين الثورة التي هي التعبير العملي للعاشقين.
يقول: "ثم إن هناك ظاهرة قد تكون لأول وهلة غريبة ومثاراً للحيرة والتساؤل وهي أن الآداب والفنون، كثيراً ما تزدهر في عصور الثورات والانقلابات وبين الجماجم المنثورة والدماء الجارية. بل وربما كانت أحياناً أبهى منظراً وأعبق شذى وأنطق بمعاني الحياة من آداب الراحة والأمن والسلام وفنونها. أما أنا فلا أراها غريبة ولا مدهشة، بل أراها نتيجة منطقية ومعقولة لنفسية الأمة الجائشة، لأن الثورات لا تحدث إلا والنفوس أكثر إحساساً بالحياة وملل من الحاضر، وشوق إلى المستقبل، وطموح إلى المجهول... وتلك هي يقظة الإحساس بمعناها الشامل العميق. وإن شعباً يكون مستيقظ المشاعر متسع جوانب الحياة، لجدير بأن يستخرج خير ما في الطبيعة من فن وحق، وإن فناً يكون مصدره تلك اليقظة الروحية العميقة التي سميناها "يقظة الإحساس" لهو الفن الحي في صميمه، الفن الذي لا ينصرف إلى القشور ولا يقنع بما دون اللباب".
ويلاحظ في النص تعابير: الثورة، والحياة، والنفسية، الجائشة، والملل من الحاضر، والطموح إلى المجهول، ويقظة الاحساس،والعطش الروحي، وروح الحياة المنتجة، ونيران النبوغ. وكل هذه التعابير معالم للمنظومة الفكرية والحضارية للشابي التي ترى الثورة أو النهضة والعشق ينطلقان من نبع واحد هو تحرر الشعور من القيود التي تكبّله والقشور التي تغطّي على رؤيته الواقعية.
نخلص من كل ما تقدم أن الثقافة الإسلامية تمتلك كل عناصر التفعيل الحضاري وإنقاذ الأمة من حالة التخلف، ولكن يجب تفعيل هذه العناصر التي ركدت بسبب ظروف تاريخية مرت على العالم الإسلامي.
وهنا نؤكد على ضرورة أن تكون الدراسات الجامعية بشأن الحضارة الإسلامية غير مقتصرة على تاريخ هذه الحضارة، بل على واقعها ومستقبلها أيضًا، إنطلاقاً من مفاهيم القرآن والسنة ومسيرة الإحيائيين وتجارب الماضي بايجابياته وسلبياته.
[1] - سالشماري علامه سيد جمال الدين أسد آبادي، علي اكبر ذاكري، عروة الوثقى، مجمع جهاتي تقريب بين مذاهب إسلامي 1375ش (فارسي).
[2] - دور السيد جمال ا لدين في الأدب العربي الحديث، محمد علي آذرشب، مقال في المصدر المذكور أعلاه.
[3] - أم القرى، ص 58، وما بعدها، دراسة وتحقيق محمد جمال الطحان، ط 1، دمشق 2002م.
[4] - الشابي، المجلد الثاني، مؤسسة جائزة عبد العزيز سعود البابطين للإبداع الشعري، إعداد محمد الحليوي، ط1، تونس 1994.
[5] - ثقافة المقاومة بين العودة إلى الذات ونموذج الوعد الصادق، محمد حسن يزي، ثقافتنا، العدد 15 ص 119.
[6] - شروط النهضة، ترجمة عمر كامل مسقاوي وعبد الصبور شاهين، ط4، دمشق 1987، ص 49
[7] - المصدر نفسه/ 56 .
[8] - مقدمات للتفسير الموضوعي للقرآن، ط 1، بيروت 1400هـ، ص 129 – 152.
[9] - نهاية التاريخ والإنسان الأخير، فرانسيس فوكوياما، ترجمة فؤاد شاهين وآخرون، مركز الإنماء القومي، بيروت 1993، ص 27-28.
[10] - المصدر نفسه، ص 27.
[11] - عودة الكواكبي، د. محمد جمال الطحان، طبائع الاستبداد، حلب، 2006م، ص 431.
[12] - طبائع الاستبداد، مصدر مذكور، ص 420.
[13] - أم القرى، الاجتماع الثاني (الداء أو الفتور)، ص 51 وما بعدها، دراسة وتحقيق د. محمد جمال الطحان، ط1، دمشق 2002م.
[14] - أم القرى، مصدر مذكور، ص 58 وما بعدها.
[15] - مقدمة نثر الشابي، القسم الأول، إعداد وتقديم أبو القاسم محمد كرّو، دار صادر، بيروت، ص 10.
[16] - نفس المصدر، ص 10.
[17] - مقال: اليقظة الاسلامية المعاصرة، المصدر السابق، ص 82 – 83 .
[18] - نـثر الشابي/ ص 93.
[19] - نـثر الشابي/ ص 96 .