الحالة الحضارية والطائفية
الحالة الحضارية والطائفية
أ.د. محمد علي آذرشب
أستاذ في جامعة طهران
مقدمة
الإسلام هو «الحياة»: ] يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اسْتَجِيبُواْ لِلّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُم لِمَا يُحْيِيكُمْ[ والحياة هنا هي حركة الإنسان على طريق تكامله لانتاج حضارة. ومن هنا نرى الارتباط الوثيق بين الحياة والحضارة.
الجسم الحي مترابط عضويًا: «إذا اشتكى منه عضو تداعي له سائر الجسد بالسهر والحمى» وإذا فقد الحياة فقد أيضًا هذا الارتباط العضوي، ولو أخذنا معادلة ارتباط الحضارة بالحياة لأمكننا القول، إن المجتمع المتحضّر مترابط عضويًا، رغم ما بين الأعضاء من اختلاف وهذه هي الحالة المذهبية، والمجتمع المتخلف حضاريًا مفكك مجّزأ، وهذه هي الحالة الطائفية.
التخلّف الحضاري أكبر ظاهرة تهيمن على حياتنا الإسلامية المعاصرة، وكل ما نشهده من مظاهر سلبية يعود إلى هذه الظاهرة، وكثيرة من المعالجات لمشاكلنا تذهب هدرًا بسبب عدم إعادتها إلى جذورها الحضارية.
والمقصود من التخلّف الحضاري ابتعاد الأمة عن المساهمة في دفع المسيرة البشرية على طريق التطوير والإبداع والإثراء في مجالات الحياة الإنسانية.
لقد كانت الأمة الإسلامية رائدة في هذا المجال خلال قرون ازدهارها الحضاري، وطوت طريق الازدهار هذا بسرعة مذهلة بعد ممارساتها للتجربة الإسلامية، ثم تظافرت عوامل عديدة أدّت إلى اتجاه منحنيها الحضاري نحو الهبوط منذ القرن السابع، وسقطت حضاريًا بعد عصر الاستعمار، حتى لم يعد لها اليوم مكانة تذكر في هذا المضمار.
ولكي نتبيّن ارتباط التخلّف الحضاري بالطائفية في عالمنا الإسلامي نلقي الضوء أولاً على بعض الآراء التي حلّلت هذا التخلّف وبيّنت خلفيّاته وعاملَه الأساس، ثم نبيّن إفرازاته خاصة فيما يرتبط بالحالة الطائفية.
آراء في أسباب التخلّف الحضاري
من الطبيعي أن تشغل هذه المسألة ذهن كلّ المصلحين والإحيائيين المسلمين، وأن تكون في صدر اهتماماتهم الفكرية والعملية. لذلك نراهم تناولوها من وجهات نظر مختلفة وبيّنوا فيها آراءهم، لكنني بحدود اطلاعي لم أجد دراسة مستوعبة قائمة على أساس منظومة فكرية متكاملة تطرح هذه المسألة وتبيّن عواملها وسبل تجاوزها، وإنّما نرى أفكارًا في هذا المجال تحتاج إلى جهد علمي وفكري لوضعها في منظومة منسجمة متكاملة موجّهة.
كما أنني بحدود اطلاعي لم أجد أقسام دراسات الحضارة الإسلامية في الجامعات تتناول هذه المسألة، بل الاهتمام ينصبّ على دراسة تاريخ الحضارة الإسلامية في عصور انتاجها وحركتها، أما في واقعها ومستقبلها فقلّ أن نرى تناولاً لها.
أذكر هنا بعض آراء الإحيائيين المتأخرين ممن حملوا همّ التخلّف الحضاري في أمتنا.
من أوائل الذين حرّكوا موجة الإحياء في القرن التاسع عشر السيد جمال الدين الأسد آبادي المعروف بالأفغاني (1254هـ/ 1838م – 1314هـ/ 1897م).
هذا الرجل رأى المشكلة كامنةً في السلطة السياسية المهيمنة على العالم الإسلامي سواء كانت قاجارية أم عثمانية أم خديوية، ورأى أن هذه السلطة المستبدة سبب كل فساد في المجتمعات المسلمة.
وأقام مشروعه على ثلاثة محاور:
1ـ يقظة الشرق 2- العودة إلى الإسلام 3- وحدة المسلمين ([1]).
ويعود سرّ نجاحه بخاصة في رأينا إلى:
أ- انفتاحه على الآخر المسلم والغربي، فقد تجاوز التقسيمات العرقية والإقليمية والطائفية بين المسلمين وأصبح ينتمي إلى كلّ الأمة الإسلامية، كما أنه انفتح على الحضارة الغربية، ودعا إلى الأخذ بإيجابياتها.
ب – الجمع بين الأصالة والمعاصرة مما أعاد الأمل إلى النفوس المهزورة بإمكان عودة الإسلام إلى الحياة بلغة العصر وعلى مستوى متطلّبات العصر، وإمكان الإصلاح والنهضة من منطلق إسلامي لا غربي([2]).
ومن طلائع النهضة عبد الرحمن الكواكبي (1271هـ/1855م – 1320هـ/1902م)، وهذا الرجل أيضًا مثل السيد جمال الدين جمع بين الأصل الفارسي (من الأسرة الصفوية الإيرانية) والمحتد العربي (حلب سوريا)، وامتاز بعمق التفكير وبالثورة على الواقع. وذهب إلى أن مشكلة الأمة تكمن فيما سمّاه «الفتور»، وهذا الفتور ناشئ عن فقدان الحرية([3]).
وبالمناسبة أذكر هنا رأيًا آخر لشابّ لم يمهله الأجل لتقديم مشروعه النهضوي وهو أبو القاسم الشابي (1909-1934).
ولو قدّر لهذا النابغة التونسي أن يمتدّ به العمر لكان في مقدمة الإحيائيين المعاصرين. يتحدث عن سبب ما هو مشهود في الساحة البشرية من تفاوت بين الشعوب في ابتكارها وإبداعها وفنونها وآدابها، بين شعب يطفح بالحياة والحيوية وشعب هو أقرب إلى البطالة والفراغ والكسل والخمول، وينقل رأيًا يقول: إنه الحرية. ويرفض ذلك ويرى أنه «يقظة الإحساس» لا الحرية.. «يقظة روحية عميقة سامية تملأهم شعورًا بأنفسهم وبالحياة»([4]).
ولعل أكبر مفكر مسلم اهتمّ بدراسة التخلّف الحضاري في العالم الإسلامي وسبل الإقلاع الحضاري هو «مالك بن نبي» فقد كرّس أكثر كتاباته على هذا الموضوع، وأقام مشروعه على أساس «بناء الذات ومقاومة مخطط الاستعمار»([5]).
يرى مالك بن نبي أن الحركة الحضارية تنتج من تفاعل «الإنسان» و«التراب» و«الوقت»([6]). وهذا التفاعل يحتاج إلى طاقة روحية لا يمكن أن يوفّرها إلاّ الدين.
ويقصد بالدين أن ينشدّ الإنسان إلى معبود غيبي بالمعنى العام([7]).. أي أن ينشدّ إلى أهداف بعيدة يضع حجرها الأول جيل وتواصل بناءه، الأجيال المتعاقبة.
ونفس الحقيقة يلامسها الإمام الشهيد محمد باقر الصدر إذ يطرح نظرية المثل الأعلى ويرى أن الأمة تتحرك بمقدار ما يملك مثلها الأعلى من طاقة للدفع، فإذا كان مثلها الأعلى هابطًا فإن الأمة تعيش همومها اليوميّة التافهة وتراوح في مكانها. أما إذا كان ذلك المثل الأعلى كبيرًا فإنه يدفع الأمة إلى أهداف كبرى. والدين الحقّ يدفع بالمسيرة الإنسانية لأن تتجه نحو الله سبحانه. والإنسان في حركته نحو الله يسير على طريق غير متناه، ومجال التطور والإبداع والنمو متواصل دائمًا دون توقف([8]).
ويمكن جمع كل الآراء السابقة سواء من رأى أن العامل في التحرّك الحضاري يكمن في التخلّص من «الاستبداد السياسي» أو الذي رأى أنه في «يقظة الشعور» أو «بناء الذات» و«مقاومة الاستعمار» أو الانشداد إلى «المثل الأعلى الحق». يمكن جمع كل تلك الآراء – في اعتقادنا – بعبارة واحدة هي أن عامل التحرّك الحضاري هو «العزّة».
فالعزّة تمنح «الحياة»، وبعكسها الذلّ عامل قهر وموت للإنسان والمجموعة البشرية.
وإذا نشطت روح الحياة في الكائن الإنساني والمجموعة البشرية استيقظ فيها الشعور، وتوفرت عوامل بناء الذات، وتصاعدت روح المقاومة واتجهت نحو الأهداف الكبيرة.
الإحيائيون بمختلف اتجاهاتهم حاولوا أن يغرسوا روح «العزّة» في النفوس، ويزيلوا من أمامها عوامل الإذلال.
العزّة وصناعة التاريخ
كلامنا عن «العزّة» باعتبارها منطلق الحركة الحضارية له ما يؤيده في الدراسات القديمة والحديثة.
لإن اختلفنا مع «فوكوياما» في كتابه نهاية التاريخ والإنسان الأخير في مشروعه الذي يطرحه عن الليبرالية الديمقراطية باعتبارها نهاية التاريخ، نقترب منه كثيرًا في تبنّي نظرية «التيموس» الأفلاطونية لتفسير حركة التاريخ.
والتيموس هو النـزعة الموجودة في نفس الإنسان لأن يعترف به الآخرون، ولا أجد في العربية مقابلاً لهذه النـزعة سوى «العزّة».
«إن رغبة الاعتراف قد تبدو للوهلة الأولى مفهومًا غير مألوف تمامًا، ولكنه في الواقع قديم قدم تراث الفلسفة السياسية الغربية وهو يشكل جزءًا لا يتجزأ من الشخصية الإنسانية. كان أفلاطون أول من وصف هذه الرغبة في الجمهورية، عندما أشار إلى أن الكائن الإنساني يتكوّن من ثلاثة مركّبات: جزء راغب وجزء عاقل وجزء يسميه تيموس (thymos) أو روح الحياة. هناك جزء كبير من السلوك الإنساني يمكن تفسيره من خلال اندماج العنصرين الأولين، الرغبة والعقل: فالرغبة تدفع البشر للبحث عن أشياء موجودة خارج ذواتهم بينما العقل والحساب يبيّنان لهم أفضل السبل للحصول عليها.
ولكن بالإضافة إلى ذلك يبحث الإنسان عن الاعتراف بكرامته الذاتية أو بكرامة الشعب أو الأشياء أو المبادئ التي يشحنها بالكرامة. فالنزوع إلى شحن الأنا بقيمة معينة وإلى طلب الاعتراف بهذه القيمة يتوافق مع ما نسمّيه في اللغة الجارية «احترام الذات». هذا النـزوع لاحترام الذات يولّد من هذا الجزء في الكائن الذي يسميه أفلاطون تيموس. فهو يشبه عند الإنسان نوعًا من الإحساس الفطري بالعدالة.
يعتقد الناس بأن لهم قيمة معينة وإذا ما عاملهم الآخرون وكأن قيمتهم أقل من ذلك فإنهم يشعرون بانفعال الغضب. وبالمقابل عندما لا يرفع الناس حياتهم إلى مستوى ما يعتبرونه قيمتهم، فإنهم يشعرون بالخجل، وأخيرًا عندما يقيَّمون بشكل صحيح يتناسب مع قيمتهم، فإنهم يشعرون بالاعتزاز. فرغبة الاعتراف والانفعالات التي ترافقها ـ الغضب والخجل والاعتزاز ـ تشكل جزءًا لا يتجزأ من حياة أية شخصية إنسانية. وبحسب هيغل إنها محركات السيرورة التاريخية بكاملها»([9]).
وهيغل تبنى هذه النظرية لتفسير حركة التاريخ.. «بالنسبة لهيغل، إن للكائنات الإنسانية، شأن الحيوانات، حاجات ورغبات طبيعية لأشياء خارجة عن ذاتها: الغذاء والشراب والمسكن وكل ما يحافظ على الجسد الذاتي. إلا أن الإنسان يختلف جذريًا عن الحيوانات لأنه بالإضافة إلى ذلك يرغب في «رغبة» الناس الآخرين، أي أنه يريد أن يتم «الاعتراف به» وخاصة يريد أن يعترف به ككائن إنساني، أي كائن مزوّد بكفاءة معينة وبكرامة معينة.
هذه الكرامة ترتبط بالدرجة الأولى بإراداته في احتمال تعريض حياته في صراع من أجل الاعتبار فحسب. فالإنسان وحده يستطيع أن يتجاوز غرائزه الحيوانية الخالصة ـ ومن بينها بشكل رئيسي غريزة البقاء ـ من أجل الالتزام بمبادئ وأهداف أسمى وأكثر تجريدًا.
بالنسبة لهيغل إن رغبة الاعتراف هي التي قادت أول خصمين مصارعين إلى السعي المتبادل كي «يعترف» الآخر بطبيعة الكينونة الإنسانية لخصمه مع تعريض حياتهما في صراع مميت.
وعندما يؤدي الخوف الطبيعي من الموت بأحد المصارعين للخضوع، فإن علاقة السيد والعبد تولد إذ ذاك. إن أسباب هذه المعركة الدامية في بدايات التاريخ، ليست الغذاء ولا المأوى ولا الأمن، ولكن الهيبة والاعتبار وحسب. ولأن سبب هذه المعركة لا يتحدّد بالبيولوجيا، فإن هيغل يرى فيه بالضبط النور الأول للحرية الإنسانية»([10]).
إفرازات التخلف الحضاري
الحديث عن إفرازات التخلف الحضاري، هو كما ذكرنا، الحديث عن الحالة النفسية للإنسان الذليل والحالة الاجتماعية للمجتمع الذليل، وهذه الإفرازات أو الأعراض أُجملها فيما يلي:
1ـ فقدان قيمة الإنسان:
حالة الذل تخلق عقدة الحقارة في نفس الإنسان، والحقارة هي أن لا يرى لنفسه وزنًا ولا قيمة.. ومن الطبيعي أن لا يرى للآخر الذي يعيش في مجتمعه قيمة. ولذلك تنعدم أخلاق الاحترام وحفظ الحقوق في مثل هذا المجتمع، ويصبح الإنسان أرخص شيء فيه، وتُهدر كرامته لأتفه الأسباب.
2- الروح العدوانية التسلطية:
الذل لا يستطيع أن يقضى على فطرة العزّة أو التيموس في نفس الإنسان، بل يمسخها، وكل العوامل للمضادة للفطرة السليمة لا تقضي عليها بل تضلّل طريقها وتغيّر معالمها. من هنا فإن الإنسان المقهور يطلب العزّة ولكنه يطلبها في العدوان على من هو أضعف منه، ولذلك نرى طغيان روح الدكتاتورية في كل أطر هذا المجتمع، السياسية منها، والعائلية، والثقافية، والاقتصادية.
3- الذوبان والتماهي في القوى المسيطرة:
وفي مقابل الروح العدوانية للقوي تجاه الضعيف، يتخذ الضعيف موقف العبودية تجاه القوي، يشعر أمامه بالصغر ويودّ أن يقيم له فروض الطاعة، ويستسلم لأوامره، وقد يرتكب أبشع أنواع الجرائم وأفظع ألوان الخيانات من أجل استرضائه.
4- قصور الفكر المنهجي:
الإنسان المقهور يفقد قدرة التفكير الشمولي المنطقي القائم على منهج علمي، وتصبح تحليلاته للأمور فجّة وناقصة، وتكون مواقفه القائمة على أساس تلك التحليلات مواقف مهزوزه لا تصبّ في مصلحته ولا تتجه نحو مقصد واضح. يشير الكواكبي إلى هذه الحالة فيقول: ([11])
«ليس من شأن الشرقي أن يسير مع الغربي في طريق واحدة، فلا تطاوعه طباعه على استباحة ما يستحسنه الغربي، وإن تكلف تقليده في أمر فلا يحسن التقليد، وإن أحسنه فلا يثبت، وإن ثبت فلا يعرف استثماره، حتى لو سقطت الثمرة في كفه تمنى لو قفزت على فمه!.. فالشرقي مثلا يهتم في شأن ظالمه إلى أن يزول عنه ظلمه، ثم لا يفكر فيمن يخلفه ولا يراقبه، فيقع في الظلم ثانية، فيعيد الكرة ويعود الظلم إلى ما لا نهاية. وكأولئك الباطنية في الإسلام: فتكوا بمئات الأمراء على غير طائل، كأنهم لم يسمعوا بالحكمة النبوية: «لا يلدغ المرء من جحر مرتين»، ولا بالحكمة القرآنية: )إن الله يحبُّ المتّقين( أما الغربي إذا أخذ على يد ظالمه فلا يفلته حتى يشلّها، بل حتى يقطعها ويكوي مقطعها».
5- الانفعال والتأرجح بين الإفراط والتفريط
قد يندرج هذا العارض ضمن فقدان الفكر المنهجي ولكنه لبروزه أكثر وأهميته أضعه في عنوان مستقل، فالانفعال يعني عدم مواجهة الواقع بخطة فاعلة، بل الانجراف في أحداث الواقع لتفعل به ما تشاء. وتجاه هذا الانجراف أو الانفعال يتخذ أحد موقفين إما الإفراط أو التفريط..
إما أن يتشدّد أكثر مما ينبغي أو يتراخى أكثر مما ينبغي، وفي كلا الحالتين لا يستطيع أن يحافظ على الوسطية، وعلى التعادل، ويبقى متأرجحًا كشعرة في مهبّ الريح.
6- سيطرة الخرافات: حين لا يستطيع الإنسان المقهور أن يتجه نحو فهم الأسباب الحقيقية لواقعه المؤلم، يتجه إلى الخرافات ليرجع مظاهر قهره وتخلفه إلى أسباب غيبيّة، وفي السِيَر الشعبية التي ظهرت في عصور الانحطاط. وفي العقائد الجبرية التي سادت في ظروف الإذلال خير مثال على سيطرة الخرافات التي تتخذ مع الأسف أحيانًا طابعًا دينيًا.
وفي هذا الصدد يصف الكواكبي أسير الاستبداد، وهو المصاب بداء الذل والتخلف الحضاري فيقول: ([12])
«إن أخوف ما يخافه الأسير هو أن يظهر عليه أثر نعمة الله في الجسم أو المال، فتصبيه عين الجواسيس (وهذا أصل عقيدة إصابة العين)! أو أن يظهر له شأن في علم أو جاه أو نعمة مهمة، فيسعى به حاسدوه إلى المستبد (وهذا أصل شر الحسد الذي يتعوذ منه)! وقد يتحيل الأسير على حفظ ماله الذي لا يمكنه إخفاؤه كالزوجة الجميلة، أو الدابة الثمينة، أو الدار الكبيرة، فيحميها بإسناد الشؤم، وهذا أصل التشاؤم بالأقدام والنواصي والأعتاب».
7- غياب الأهداف البعيدة
الإنسان العزيز هو الإنسان الحيّ ومن مظاهر الحياة التطلّع إلى المستقبل، والذليل يفقد النظرة المستقبلية ولا يستطيع أن يتجاوز واقعه. بل إنه يقدّس هذا الواقع، ويرى في كل تطوير تهديدًا لوجوده وكيانه: ) إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِم مُّهْتَدُونَ (.
8- التمزّق الاجتماعي:
ظاهرة التمزّق حالة طبيعيّة لغياب الهدف الذي يجمع الأمة، إذ يكون هدف كل فرد في المجتمع المقهور ذاتياته وأهواءه. والذاتيات الفردية لا تلتقي غالبًا، بل تتصارع المصالح الفردية في حالة غياب المصالح الاجتماعية.
أضف إلى ذلك فإن دافع حبّ الاعتراف تدفع المقهورين للانضمام إلى جماعات لا هدف لها سوى تحقيق الذاتيات أيضًا، غير أن هذه الجماعات إما أن تحمل عنوان قبيلة أو عشيرة، أو تتخذ صفة حزب وجماعة هي _ وإن حملت شعارات قومية أو وطنية ـ لكنها في الواقع عشائرية محضة. ثم إنك ترى داخل هذه الجماعات نوعًا من الارتباط، غير أنه ظاهري لأن كل فرد يعيش همومه الذاتية: ) تَحْسَبُهُمْ جَمِيعًا وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى (.
9- الانكفاء على الذات:
الذاتية المستفحلة في الفرد المقهور والمجتمع المقهور لا تخلق حالة الانفتاح على الآخر، بل تجعل نظره قاصرًا على نفسه ومحيطه، فيرى نفسه محور الكون ويرى قريته ما بعدها قرية.
الخطاب الصادر عن المجتمع المقهور يتحدث مع نفسه لا مع الآخر، لأنه لا يعرف الآخر، والتعصّب ينتح عن هذا الانكفاء، لأن المتعصّب لا يتحرّى الصحة، بل ينشد ذاتيته ويطلب الانتصار على الرأي الآخر بشتى أنواع المغالطات والمكابرات.
10- تكريس الذاتية:
وإذا كان الانكفاء على الذات يحول دون الانفتاح على الآخر، فإن تكريس الذاتية تجعل الفرد في كل المجالات لا يفكّر إلاّ بمصالحه الذاتية حتى في موقفه من أقرب الناس إليه. لذلك قلّ أن تجد عند المقهورين مشاريع عامة، وقلّ أن تجد خططًا ناجحة للتنمية الاجتماعية والاقتصادية، وقلّ أن تعثر على ابتكارات واختراعات لأن كل ذلك يحتاج إلى تجاوز الذات والتفكير في المصحة العامة.
11- استفحال الشهوات
الإنسان طبعًا له شهوات، ومن الطبيعي أن يكون جزء من وقته مخصصًا لتلبية حاجة هذه الشهوات، ولكن الإنسان الذليل تستعر عنده الشهوات حتى تستوعب كلّ تفكيره ومشاريعه. وللإحساس بالكرامة ارتباط مباشر بانخفاض ضغط الشهوات. وفي النصوص الدينية: «من كرمت عليه نفسه هانت عليه شهواته>.
ويرى الكواكبي أن «الأسير» (وهو تعبيره عن المتخلف) لا يعرف من اللذات سوى اللذات البهيمية يقول:
«وهذه الحال تجعل الأسير لا يذوق في الكون لذة نعيم، غير بعض الملذّات البهيمية. بناء عليه، يكون شديد الحرص على حياته الحيوانية وإن كانت تعيسة، وكيف لا يحرص عليها وهو لا يعرف غيرها؟! أين هو من الحياة الأدبية؟! أين هو من الحياة الاجتماعية؟! أما الأحرار فتكون منزلة حياتهم الحيوانية عندهم بعد مراتب عديدة، ولا يعرف ذلك إلا من كان منهم، أو كشف عن بصيرته»([13]).
12- انسداد منافذ المعرفة
استفحال الذاتية وتضخّمها يجعلها طاغوتًا يقف سدًا أمام الحركة التكاملية نحو الله، ويسدّ منافذ المعرفة، ويحول دون «الاستماع» ودون قدرة انتخاب الأحسن مما يسمع.
وإلى ذلك تشير الآية الكريمة:
] وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ أَن يَعْبُدُوهَا وَأَنَابُوا إِلَى اللَّهِ لَهُمُ الْبُشْرَى :
فَبَشِّرْ عِبَادِ، الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُوْلَئِكَ هُمْ أُوْلُوا الْأَلْبَابِ[.
وفي هذه الحالة ينعدم الحوار، لأن الحوار يتطلب قولاً واستماعًا، وإذا انسدت منافذ الاستماع لا يبقى إلاّ القول. حتى في المناظرات. الجانبات يقولان ولا يستمعان. أحدهما يقول بلسانه، والثاني يقول مع نفسه ليردّ على الآخر.
التخلف والطائفية
في مثل هذه الحالة لا يمكن أن نتوقع حالة مذهبية لأن الحالة المذهبية حالة علمية فكرية تحتاج إلى جوّ يشعر فيه الإنسان بقيمته، ويفكر بمنهجية ويبتعد عن الانفعال والإفراط والتفريط، ويلبّي نداء العلم والمعرفة ولا ينساق إلى الأوهام والخرافات، ويكون متطلعًا إلى أهداف بعيدة ومُثُل عليا سامية، ويتحرر من ذاتياته وأنانياته، ولا ينساق مع غرائزه وأهوائه، ويفتح منافذ معرفته.. وهذا هو الإنسان المتحضّر.
أما إذا انعدمت هذه الظروف فيلجأ إلى إثبات وجوده بالانتماء الطائفي وبالتعصّب للطائفة وبممارسة العدوان تجاه الطوائف الأخرى.
وفي تاريخنا الإسلامي نرى الظاهرة المذهبية تبرز باعتبارها نتيجة طبيعية للاجتهاد وحرية الفكر، أي تبرز باعتبارها نتيجة طبيعية لما يحمله الإسلام من مقومات الحركة الحضارية.
الدكتور فاضل الأنصاري بعد أن يتحدث عن دور الإسلام في إعادة صياغة الإنسان المسلم وفي توفير مقومات النهوض الحضاري يقول:
«ولا تعدو المذهبية التي ولدت وتنامت في رحم ذلك الزخم غير واحدة من مفردات النهوض ومقوماته، فيتسق تباين المناهج وتنوع الاجتهادات، اتساقًا لازمًا لحركة المعاصرة والتغيير، وهي الظاهرة التي أتاحتها مرونة الإسلام واحتمالية النص فيه. وبهذا تعددت المذاهب في مدارس فقهية فكرية، وظهر الأئمة الكبار، ونشطت المجادلات والمناظرات بغير عصبية أو حدية. وإن تطرف القلة، فإن البيئة من ذلك النوع تستكمل هويتها عادة بالمتطرفين، ولا ينشر فيها الاستثناء»([14]).
ويرى الأنصاري أن السبب في الانتكاس الحضاري وتحوّل المذهبية إلى طائفية يعود إلى انتصار القوى المعارضة للتطوير بما في ذلك السلطة !ذ «عندما بلغ التطور عتبة التغير الشمولي للأطر القائمة تهيئة لمرحلة جديدة متقدمة، دخلت المنطقة في مخاضات الانتقال ودوامات الصراع الاعتيادي بين القديم والجديد. فاشتدت المعارضات نشدانًا للمرحلة الجديدة في جانب، بينما استنفرت في الجانب الآخر، قوى المحافظة على القديم، وتضافرت هيكليات البنى الاجتماعية والسياسية التقليدية القائمة، بما فيها مؤسسة الدولة، للدفاع عن مصالحها وبقائها. وكان من مفرزات الصراع، سعي الدولة لحرف الأفكار والعقائد التي باتت تؤثر بقوة في نزعات العامة وعقولهم، وبهذا جهدت المؤسسات الحاكمة لتحويل التمذهب عن مساراته الاجتهادية، وزج المذاهب في العصبيات والتطوؤف. فتفاقم المخاض وانهك المجتمع بالتناقضات والمزق، وتدنى زخمه التعبوي التغييري وتراجعت حصاناته، ليجد المتربصون من وراء الحدود فرصتهم لولوج المنطقة، سواء سلمًا في البداية عبر تحالفات السلطة التي اختارت الاستعانة على شعبها بالغرباء، أو حربًا في اجتياحات متوالية عادت بالمتجمع إلى غياهب الانحطاط مجددًا في عصر مديد الزمن والرجع»([15]).
والواقع أن انتصار قوى الظلام في المجتمع يؤدي إلى خيبة أمل لدى كل المفكرين والمبدعين وتسود حالة تراجع نفسي يسبب في الشعور بالإذلال، وبالتالي في تخلف حضاري تبرز خلاله الطائفية.
استنتاج
المذهبية مظهر للحالة الحضارية التي بشّر بها الإسلام وربّى الأمة عليها في دعوته للفكر وللاجتهاد والنظر، والطائفية إفراز للتخلف الحضاري في المجتمع، من هنا فإن عملية التقريب لا تنفك عن عملية استئناف مسيرة الحضارة الإسلامية، يؤيد ذلك أن كل دعاة التقريب كانوا أيضًا دعاة عودة الأمة إلى ساحة الحياة وإلى الحراك الحضاري.
--------------------------------------------------------------------------------
[1] ـ سالشماري علامه سيد جمال الدين اسد آبادي، علي اكبر ذاكري، عروة الوثقى، مجمع جهاني تقريب بين مذاهب إسلامي 1375ش (فارسي).
[2] ـ دور السيد جمال ا لدين في الأدب العربي الحديث، محمد علي آذرشب، مقال في المصدر المذكور أعلاه.
[3] ـ أم القرى، ص 58، وما بعدها، دراسة وتحقيق محمد جمال الطحان، ط 1، دمشق 2002م.
[4] ـ الشابي، المجلد الثاني، مؤسسة جائزة عبد العزيز سعود البابطين للإبداع الشعري، إعداد محمد الحليوي، ط 1، تونس 1994.
[5] ـ ثقافة المقاومة بين العودة إلى الذات ونموذج الوعد الصادق، محمد حسن يزي، ثقافتنا، العدد 15 ص 119.
[6] ـ شروط النهضة، ترجمة عمر كامل مسقاوي وعبد الصبور شاهين، ط4، دمشق 1987، ص 49
[7] ـ المصدر نفسه/ 56 .
[8] ـ مقدمات للتفسير الموضوعي للقرآن، ط 1، بيروت 1400هـ ، ص 129 – 152.
[9] ـ نهاية التاريخ والإنسان الأخير، فرانسيس فوكوياما، ترجمة فؤاد شاهين وآخرون، مركز الإنماء القومي، بيروت 1993، ص 27-28.
[10] ـ المصدر نفسه ، ص 27.
[11] ـ عودة الكواكبي، د. محمد جمال الطحان، طبائع الاستبداد، حلب، 2006م، ص 431.
[12] ـ المصدر نفسه، ص 447.
[13] ـ طبائع الاستبداد، مصدر مذكور، ص 420.
[14] ـ فاضل الانصاري، قصة الطوائف/ الإسلام بين المذهبية والطائفية، دمشق 2000، ص 2 - 3.
[15] ـ المصدر نفسه ص 7.