الوحدة الإسلاميّة و الصّحوة الإسلاميّة وتقريب المذاهب
الوحدة الإسلاميّة و الصّحوة الإسلاميّة وتقريب المذاهب
الأُستاذ محمّد واعظ زاده الخراسانيّ
بسم الله الرحمن الرحيم
مقدمة
الحمد لله ربّ العالمين، والصّلاة والسّلام على نبيّنا محمّد خير خلق الله وخاتم النّبيّين، وعلى آله الطّاهرين وصحبه المنتجبين والتّابعين لهم بإحسان إلى يوم الدّين.
لا ريب في أنّ من جملة الطُّرق الموصلة إلى الصّحوة الإسلاميّة علميًّا وسياسيًّا واقتصاديًّا ومن سائر الجهات: هي الوحدة الإسلاميّة واتّحاد الأُمّة كما قال الله تعالى: (اِنَّ هٰذِهِ اُمَّتُكُمْ اُمَّةً وَاحِدَةً وَاَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ) الأنبياء : 92، وأنّ الاختلاف والتّفرقة هما من أهمّ أسباب النّكسة والتّأخّر عن موكب القدرة والعظمة.
وعلماء الأُمّة وقادتها المصلحون في جميع الأعصار كانوا يدعون ويصرّون على الوحدة، والاجتناب عن الفرقة.
والمراد بالاختلاف ليس مطلق ما يقتضيه الاجتهاد من الآراء الفقهيّة، فإنّ الإسلام أجاز الاجتهاد في المسائل الفرعيّة الّتي لا نصّ عليها صريحًا في الكتاب والسّنّة، وهذا النّوع من الاختلاف من لوازم الاجتهاد في الفروع، وينبغي أن لا ينتهي إلى تفرّق الأُمّة، لأنّ جميع الآراء المتخالفة ناشئة عن الاجتهاد وعن الدّليل الّذي اعتبره صاحب
كلّ رأي.
وينبغي أن نعترف بأنّ الإسلام أنّما منع الاختلاف الموجب للتّفرقة كما قال تعالى: (واعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَميعًا ولَا تَفَرَّقُوا)، (ولَا تَكُونُوا كَالَّذينَ تَفَرَّقُوا واخْتَلَفُوا)
آل عمران : 103 و105، وهذا هو الاختلاف الّذي نهى الله عنه في كتابه مرّات.
وحقيقة التّفرقة هي قلب الأُمّة الواحدة فرقًا متعدّدة بحيث صاروا أعداءً بدل كونهم إخوانًا، كما تبدّلت الأُمّة الإسلاميّة مع الأسف إلى فرقٍ مختلفةٍ عملًا وعقيدةً كأُمم شتّى.
والحقّ أنّ السّبب لتفرّق هذه الفرق إذا كان الاجتهاد الصّحيح المستند إلى دليل من الكتاب والسّنّة والإجماع وغيرها من الأدلّة، فينبغي أن لا ينتهي إلى الفرقة والعداوة فيما بينهم، فإنّ الاختلاف في المسائل الفقهيّة والكلاميّة موجود بين جميع المذاهب الإسلاميّة حتّى في مذهبٍ واحدٍ بين المجتهدين من نفس المذهب.
وهذا ما اعترف أتباع المذاهب الأربعة من أهل السّنّة، فلا بدّ أن نعترف أيضًا بأنّ الاختلاف الموجود فقهًا وكلامًا بينها وبين سائر المذاهب من أهل السّنّة كالأباضيّة والسّلفيّة، والمذاهب المعروفة من الشّيعة كالإماميّة الإثنى عشريّة، والزّيدّية، والإسماعيّليّة، فإنّ هذه المذاهب وإن كان بينها وبين المذاهب الأربعة اختلاف في بعض المسائل الكلاميّة ومن أهمّها مسألة الخلافة والإمامة إلّا أنّها في المسائل الفقهيّة الّتي ليس فيها نصّ صريح من الكتاب والسّنّة، لهم أحاديث عن طريق أئمّة أهل البيت : المنتهية إلى النّبيّ (ص).
فحالهم كحال المذاهب الأربعة سواء، وأعني أنّ اختلافهم فيما بينهم، وكذا مع أهل السّنّة مستند إلى دليل معتبر عندهم، وإن لم يكن هذا الدّليل معتبرًا عند غيرهم.
وإذا كان الأمر كذلك فلا ينبغي لأهل السّنّة نسبة هؤلاء إلى البدعة أو الخروج من الإسلام، ولا شتمهم والهجوم عليهم: ضربًا وقتلًا ، كما لا يجوز لهؤلاء أيضًا شتم أئمّة أهل السُّنّة، وتحقيرهم والإساءة عليهم فقد منع علماء الشّيعة وأئمّتهم قديمًا وحديثًا عن ذلك، فما شاع بين العوامّ من ذلك فهو مردودٌ من ناحية العلماء المصلحين من الشّيعة بجميع مذاهبهم.
سير الدّعوة إلى الوحدة الإسلاميّة والتّقريب بين المذاهب
وبعد هذه المقدّمة نطرح سير الدّعوة إلى الوحدة الإسلاميّة في القرنين الأخيرين من قبل القادة والعلماء المصلحين من أجل استيلاء المستكبرين الأجانب على المسلمين.
وكلّ من له حظّ من فكر الوحدة الإسلاميّة والاهتمام بالإصلاح يعلم أنّ الّذي بدأ بهذه الدّعوة هو العلّامة الكبير السّيّد جمال الدّين الأسد آباديّ المعروف بالأفغانيّ الّذي وُلد في أُسرة علميّة هاشميّة في أسد آباد من بلاد إيران، وتعلّم العلوم الدّينيّة في إيران ثمّ في النّجف، وكان له اهتمام كبير باستخلاص الأُمّة الإسلاميّة من يد الاستكبار العالميّ، وعلى رأسهم حين ذاك انگلتری، وقد أدرك السّيّد أنّ هذه الأمنيّة لا تتمّ إلّا بدعوة الأُمّة إلى الصّحوة والوحدة، فرأى من المصلحة أن يبدء هذه الدّعوة من بلاد أهل السّنّة كعالم سنّيّ مصلح، ولهذا حين رجع من النّجف إلى بلده أسد آباد توقّف فيها يومين فقط والتقى بأبيه وأُسرته، ثمّ هاجر إلى أفغانستان، وبدأ فيها دعوته الإصلاحيّة سنين عديدة ثمّ سافر إلى الهند والتقى برجالٍ مصلحين عارفين بالثّقافة الأُوربيّة عند استيلاء انگلتری البلاد الهنديّة وانتشار ثقافتها بين أبنائها، وللسّيّد أخبار كثيرة من الهند في تاريخ حياته، ثمّ سافر إلى مصر وبقي فيها حوالي ثمان سنين، وكان يدرّس علم الكلام لجماعةٍ من طُلّاب الأزهر الشّريف ممّن عُرف فيما بعد أُستاذًا وشيخًا للأزهر، أو صار من رجال السّياسة، وكلّهم تأثّروا بالسّيّد جمال في فكرة الإصلاح والدّعوة إلى الوحدة بين المسلمين.
وكان من أكبرهم علمًا وفكرًا العلّامة الكبير الشّيخ محمّد عبده ;، فلازم أُستاذه سنين وسافر معه إلى انگلتری، ثمّ رجع إلى لبنان، ثمّ إلى مصر داعيًا إلى الإصلاح.
فرأى أنّ المسلمين لا يعرفون الإسلام كما هو، فبدأ بتفسير القرآن في الأزهر الشّريف، وكان من جملة حاضري هذا الدّرس الأُستاذ رشيد رضا صاحب تفسير المنار الّذي هو تقرير درس الأُستاذ، لكنّه لم يتمّ وانتهى إلى 12 مجلّدًا وإلى الآية الخمسين من سورة يوسف.
وهذا التّفسير هو بيان لآراء شيخ محمّد عبده العلميّة والإصلاحيّة، وأكثر ما أ لّف في التّفسير بعده فقد تأثّرت به.
تأسيس دار التّقريب
وبعد موت الشّيخ محمّد عبده عام 1323. هـ . تصدّى جملة من تلامذته الدّعوة إلى الإصلاح وإلى وحدة الأُمّة، ومنهم من كان شيخًا للأزهر الشّريف مثل الشّيخ عبد المجيد سليم، وتلميذه العلّامة الشّيخ محمود شلتوت شيخ الأزهر أيضًا.
وفي أيّامه هاجر من إيران إلى مصر عالم جمع بين الثّقافة الحوزويّة القديمة في بلده (قم) وبين الثّقافة الجامعيّة الحديثة في طهران، وهو العلّامة الشّيخ محمّد تقيّ القُمّيّ، فإنّه عاش سنينًا في لبنان ليتعلّم التّكلّم والكتابة باللّغة العربيّة جيّدًا، ثمّ دخل مصر والتقى بجماعة من أساتذة الأزهر وشيوخها وعلى رأسهم العلّامة الشّيخ عبد المجيد سليم، والعلّامة الشّيخ محمود شلتوت رحمهما الله تعالى، واتّفقوا على تأسيس دار التّقريب بين المذاهب الإسلاميّة، وسمّوا جماعتهم (جماعة التّقريب) وبدأوا بإرسال الدّعوة إلى البلاد الإسلاميّة ورجالها المصلحين، ومنها إيران البلد المسلم، فأرسلوا دعوتهم إلى العلماء في بعض البلاد، وكان منهم والدي الشّيخ مهدي الواعظ الخراسانيّ _ وكان واعظًا معروفًا _ وقد كنت شابًّا متعلّمًا للعلوم الإسلاميّة فأرسلوا إليه الدّعوة ثمّ مجلّة (رسالة الإسلام) فكُنت متّصلًا بدار التّقريب ومجلّتها منذ نشأتها، وقد أعطوا الأمانة العامّة لدار التّقريب إلى العلّامة القُمّيّ.
وكان من أعمال دار التّقريب المهمّة نشر مجلّة باسم (رسالة الإسلام) وكان مدير التّحرير الشّيخ محمّد محمّد المدنيّ، ومدير الإدارة العلّامة الشّيخ عبد العزيز عيسى الّذي كان أوّلًا وكيل الأزهر، ثمّ صار وزير شؤون الأزهر، وقد اتّصلت به في مصر، وكان صديقًا لي.
وليست بين المجلّات الإسلاميّة مجلّة بهذا المحتوى من حيث عمق المقالات، ومن حيث علو درجات الّذين كانوا يكتبون المقالات من علماء السُّنّة والشّيعة من جميع المذاهب. وقد نشر منها 60 مجلّدًا ثمّ انتهت كما أنّ دار التّقريب نفسها انتهت بارتحال مؤسّسيها واحدًا بعد الآخر إلى الدّار الآخرة يرحمهم الله تعالى جميعًا رحمة واسعة.
والكلام في أعمال دار التّقريب طويلٌ لاسيّما فيما نشرته من الكتب، ومن أهمّها تفسير (مجمع البيان) للشّيخ الطَّبْرسيّ، وهو من أعظم تفاسير الشّيعة الإماميّة.
وقد جمع المؤلّف في تفسيره آراء الصّحابة والتّابعين رضوان الله تعالى عليهم ومن بعدهم، وجمع فيها أحاديث وآراء أئمّة أهل البيت.
وكان له التفات إلى احترام جميع المذاهب الإسلاميّة، وفي أوّل هذا الطّبع، مقال كبير للشّيخ محمود شلتوت، ومقال للشّيخ محمّد تقي القُمّيّ، وفي آخره خاتمة للشّيخ عبد العزيز عيسى الّذي كان يُشرف على تصحيح هذا التّفسير مع جمع من العلماء. وكلّهم يصفون هذا التّفسير بالإتقان والتّقريب والاحترام بآراء الآخرين.
الإمام البروجرديّ ودار التّقريب
وكان من أعظم من دعا إلى التّقريب من المراجع الكبار في بلدة (قم) الإمام السّيّد حسين البروجرديّ الطَّباطَبائيّ أُستاذنا الكبير ; فقد اتّصل بدار التّقريب، واستمرّت الرّسالات بينه وبين العلّامة الشّيخ محمود شلتوت وغيره من العلماء، وقد انتشرت تلك الرّسالات في مجلّة (رسالة الإسلام).
وكان الشّيخ محمّد تقي القُمّيّ أمين دار التّقريب يزور الإمام البروجرديّ ويأخذ منه التّوصيات، وكان رسولًا بينه وبين شيوخ التّقريب، وقد رأيته مرّات في بيت الإمام البروجرديّ، وكان بيننا صداقة ومحبّة عميقة.
وكان الإمام البروجرديّ _ مادام حيًّا _ يرسل مخارج مجلّة (رسالة الإسلام) وحينما راح إلى رحمة الله تعالى توقّفت هذه المجلّة.
وكانت لهذا الإمام طريقة خاصّة به للدّعوة إلى التّقريب من سبيلين:
الأوّل: أنّه كان يحكي في مجلس درسه في الفقه خلال آراء مذهبه في المسائل المهمّة، آراء جميع المذاهب الفقهيّة مع دليل كلّ مذهب ويناقش فيها وقد يؤيّدها.
الثّاني: أنّه كان يدعو تلاميذه وغيرهم من العلماء إلى التّأكيد على حديث الثّقلين المعروف الّذي قال فيه النّبيّ (ص): «إنّي تارك فيكم الثّقلين كتاب الله وعترتي...»، وهناك في حديث آخر «كتاب الله وسنّتي» وكلاهما مرويّان من طريق الفريقين، ولا ريب أنّ أصل الأحكام مأخوذ من الكتاب والسُّنّة، والشّيعة الإماميّة يقولون قديمًا وحديثًا: (أدلّة الفقه أربعة الكتاب والسُّنّة والإجماع والعقل)، وأهل السُّنّة يذكرون القياس بدل العقل، فهذا دليلٌ على اعتبار السّنّة لدى الشّيعة أيضًا، إلّا أنّهم يعتبرون قول العترة أيضاً دليلاً بعد النّبيّ (ص) استنادًا إلى (حديث العترة) فإنّهم جمعوا بين الحديثين (السّنّة والعترة).
وقد أشار هذا السّيّد المعظم بتأليف رسالة (حديث الثّقلين)، وأرسلها إلى دار التّقريب، ونشرتها دار التّقريب وبعد نشرها رأى الشّيخ محمود شلتوت شيخ الأزهر ومشايخه أنّ فقه الشّيعة له دليل خاصّ من قول النّبيّ (ص) وهو حديث (كتاب الله وعترتي) فوجد الشّيخ شلتوت طريقًا إلى الفتوى باعتبار فقه الشّيعة، وأنّ لتابعي المذاهب الأُخرى أن يعتبروا فقه الشّيعة ويُقلّدونه. وقد نشر خبر هذه الفتوى في (رسالة الإسلام) أيضًا.
وكان بعد ذلك في إيران عديد من العلماء في البلاد يدعون إلى التّقريب وكان منهم الإمام السّيّد روح الله الخمينيّ رضوان الله تعالى عليه، والعلّامة الكبير الإمام السّيّد صدر الدّين الصّدر _ والد الإمام موسى الصّدر _ وكانا حين ذاك من الأعلام في بلدة قم ومن المدرّسين الكبار.
المجمع العالمي للتّقريب
ودامت هذه الدّعوة سنينًا إلى أن قامت الثّورة الإسلاميّة في إيران بسعي الإمام الخمينيّ، فكان دائمًا يدعو إلى وحدة الأُمّة، وإلى نفي التّفرقة بين السّنّة والشّيعة إلى أن توفّى، ونال الإمام السّيّد عليّ الخامنئي حفظه الله إمامة الثّورة، فقد كان (كالإمام الخمينيّ) يدعو إلى الوحدة إلى أن أسّس (نظير دار التّقريب) مؤسّسة باسم (المجمع العالميّ للتّقريب بين المذاهب الإسلاميّة) وكلّفني إدارة هذا المجمع، فوفّقني الله تعالى حيال 11 سنة في المجمع بأعمال منها تأسيس جامعة كبيرة باسم (جامعة المذاهب الإسلاميّة) في طهران وبعض البلاد.
ومنها نشر مجلّة عربيّة باسم (رسالة التّقريب) ولا تزال تنشر، ومجلّات فارسيّة وبلغات أُخرى، كما وفّقني الله تعالى بتجديد طبع تفسير (مجمع البيان) المطبوع في مصر بالأُفست مع مقدّمة، وبنشر دورة كاملة من (رسالة الإسلام) في 15 مجلّدًا بالأُفست أيضًا مع مقدّمةٍ لي.
وبكتب عديدة أُخرى منها تجديد طبع (رسالة حديث الثّقلين). وبعد هذه السّنين أُعطيت الأمانة العامّة للمجمع إلى العلّامة التّسخيري حفظه الله تعالى.
وأخبار هاتين المؤسّستين: (دار التّقريب والمجمع العالمي للتّقريب) كثيرة ومكتوبة في الكتب، ونكتفي بهذا المقدار، وآخر دعوانا أن الحمد لله ربّ العالمين.