الحراك الشعبي في العالم الإسلامي: النموذج الجديد للتغيير بين أفخاخ الفتن ورنين الديمقراطية
الحراك الشعبي في العالم الإسلامي المفاجأة غير المفاجئة والنموذج الجديد للتغيير
الدكتور سمير سليمان
لم يحدث أن عرف العالم الإسلامي ثورات وانتفاضات واحتجاجات شعبية عامة من أجل التغيير البنيوي كالتي يشهدها حالياً، وذلك منذ انتصار الثورة الإسلامية الشعبية في إيران عام 1979. ولولا المقاومتين الباسلتين للشعب الفلسطيني والشعب اللبناني في مواجهة الاحتلال الصهيوني ، وقد شكلتا تحولاً استراتيجياً بالغ الأهمية وأطلقتا ديناميات تقدمية وثقافية وأحدثتا تداعيات ذات مفاعيل بالغة الأهمية على المدى الطويل...، لولا هاتين المقاومتين لظل ذلك العالم الإسلامي غارقاً في "ستاتيكو" ذي سمة نمطية مثيرة للشكوك والتساؤلات من كل نوع، إلى أن قامت تلك الانتفاضات في دنيا العرب لتكسر حالة ذلك الركود والصمت المهيمنين.
ثمة عالم إسلامي جديد يتولد خارج دائرة المألوف والمتوقع.
بهذا التطور الثوري الكبير تنسم تيار التقريب بين الأفكار، وبين المذاهب، وبين الطوائف، وبين الديانات، وبين الجماعات، وبين الثقافات، جرعة جديدة من أوكسجين العافية ودفعة مشهودة إلى الأمام .
لقد تصادفت بعض الوقائع المظفّرة لذلك التطور النوعي مع انعقاد المؤتمر الدوري الدولي الرابع والعشرين للوحدة الإسلامية في طهران بين 19 و 21 فبراير/ شباط 2011 بتنظيم مؤسس ومنظم هذا المؤتمر:"المجمع العالمي للتقريب بين المذاهب الإسلامية" وذلك في حضور المئات من التقريبيين المسلمين القادمين من شتى بقاع الدنيا. وإنها للحظات لا تنسى تلك التي شهدناها عندما كان المؤتمرون يتلقون فيها تباشير الإنجازات التي كان يحققها ثوريو تونس ومصر والمنتفضون في البحرين وليبيا واليمن.
لطالما كانت الحرية والكرامة الإنسانية محمّلتين بقابليات وطاقات ثورية لامتناهية. وها هو الحراك الشعبي في منطقتنا ينبيء ويؤكد أن الحلم الإنساني بالتعارف والتقارب والتكامل بين البشر، وبعالم جديد ومختلف وأكثر عدلاً، هو حلم قابل للتحقيق وليس تطلعاً طوباوياً. وهؤلاء المسلمون الذين كانوا مجرد "زبائن" مستضعفين في السوق الإمبريالية والاستعمارية بدأوا يتحولون إلى شركاء، ولو بمخاضات عسيرة قائمة أو قادمة، ولو بشكل نسبي أيضاً.
حيال هذي التطورات الشعبية الاستراتيجية الناهضة في بعض أقطار العرب لم يخفِ أكثر علماء الاستراتيجيا والسياسة في العالم، بمن فيهم الغالبية الساحقة من أقرانهم في العالم الإسلامي، "مفاجأتهم" لما حدث ويحدث. ولكن هل هو "مفاجىء" حقاً؟ ومن مِن المناضلين من أجل الحرية في العالم يعتقد بأن الدكتاتورية البدوية القائمة ذات السلطة المطلقة حيثما وُجدت في بلداننا، وبأن الظلم والاضطهاد والاحتلال، وبأن غياب العدالة .... ، هي قدر مفروض وأبدي، أو هي حتمية تاريخية؟
صحيح أن كل "فعل ثوري" هو بمعيار الزمن "مفاجأة" و "مفاجيء" ، حتى للثوار الذين أطلقوه أنفسهم، لكن بالمعيار السنني القيمي والأخلاقي وبمعيار التطور الاجتماعي وقوانينه ليس كذلك البتة، وإنما هو مسألة وقت. أما عند الظلمة والمتسلطين والمستكبرين والعنصريين والموقنين بتأبيد سلطانهم، وعند الأكاديميين والمثقفين المستلبين لهم والمُستَأجَرين، فما هو إلا بوقع المفاجأة والصدمة يندلع، وبعضهم اعتبر القيام الثوري العربي القائم بمثابة "المعجزة"... وكأن هؤلاء لم يفهموا حتى الثورات التي قامت في بلادهم هم بعد قرون من الركود والركون.
بعد الإقرار بـ "المفاجأة" كان من الطبيعي أن تطرح على الملأ إشكالية المصطلح. هذا الحدث الثوري الدينامي/ الظاهرة ماذا تصحّ تسميته، وهو يتطوّر أحياناً بين حرارةٍ ثوريّةٍ وبرودة؟ .. وهنا أيضاً بان اختلال المعايير والرؤى. غير أن للتساؤل مشروعية: قيامة بعض شعوب العالم الإسلامي، ما هي؟ مواجهة هذا التحالف الشيطاني بين السلطة الدكتاتورية المطلقة وبين المال والزبائنية والفساد، وبين الفشل التنموي والهجرة من الأرياف إلى المدن وبين البطالة، وذلك في مجتمعات تتراوح أعماركل ثمانية شبان فيها من أصل عشرة ما بين 15 و 24 عاماً.. هذه المواجهة ما وصفها؟ العديد من التسميات والمصطلحات ليست مجرد ألفاظ وإنما هي محمولة على مفاهيم ومنهجيات فقد عصف بين هؤلاء سجال "علمي" لمّا ينتهِ فصولاً بعد. فهل هذه "العمليات" الثورية بمساراتها هي "ثورات"، أم "انتفاضات"، أم "حركات احتجاج عام"، أم هي "انقلابات شعبية"، أم هي "حراكٌ شعبيّ"، أم هي مجرّد تغييرٍ في رأس أنظمة الاستبداد؟؟
في السياق نفسه، مَن هو هذا الحركيُّ/ المنتفض/ الثّائر/ المنقلب؟ مَن هو هذا "الآخَر" القادم "على حين غرّة" الذي لا تكاد المركزية الحضارية الغربية تعترف بوجوده، عن عمد أو جهل أو تجاهل، ككائن بشري، وإنّما تُكابِر في النظر إليه كمخلوق متخّلف وسكوني ولا عقلاني ومتعصب وإرهابي مفطور على العنف... هذا الآخر أعادت تلك الأحداث تظهيره بصورة مختلفة... لقد أعادت إليه صورته الحقيقية كإنسان سوي متشبث بحريته وكرامته الإنسانية، مسالم وغيري... تلك الأحداث التي لا يزال يصعب حصر مساحة تداعياتها حتّى هذه اللّحظة، وهي على ما يبدو مفتوحة ودينامية، لا تشكل تحولاً جيوبوليتيكياً واستراتيجياً في الاجتماع السياسي العربي والإسلامي فحسب، بل تشكل أيضاً اهتزازاً بنيوياً في النظامين الإقليمي والدولي اللذين لم يثبتا على حال بعد منذ انتهاء الحرب الباردة و 11 أيلول 2001. إلا أن ما نراه جديراً بالملاحظة خارج الدلالات السياسية المباشرة لتلك العمليات الثورية، هو أن دوائر الفكر السياسي وعلم الاجتماع والعلاقات بين الثقافات، كما دوائر الإعلام مشرقاً ومغرباً، ما تزال حائرة أو مرتبكة في فهمها وتصنيفها وتقدير تداعياتها واستخلاص دروسها وقوانينها ، وبخاصة لأن صفائح كثيفة لا تزال تحجب الكثير من أبعادها الثقافية والإيديولوجية، ولأنها جاءت من خارج مفاهيم ومعايير الثورات التاريخية التي كانت في أغلبها نمطية، وذلك من سقوط الباستيل إلى الثورات المعاصرة. ولا يبدو لنا أنّ كثيراً من الأدوات العلمية التقليدية المتداولة والمتعلقة بدراسة الثورات الاجتماعية الكبرى ما تزال صالحة لدراسة وفهم خصوصيات وميزات هذه الحراكات ودينامياتها.
في محاولة موضوعية للاقتراب من فهم مبدئي لتعددية هذه الظاهرة ولأبعادها ومنطلقاتها الفلسفية والمعرفية والثقافية، وفي محصلات أولية لما توصلت إليه تجاربها حتى الآن، فإننا نميل من جهتنا إلى افتراض الآتي:
1- إن القيامات العربية الحاصلة تقدم نموذجاً مغايراً أو فريداً في مسار التطور التاريخي للحراك الاجتماعي ومتغيراته، ما يفرض بالضرورة حاجتنا العلمية إلى مراجعة الكثير من المسلّمات المنهجية والمعيارية والمفهومية والسُّننية المتعلقة بالتغير الاجتماعي المستجد ومخاضاته الداخلية وتحولاته، المنظور منها والكموني ، وبالتالي حاجتنا الماسة إلى علم اجتماع سياسي مختلف أو مُعَدَّل، وبخاصة إلى "علم اجتماع ثورات" مقارن متعدد النموذج والاجتهاد ومتحرر من الثوابت الكلاسيكية في العلوم الاجتماعية القائمة وفي منهجياتها.
2- إن هذه الحراكات الشعبية الحديثة قد ارتكزت إلى القيم أكثر من ارتكازها إلى الأفكار، ولعلها قربت الأفكار من القيم إلى درجة التدامج، فأمست القيم أهم البنى التحتية للاجتماع الإنساني وللعمران البشري.
3- لقد برهنت هذه الحراكات الشعبية المتلاحقة والمتصاعدة أن ثمة نموذجاً جديداً للديمقراطية الشعبية السلمية الكارهة للعنف، يتولد في العالم الإسلامي والعربي. وهو ما يسمى بالمصطلح العربي المتداول: "ديمقراطية الشارع" التي لم تعد النخب فيها تتقدم الجماهير والشعوب، إنما تقف خلفها كما برهنت أيضاً على أن ثمة "عقلانية" من نمط مختلف بدأت تظهر في هذا النسق الشعبي الجديد هي "عقلانية" الجماهير التي لطالما وصفتها أنظمة الجور بأنها غوغاء ووعي زائف ومضلل.
4- أثبتت حِراكات التغيير الثوري هذه أن اعتناق الأفراد والجماعات والإثنيات والشعوب القضايا الوطنية والإنسانية الكبرى، هو عامل تقريب رئيسي فيما بينها، يرتقي بها من الجنوح إلى العصبيات الصغيرة والحساسيات الفئوية والمذهبية والطائفية والثقافية الضّيّقة التي ما فتئَتْ عامل تخريبٍ وفتنةٍ وتفرقة بين الناس فلا تترك حيّزاً ممكناً لالتقاء إنسانٍ بإنسان، وقلبٍ بقلب، وعقلٍ بعقل، و"ذاتٍ" بـ "آخر" وجماعةٍ بجماعة، إلّا عطّلته.
5- لقد تحولت التعدّديّة الدينية والطائفية والمذهبية والعرقيّة الإيديولوجية في الحراك الثوري الجديد إلى مفاعل وحدوي وديمقراطي بنّاء، يجمع ولا يفرق ويعضد التماسك والتضامن الجمعيين ويقطع الطريق على مثيرات الفتن والتدخلات الخبيثة المرامي والأهداف، سواء جاءت من داخل أم من خارج.
6- لقد بيّنت تلك الحِراكات الشعبية السلميّة (النموذج الليبي وحده خرج عن هذا النسق) أن الدكتاتورية والظلم والاضطهاد وانتهاك الحقوق المشروعة ، أيضاً ومجدداً، هي ألدّ أعداء كل سويّة علائقيّة بين الناس، كما بين الثقافات وبين الحضارات، وكذلك في العلاقات الدولية. وليست أنظمة القمع والعدوان التي تعتنق إيديولوجيا كراهية الآخر المختلف وتبيح لنفسها استخدام الوسائل كافة للانقضاض عليه ومصادرة حقوقه واستلاب وعيه وإرادته، إلا موانع ومضادات لكلّ تفاعل أو تعارف أو تلاقٍ على الخير العام.
لقد أصاب الرئيس السينيغالي السابق عبدو ضيوف عندما ذكر بأنّ ما أسماه "الانتفاضات العربية" القائمة "قد قطعت الشك باليقين في أنّ هيمنة المصالح الاستراتيجية والاقتصادية على العلاقات الدولية باتت الآن في مواجهة شاملة مع العطش إلى القيم الإنسانية الكبرى للناس ولكراماتهم المنتهكة".
7- أثبتت هذه الانتفاضات التاريخية أيضاً بأن "الآخَر"، كل آخر، هو أقرب إلينا من أي وقت مضى، وأنّ مساحة محرمات التعاون المشترك بين الشعوب كما بين أحرار العالم قد بدأت تضيق على نطاق أوسع... صورة العربي والمسلم عن نفسه باشرت بالتغير وصورته عن العالم وصورة العالم عنه وعن حقوقه المنتهكة كذلك. وهذا فأل خير مشترك وعميم.. بعض نسبي من مؤسسات الإسلاموفوبيا والإكزينزفوبيا تتعرض لبعض من مراجعة، أما أطروحة صاموئيل هانتنغتون حول "صدام الحضارات" فما فتئت تتلقى الصفعات بقدر أشد وأقسى.
8- إن لحظات الزُّهوّ بالانتصارات الشعبية لا ينبغي لها أن تحجب البتة المسؤوليات المترتبة على جماهير "الثورات" وعلى الحكومات التي انبثقت، أو ستنبثق منها.
إنّ ما قبل "الثورة" يختلف دائماً عمّا بعدها. وتلك سُنّةٌ في الثورات وحُجّة.
***
لقد نَظَرَت شعوب العالم الإسلامي بتفاؤلٍ وأملٍ كبيرين إلى هذا العالم الجديد الذي يُبصر النّور ويَتَوَلَّد، وعلى الثائرين والمنتفضين "الجدد" إثبات أن هذه الشعوب كافة ليست على خطأ، وأنّ ما بعد الثورة ليس أسوأ مما قبلها، وأنّ اختبار الحرّيّة الّذي تعبُر تلك الشّعوب بَرزخه الآن، ومَطهَرَهُ (بمصطلح إخوتنا المسيحيّين) تنقصه خبرة الحرّيّة، وخبرة الحرّيّة هي ثورة أخرى.
II. في تسميات الحِراك الشعبي: "الربيع العربي" نموذجاً بين أفخاخ الفتن ورنين الديمقراطية
لا ندري بالضبط من نشر لأول مرة كل أو معظم التسميات و التوصيفات التي أطلقت على المتغيرات الكبرى في دنيا العرب، والتي لمٌا تنتهِ فصولاً بعد، و ذلك من قبيل: " الثورات العربية" و " الربيع العربي" ... و التسميات الأخرى التي أمست تحمل طابعاً فولكلورياً و رومنسياًً و ذلك من قبيل: "ثورة الياسمين" في تونس و "الثورة الخضراء" في ليبيا ...إلخ.
و بصرف النظر عن الجانب الرمزي أو المجازي في هذه التسميات و التوصيفات، فالمؤكد أنها ذات مصادر غربية. فالنخب السياسية و البحّاثة و علماء السياسة و الإعلاميون في الغرب يجنحون دائماً لبيان ما يحدث في بلاد " الآخَر" إلى اعتماد القياس أو المقارنة بينه و بين ما كان قد حدث في عالمهم من أحداث ووقائع مشابهة ... و هذا طبيعي و مشروع للفهم و الإفهام.
لكن حقيقة الأمر ليست دائماً على هذه الصورة من التبسيط و حسن الطوية.
علمياً، و بمعايير العلوم السياسية و علم اجتماع السياسة، ليست هذه العبارات مجرد أسماء أو دوال (signifiants) معجمية أو لغوية أو بيانات توضيحية، و إنما مصطلحات و عبارات محملة بالمضامين و المفاعيل الثقافية و السياسية والاستراتيجية البالغة الخطورة، حتى ولو كان بعض من مطلقيها يستخدمونها على قاعدة رواجها على ألسنة الآخرين أو لدواعٍ صحفية أو تقنية بحتة ، أو لدوافع أخرى.
في التاريخ المعاصر و الحديث للتوصيفات، يعرف علماء السياسة و الاجتماع و الكثير من المحللين أن التسميات والتوصيفات و العبارات المسقطة على التحولات الثورية القائمة في دنيا العرب، قد نشأت في الأصل على أثر الثورات الشعبية التي اندلعت خلال سنتي 1848و 1949 في أوروبا، و لدواع ليست متطابقة دائماً في ما بينها، و بخاصة في فرنسا والنمسا و ألمانيا و إيطاليا و تشيكوسلوفاكيا ، و قد سميت هذه الثورات آنذاك " ربيع الشعوب". و المفارقة أن هذه الثورات قد أفضت كلها إلى فشل ذريع، و لعل وصفها من قبل كارل ماركس و آخرين بأنها تمثل مرحلة " الرومنسية الثورية الأوروبية"، هو وصف دقيق إلى حد بعيد.
لكن قياس الانتفاضات الشعبية العربية على نموذج هذه "الثورات الرومنسية" و بمعاييرها، كما على نموذج غيرها لاحقاً، فيه ظلم للحراكين نظراً للفروقات الكبيرة بينهما لجهة الاختلافات الجيوبوليتيكية، ولجهة الظروف و الأسباب و المضمون، و إن كنا نسلٌم بوجود بعض التشابه أو التناظر بينهما كما في بعض الأسباب تحديداً، و ربما في النتائج أيضاً.
من المعروف كذلك شيوع تسمية "ربيع بودابست" بعدما انتفض بعض الهنغاريين عام 1956 ضد السوفيات. كما أطلقت تسمية " ربيع براغ" على انتفاضة التشيكوسلوفاكيين ضد الهيمنة السوفييتية عام 1968، و تسمية "ربيع بكين" على انتفاضة الطلاب الصينيين سنة 1989 و التي أدت إلى مجزرة "ساحة تيانا نمين"...
لكن جميع هذه "الثورات" فشلت كنظيرتها الأوروبية المشار إليها سابقاً، و تحولت إلى تاريخ. و كلها سميت "ربيعاً" برغم أنهار الدماء التي سفكت فيها، و برغم الفوارق المشهودة فيما بينها. و بهذا المعنى ليست عبارة "الربيع العربي" ربيعاً بأي وجه. و في هذا نتشارك و كثيرين.
للفائدة المعبٌرة نذكر أن الرئيس الأميركي السابق جورج بوش الإبن كان قد استخدم عبارة "الربيع العربي" واصفاً أول انتخابات نيابية جرت في العراق بعد الاحتلال الأميركي، وكذلك في معرض كلامه على التظاهرات التي حدثت في لبنان ضد الوجود العسكري و الأمني السوري على أثر اغتيال رئيس الحكومة اللبنانية الأسبق رفيق الحريري عام 2005، ليعود المصطلح /المفهوم نفسه إلى الظهور و التداول على أوسع نطاق أثناء و بعد التحولات "الثورية" العربية السائرة قدماً.
إنّ مصطلح "الثّورة" في عشوائيّة استخدامه، هو في أحيانٍ كثيرة محلّ اشتباهٍ و تشكيكٍ بائنين. و هو في آنٍ معاً مؤشّر إلى مجّانيّة التسميات، أو مشبوهيّتها، أو خبثها السياسي و الإيديوليوجي الظاهر، تارةً بقصد نفج الحراك الشعبي القائم و تضخيمه و تحميله ما لا يحمل لمآرب غير خافية – و هو المرجّح – و تارةً قد تكون أملته دواعي طيش الاستهلاك الإعلامي أو عدوى التسميات التي لا تنفكّ عن كونها ملصقات زائفة للعناوين الخاطئة.
في السياق نفسه يقع مصطلح "الربيع العربي" الذي شاع بكثافة في الأدبيات السياسية ووسائل الإعلام العالمية، وذلك على الرغم من أن أبرز وقائعه حدثت في الشتاء، لا في الربيع، كما لاحظ كثيرون.
مع مصطلح "الربيع العربي" ثمة إشكاليات و تساؤلات من النوع نفسه.
من جهتنا، لا نعتقد أن من الحكمة اعتبار تغلغل، أو تسلل، أو استخدام هذا النمط من المصطلحات/المفاهيم، هو في ذاته أمر منزّه و بريء من الأغراض. بل لعل فيه ما يُستراب منه .
إن إغراق الثقافة السياسية و الوعي السياسي للرأي العام عندنا أو عند غيرنا بتوصيفات و تسميات تشكل مفاتيح ثقافية ومفهومية و فكرية تأسيسية أو منهجية تفتح على مساحاتٍ و أخيلةٍ مزروعة بالشكوك، يؤدي من وجهة نظرنا إلى تشتيتٍ للوعي، وإلى تبرير أو تعزيز الدوافع إلى الاختلاف و التنازع في الجماعة الواحدة، و في الوطن الواحد، و في الثقافة الواحدة، وإلى تسميم أرقى الإنجازات الحضارية للشعوب و في طليعتها إنجاز "الثورة". ولا يزال في ذاكرة المسلمين والعرب في مقدمات و أثناء ما يسمى ب"عصر النهضة" في القرن التاسع عشر، كيف كانت أسئلة النهضة تفتش عن إجابات من داخل ما كان يطلق عليه جمال الدين الأسدآبادي، المعروف بالأفغاني، و تلامذته من حوله و من بعده، اسم "الجامعة الإسلامية" بينما اشتعلت في وجه هذا المصطلح /المفهوم /الخطاب الإسلامي بعد سايكس-بيكو و الاستنهاض "القيصري" للمشاعر القومية المتنابذة: تركية كانت أم عربية، أم فارسية... اشتعلت معارك إيديوليوجية و سياسية وأكاديمية و استشراقية تعتبر مسؤولة عن كثير ممّا يعاني منه العالم الإسلامي العربي من انقسامات إلى اليوم.
في المناخ غير الصحي هذا، تساجل المثقفون و النخب السياسية في مصطلح/مفهوم حضارة هذه المنطقة: هل هي حضارة إسلامية، أم حضارة عربية، أم حضارة فارسية، أم حضارة كل هذا التدامج؟ حتى اضطر كثير من العلماء للذهاب إلى نوع من التسوية "العلمية" أو "التوليفة الحضارية"، من خلال القول إنها "حضارة عربية اللغة بمضمون إسلامي"*. وكذلك كانت الحال في هوية الفتوحات: هل هي عربية أم إسلامية؟ و إذا التسوية الوسطية ذاتها تربط بين "المتنازعين".
و لأن المصطلحات هي مفاهيم و أفكار و فلسفات، اللغة هي خزان التعبير عنها، فمن الطبيعي و الثابت تاريخياً أن تكون حقلاً خصباً للتأويل، وبالتالي للاختلاف و الشقاق... و ليست مؤديات هذين الآخيرين مطمئنة دائماً.
و على ذلك، أخشى ما نخشاه أن يكون مصطلح/مفهوم "الربيع العربي"، و قد أصبح بمثابة "كليشيه" ترمى عشوائياً، يُتوسل بهدف تظهيره للمواجهة الإيديولوجية و السياسية و الحضارية لما بات يعرف ب"يقظة الإسلام السياسي"، أو"الحِراك الديني"، أو ما أسميناه من جهتنا ب" المشروع الحضاري الإسلامي". و لقد كنا اعتبرنا هذه الظاهرة الاستنهاضية في كتابات سابقة لنا حول هذه الثورات بمثابة "تنازع على هويات الثورات المفترضة (أقصد مستوى التسمية لا مضمونها)" هو في بعضه حمّال مشروعيّة، و ما نشهده في الساحات الثقافية والسياسية في العالم الإسلامي و العربي خير مصداق على هذه المقولة. علماً بأن ما سمي ب"الثورات العربية" كان و ما يزال مقتصراً على الفضاء الداخلي و القضايا الداخلية الوطنية لكل "ثورة"، ولمٌا يخرج بعد إلى الفضاء الأوسع فالأوسع، نعني فضاء القضايا القومية العربية الكبرى، و فضاء القضايا الإسلامية الكبرى وفي طليعتها المسألة الفلسطينية و مقاومة الإمبرياليّة الصهيونية. و فوز الإسلاميين في الانتخابات الديموقراطية في كل من تونس و مصر آخر مصاديق هذه الحقيقة، أو هذه الإشكالية...
حتى ونحن نثور لأقدس القيم، و هي مثار عزة و مجد، للحرية و العدالة و الاستقلال و الكرامة الإنسانية، سرعان ما يُهجم علينا، أو نَهجم على أنفسنا بأدوات الضلالة والفتن، و نحن ننظر و لا نرى (أحياناً؟)...
أقصى درجات التعقل و الحذر حيال التوصيفات المتداولة مطلوبة بإلحاح، و بخاصة فيما يتعلق بتلك التي تموه أفخاخ الفتن برنين الديمقراطية.
* أنظر في هذا السياق: كتابات رشدي راشد و"موسوعة التاريخ الإجتماعي للعلاقات بين العالم الإسلامي والغرب" - بإشرافنا ومشاركتنا - منشورات المجمع العالمي للتقريب بين المذاهب الإسلامية (2010)
و انظر أيضا" افتتاحيات الأعداد (7 و8 و 9) لمجلة Le Débat التي يُصدرها في بيروت المجمع العالمي للتقريب بين المذاهب الإسلامية .