المنهج التكفيري وحده المسؤول عن تمزيق وحدة المسلمين

المنهج التكفيري وحده المسؤول عن تمزيق وحدة المسلمين

 

 

المنهج التكفيري وحده المسؤول عن تمزيق وحدة المسلمين

 

الشيخ حسن البغدادي

م. ملف إحياء التراث الشيعي في حزب الله

 

تمهيد:

من يقرأ تاريخ المذاهب الإسلامية من نشأتها وإلى يومنا هذا، لا يرى أنها كانت سبباً في مشاكل المسلمين، بل على العكس كان التعدّد المذهبي فرصة لحلّ مشاكل المسلمين، وكانت المودة والاحترام التي تحكم علاقة علماء المذاهب فيما بينهم، بحيث يصعب معها على الخصم أن يعرف انتماءاتهم المذهبية؛ فعلى سبيل المثال: العلامة الخواجة نصير الدين الطوسي صاحب كتاب (تجريد الاعتقاد)، نلاحظ أنّ ثلاثة من علماء المذاهب الإسلامية قد شرحوا الكتاب، وهم البيهقي والأصفهاني والقوشجي. كما نجد أحد علماء السنة يُصنّف كتاباً في (الأصول) فيُدرّسه عالم كبير ومحقق لامع هو المحقق الأردبيلي، ويحضر عليه العالمان الفاضلان الشيخ حسن (صاحب المعالم) نجل الشهيد الثاني، والسيد محمد الموسوي (صاحب المدارك). ونجد أنّ الشيخ الكليني يدرس على كبار علماء أهل السنة وهو أيضاً يُدرّس علماء أهل السنة، والشيخ الصدوق يعيش في (بلخ) وينقل عن مئتين وستين شيخاً من تلك المنطقة وفيهم الكثير من مشايخ أهل المذاهب الإسلامية.

وقد عبّر عن شيخ الطائفة الشيخ الطوسي أحدُ علماء الشافعية، قائلا: "الشيخ الطوسي عالم شيعي، لكنه من علماء الشافعية".

هذه هي الروحية التي كانت ولازالت تحكم ذهنية وعلاقة علماء المذاهب الإسلامية، ولا نريد أن نفسح بالمجال للمرتزقة الجهلة أن يحكموا مسار المسلمين خدمة لأسيادهم.

وبالعودة إلى نشأة المذاهب الإسلامية نلاحظ أنّ شيخ المذاهب الإسلامية أبو حنيفة ومعه مالك بن أنس قد درسا على رئيس المذهب الجعفري الإمام جعفر بن محمد الصادق (ع)، وكانا من مجموعة ما يزيد على أربعة آلاف تلميذ كلّ يقول: "حدثني جعفر بن محمد"، وجميع رؤساء المذاهب يحترمون أهل البيت (ع) ويشهدون بفضلهم، وللشافعي قصائده الشهيرة بحب أهل النبوة (ع).

وبالعودة إلى علماء المذاهب الإسلامية لم نجد ما يُفرّق بينهم سوى الاختلاف بالرأي الذي هو منطق طبيعي تجده داخل المذهب الواحد وفي مقدمتهم المذهب الجعفري، وعلى عكس ذلك تراهم يتدارسون على بعضهم ويتناقشون كما أسلفنا قبل قليل، وهذا ما أطلق عليه بالفقه المقارن أو فقه الاختلاف. وكانت هناك طريقتان:

- طريقة الشيخ الطوسي ومن تبعه كالعلامة الحلّي، عندما كتبوا في فقه الاختلاف، (كالخلاف) للشيخ الطوسي، كانت هذه المدرسة تعتمد أسلوب كتابة آراء علماء المذاهب الإسلامية.

- المدرسة الثانية، مدرسة الشهيد الأول الشيخ محمد بن مكي الجزيني، وهو وإن وُلد في سنة وفاة العلامة الحلّي سنة 729 هـ  وتأثّر بمدرسته حيث تخرّج على تلاميذه وفي مقدمتهم نجله فخر المحققّين، إلاّ أنه سار على أسلوب آخر في المنهج التقريبي، وهو العلاقة المباشرة مع علماء المذاهب الإسلامية من خلال الدرس والمباحثة وعقد مجالس العلم والمذاكرة، عبّر عن هذا الاتجاه في إجازته لابن الخازن الحائري في دمشق، قائلاً: "إنّي قرأت على أربعين شيخاً من علماء المذاهب الإسلامية وفي مختلف الأمصار"، وسار على ذات النهج الشهيد الثاني الشيخ زين الدين الجباعي، الذي قرأ على أكثر من خمس وعشرين عالماً من علماء المذاهب، ووصل به الأمر في أواسط القرن العاشر هـ أن يزور عاصمة الدولة العثمانية لأجل لقاء الفقهاء القريبين من السلطان، وبالفعل أنتجت هذه الزيارة إلى أن يتصدّى للتدريس طبق المذاهب الإسلامية الخمسة في المدرسة النورية بمدينة (بعلبك)، ضمن إطار نشر فقه الخلاف وتعبيد الطريق أمام المنهج التقريبي، لقطع الطريق أمام النفوس الرخيصة التي تعمل على بث التفرقة والنزاع، وحتى لا تفسح بالمجال أمام القوى الظلامية للنيل من وحدة المسلمين.

وفي أربعينات القرن الماضي نجد تجربة دار التقريب في القاهرة الذي أنتج أجمل العلاقات بين مشيخة الأزهر الشريف وكبار علماء الشيعة من إيران السيد حسين البروجردي، ومن العراق الشيخ محمد حسين آل كاشف الغطاء، ومن لبنان السيد عبد الحسين شرف الدين، حيث تجلّت الوحدة الإسلامية وقبول الآخر في أسمى تجلياتها، فصدر عن الدار مجلة (رسالة الإسلام)، وكانت نموذجاً رائعاً في طرح مشاكل المسلمين ومناقشة آراء بعضهم البعض من دون أي تذمّر. ولا أنسى ذلك الحوار الذي جرى بين الشيخ محمد جواد مغنية وشيخ الأزهر في مسألة (الهدي)، فقد ذهب شيخ الأزهر إلى التصدّق بثمن (الهدي) عند عدم التمكن من الذبح في منى، وردّ الشيخ مغنية على هذه الفتوى بطريقة علمية وبمناقشة لم تخرج عن دائرة النقاش العلمي ولم يُفسد هذا الحوار المودة وطلب الحقيقة.

كذلك كان الفقه الجعفري يُدرّس في إحدى كليات الأزهر من دون أن يولّد أيّة حساسية عند أحد من العلماء أو من أتباعهم. والأهم ما في الأمر تلك الفتوى الشهيرة التي صدرت عن شيخ الأزهر العلامة الشيخ محمود شلتوت سنة 1950 م وهو يُخاطب الأمّة الإسلامية، أنه يجوز للمسلمين أن يتعبّدوا بالمذاهب الإسلامية الخمسة بما فيها المذهب الجعفري، ولعلّي وجدت كبار العلماء والمفكرين من رجالات الإصلاح قدّموا أفكاراً ورؤى لحماية المنهج التقريبي، كلّها كانت تنمّ عن إخلاص أصحابها وحرصهم على وحدة المسلمين وخشيتهم الدائمة من أصحاب النفوس المريضة، بالأخصّ الأطماع الغربية في بلاد المسلمين لأجل نهب ثرواتهم وخيراتهم، إذ أنّ هذا لا يتحقّق إلاّ بإضعاف المسلمين من خلال توتير المناخ المذهبي الموهوم وتعميق الكراهية بين المسلمين والمسيحيين من خلال الاعتداء على المقدّسات المسيحية باسم الإسلام الذي كان ولا زال يدعو النصارى للحوار والتعايش.

بناءً عليه، كان لا بدّ للغرب ونتيجة هذه الأطماع أن يخلق مذهباً جديداً يحمل اسم الإسلام ويفرض على المسلمين الانتماء إليه ولو بالقوّة، وبهذا تشتعل بلاد المسلمين بالفتن والمشاكل فيضعف الجميع ويكون المستفيد الوحيد هو السيد الكافر الغربي الذي أوجد هذا المذهب الجديد المخالف لمُسلّمات الدين الإسلامي الذي أجمعت عليه المذاهب الإسلامية وهو (المنهج التكفيري الوهّابي). وفي مداخلتي هذه سأسلّط الضوء على ثلاث نقاط :

أ - نشأة المنهج التكفيري

ب - الأضرار التي ألحقها

ج - العلاج

أولاً: نشأة المنهج التكفيري: إذا حصرنا المشكلة عند المسلمين والمسيحيين وأتباع الديانات السماوية (بالمنهج التكفيري)، عليه لا بُدَّ من علاج جدّي وحقيقي لهذا المنهج من دون مقاربة محدودة، تكون شبيهة بالمسكّن الذي يُعطى لمريض السرطان فيُخفّف من آلامه مؤقتاً بينما المرض يتفاقم وسرعان ما يقضي على هذا المريض، لذا يجب علينا كعلماء وكمفكرين مخلصين وكخائفين على وجودنا أن نشخّص المرض ونمتلك جرأة العلاج.

المنهج التكفيري هو (الوهّابية) التي أوجدها محمد بن عبد الوهّاب برعاية إنكليزية مُمنهجة، حيث وجد الإنكليز ضالتهم في هذه الشخصية المنحدرة من أصول إسلامية وهي (المذهب الحنبلي)، وكان مُصاباً بجنون العظمة. ففي أواخر القرن الثاني عشر هـ، حيث استطاع الجاسوس البريطاني (مستر همفر) أن يدخل بلاد المسلمين ويتعرّف على مذاهبهم ثمّ أخذ يتظاهر باعتناق الإسلام، وتمكّن هذا المنافق من النفخ في نار جنون العظمة عند محمد بن عبد الوهّاب، وراح يُزيّن له المسائل والأحكام حتى أوصله إلى نظرية أنّ الإسلام هذا كما كان النبي محمد (ص) هو صاحب الدعوة التي أوصلت هذه الرسالة إلى زماننا، فأصبحت اليوم بحاجة إلى إصلاحات وتحديث وهذا لن يتم إلا على يديك، وعليه لا بُدّ لهذا الإسلام من دعوة جديدة يكون صاحبها اسمه (محمد) وأنت الشخصية الوحيدة الإستثنائية الذي تستطيع أن تُدخل الإصلاحات على هذا الإسلام.

 وبالتدريج أصبح زعيم هذا المذهب الجديد أمام أفكار ورؤى مخالفة للكتاب والسنّة وتقوم على نظرية (الخوارج) التي أخذت الآيات القرآنية والروايات التي نزلت بحق الكفّار ثم طبّقوها على المسلمين.

بعد أن تحضّر هذا الزعيم الديني الجديد وأوجد له أتباعاً فمدّوه بالمال والسلاح، كان لا بُدّ من أن ينهض بهذه الدعوة الجديدة لتطبيق الإسلام على المسلمين - المفترض أنهم (كفّار) - وبالتالي على هؤلاء المسلمين الكفّار أن يعترفوا أولاً بكفرهم ثمَّ يُعلنوا إسلامهم من جديد، هذا إن أعطوهم فرصة التوبة، فكانوا يقتحمون مناطق المسلمين فيقتلون الرجال ويستحيون النساء وينهبون الأموال.  فقبل 240 سنة هجم التكفيريون على كربلاء وخلال مدة ست ساعات قتلوا أكثر من أربعة آلاف زائر بين رجل ومرأة وطفل وخرّبوا المقام لسيد الشهداء (ع) والبيوت المجاورة، كما نهبوا أكثر من أربعة آلاف حمل بعير، من دون أن يسألوا أحداً عن انتمائه، فقُتل لمجرد أنه زائر أو ساكن في كربلاء فهو كافر يستحق القتل وهتك العرض وسلب المال، هذا ناهيك عمّا فعلوه في بلاد المسلمين من القتل الذريع وهتك الأعراض وسلب الأموال من دون أن يرفّ لهم جفن. وكلّ هذه الأعمال الوحشية التي لا عهد للديانات السماوية بها، مع الأسف كانت تحدث ولازالت تحت غطاء الانتماء إلى الإسلام الصحيح وإلى عقيدة التوحيد، التي نُسميها نحن (بعقيدة الشرك).

ثانياً: الأضرار التي ألحقها هذا المذهب الجديد الفاسد

أ- الإضرار الكبير بالمسلمين جميعاً وخصوصاً المسلمين الشيعة لإيهامهم أنّ أهل السنّة والجماعة هم من يفعل ذلك أو بالحدّ الأدنى هم راضون وغير معترضين، لأجل إيجاد الكراهية وتعميق الخلاف للتقاتل والتذابح إفساحاً بالمجال أمام دخول الغرب على خط النزاع وبهذا تضعف قوة المسلمين ويُصاب الإسلام بالوهن ويصبح لفظاً مكروهاً حتى عند أتباعه، هذا ناهيك عن إعطاء الغرب فرصة  الدخول إلى المنطقة واستعمارها مباشرة أو عبر عملائهم لنهب ثرواتها وفرض الاستعباد والتخلّف على شعوب المنطقة.

ب- إضعاف النشاط العلمي وإغلاق باب الاجتهاد عن المذاهب الإسلامية، ما عدا المذهب الجعفري الذي استطاع أن يُتابع مسيرة الاجتهاد في الحوزات العلمية رغم الظروف القاسية التي كانت تمرّ فيها المنطقة، ورغم القتل والتعذيب والتنكيل الذي طال علماء الدين الشيعة في مختلف العصور، إلاّ أنهم بقوا مصرّين على المضي في فتح باب الاجتهاد والتصدّي لأهل البدع وللحاكم الظالم.

إذاً المتضرر الأساسي هم المذاهب الإسلامية الذين استطاعوا أن يُغلقوا عنهم باب الاجتهاد، وهذا يؤدي إلى التعصّب الأعمى وإلى الأحقاد وإلى الابتلاء بمشايخ جهلة لا يعرفون شيئاً.

جـ- انسداد باب المنطق والحوار والإصلاحات التي يحتاجها الجميع، لتصبح الأمورُ محكومة لتحكم أصحاب المصالح، فعلى سبيل المثال: ما يجري في سوريا؛ سرعان ما انتقلت الثورة الشعبية الضرورية لأجل الضغط على النظام كي يقوم بإصلاحات حقيقية وجديّة لتكون ذريعة بيد الرئيس بشار الأسد المتلهّف خلف الإصلاح، وإذا بها تنقلب فوراً إلى عصابات قتل وهتك للأعراض وذبح على الهوية، وكان المتضرر الأكبر هم من المسلمين السنّة، تحت عنوان أنّ الجميع كافر ولا يوجد مسلم في سوريا، وكان المحرك هو الأمريكي والإسرائيلي والغرب وبعض (دول المنطقة)، وعندما وصلت هذه القوى إلى مكان باتت هذه الذهنية تُشكّل خطراً على مصالحهم راحوا يُفكرون بمواجهتهم وينعتونهم بالإرهاب.

ثالثا: العلاج

إذا فهمنا طبيعة هذا المنهج التكفيري وأهدافه وخلفياته، وتعرّفنا إلى حجم الضرر الذي ألحقه وسيلحقه بهذه الأمة الإسلامية وبهذا الإسلام العزيز، ومن خلال ما حدث، نستطيع أن نتعرّف على حجم المسؤولية الملقاة على عاتقنا، وهذا يحتاج إلى عدة أمور:

أ- أن يبادر علماء المذاهب الإسلامية مجدداً إلى العودة إلى الاجتهاد وبسرعة، كي يقطعوا الطريق على الجهلة الذين ضلّلوا الناس وجعلوهم أتباعاً لا يُميّزون بين شيء، مستغلّين عبارة غير صحيحة ولا قيمة لها "أنّهم يبحثون عن مصالح (أهل السنّة)"، وهذه كذبةٌ كبيرة، على علماء وعقلاء أهل السنة أن يرفضوها بكلّ قوة.

بـ- العودة إلى الحوار والانفتاح مع علماء الشيعة كي ينعكس هذا الانسجام على الشارعين معاً، وهذا ما لاحظناه في شارعنا عندما كنّا ننسجم كعلماء شيعة مع علماء السنّة، كان ذلك يلقى ترحيباً كبيراً.

جـ- أن نبادر جميعاً وبدون مواربة إلى التصدّي الواضح لهؤلاء ولمنطقهم، ونقولها بصراحة إنّ هذا الفريق هو خارج عن الإسلام وهو عميل مرتزق عند الأجانب أو عملاء الأجانب، حتى ولو ضحّينا بالبداية إلاّ أننا سنحفظ إسلامنا وأهلنا ومنطقتنا، وإذا تهاونّا أو خفنا وتراجعنا فإنّ العذاب على يد هؤلاء نازل على الجميع.

في الختام، أشكر الأمين العام للمجمع العالمي للتقريب بين المذاهب الإسلامية في إيران سماحة آية الله الشيخ محسن الآراكي والاخوة العاملين معه وبالأخصّ السيّد د. تبرائيّان المحترم، وأشكر حضور ومشاركة السادة العلماء والمفكّرين من مختلف البلاد على أمل أن يكون هذا المؤتمر محطة جدّية لانطلاقة عملية من دون مواربة وعدم التستّر خلف الأصبع، فمصيبتنا واضحة وصاحب المشكلة واضح فلنبدء بالعلاج.