التربية القرآنية والإشباع المتوازن للميول نحو وحدة القلوب
التربية القرآنية والإشباع المتوازن للميول نحو وحدة القلوب
الشيخ محمد علي التسخيري
المستشار الأعلى لقائد الثورة الإسلامية في العالم الإسلامي
ورئيس المجلس الأعلى للمجمع العالمي للتقريب
بين المذاهب الإسلامية
التربية القرآنية والإشباع المتوازن للميول الإنسانية
بسم الله الرحمن الرحيم والصلاة والسلام على سيد البشرية محمد و آله الطاهرين وصحبه الطيبين وبعد،
فإننا نرصد أمامنا في هذا الموضوع أبعاداً واسعة نحاول تلخيص بعضها في نقاط:
النقطة الأولى: الإسلام وتربية الشخصية الإنسانية:
تشكل العاطفة جزءاً مهماً من الشخصية الإنسانية، والواقعية وهي من أهم صفات الإسلام العامة تقتضي الاهتمام بها، وترشيدها لتتحقق الثمار المرجوة. وعندما نحلل الشخصية الإنسانية ومكوناتها نجد الإمام عليا(ع) في مجال وصفه للانسجام بين مكونات الشخصية الإنسانية، وهي (العقل والفكر والعاطفة والحواس والسلوك) يقول: «العقول أئمة الأفكار، والأفكار أئمة القلوب، والقلوب أئمة الحواس، والحواس أئمة الجوارح»([1]) ليكشف بدقة عن جذور السلوك الإنساني الواعي.
والإسلام يعمل تماما على تربية الإنسان بتربية كل هذه المكونات فهو:
أ - يقوم بتربية عنصر التعقل الغريزي في الإنسان فيدفعه للتأمل والتدبر والتعقل والبرهنة والنظر وأمثال ذلك.
ب - يؤكد على الأسلوب المنطقي للعملية العقلية مبتعداً بها عن ما يخلّ بالنتائج من أساليب تتنافى والحوار السليم.
ج - يربّي العنصر العاطفي ويشبعه بحب أصيل لأروع محبوب وهو (الله) - تعالى - الجامع لكل ما ترغب النفس فيه من كمال مطلق، فتسمو العاطفة غاية السمو.
د - يعطي الشريعة الغراء الفطرية التي تنظم السلوك وترسم خارطة طريق السعادة.
هـ - يربي الإرادة القوية الواعية التي تبقى أسمى من كل دافع عاطفي مهما كان متأججاً للتأكد من كون العاطفة تسير في الاتجاه الصحيح أم لا، و تحتفظ بحريتها في توجيه السلوك. وبهذه الحرية تحصل المسؤولية. فلسنا مع من يصف (الإرادة) بـ(العاطفة المتأججة) وإلا لوقعنا في (الجبرية) وهو الأمر المرفوض وجداناً وشرعاً. ولكن يبقى للعواطف دورها المؤثر على الإرادة والسلوك. ومن هنا جاء التأكيد الإسلامي على هذه المسألة بشتى الأساليب ومنها:
1 - الأساليب التوجيهية المباشرة التي تحذّر من الأهواء الجامحة بل والطاغية، فيقول القرآن الكريم:
«أرأيت من اتخذ الهه هواه أفأنت تكون عليه وكيلا»([2])
2 - الأساليب غير المباشرة باستخدام الأمثال والقصص التي تمجّد الذين سيطروا على دوافعهم وأهواءهم كالأنبياء والصالحين
3 - تقديم النماذج العملية المتمثلة في سلوك النبي(ص) والقادة الذين رباهم من أهل البيت الطاهرين(ع) والصحابة الميامين(رض).
4 - دعوة المسلمين بالارتفاع بحبهم إلى أسمى المستويات وهي حب الله وحب رسوله وحب أهل بيته الطاهرين وأصحابه المخلصين، وحينئذ تنتظم العواطف في منظومة رائعة منسجمة مع الفكر، وخلاقة للعمل للصالح والسير نحو الأمة الصالحة الواحدة.
وتتم هذه العملية التربوية للعواطف بعد تأصيل وتعميق الايمان بالله الجامع لكل صفات الكمال والجلال، وربط الإنسان به إلى أقصى حدٍّ من جهة، وتربية تصوّره عن الكون والحياة بتأكيد قيامهما على أصول أهمها (الحق، والعدل، والحب، والرحمة) ويبقى الفكر والعاطفة يعيشان في هذه الأجواء ويكملان فيها. وتأتي سيرة الرسول وسنّته لتؤصّل هذه المعاني، وتقدم التجسيد الحسي الأمثل لها لتحقق مفهوم (وكذلك جعلناكم امة وسطا لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيدا). ([3])
النقطة الثانية: الحب نعمة كبرى ومنزلق خطير
يذكر الأستاذ المفكر المطهري ان الأدب الصوفي القديم يزخر بالتعبير عن الحب بـ(الإكسير) ويعني (ذلك الجوهر الذي يصهر ويخلط ويكمل الأشياء فهو بذلك يبدل النحاس إلى ذهب)، والحب يحمل هذه الصفات فهو يحرق، وهو يحقق التلاحم بما يؤدي إلى التكامل، ولكن وجه الشبه هنا هو الصفة الثالثة من هذا المصطلح.
فالحب هو الذي يجعل القلب قلباً وإلا فهو ماء وطين، وهو الذي يحيل الحياة من حالة الخمود والانطواء والذاتية إلى حالة جديدة تزخر بالحيوية والنشاط والذكاء والبهجة والعطاء، ويفجر الطاقات الكامنة ويثيرها لتبدو على مسار الحياة، وهو الذي يصنع الشعراء والفنانين والعباقرة، ويكمل النفس وينمي المشاعر ويقوي الهمم لتتصاعد إلى العلاء، انه الذي ينقي الروح من كل ما امتزج بها من ضعف وداء ويطهرها من الأدران ويسير بها نحو الكمال رغم انه يترك آثاراً معاكسة على البدن. ([4])
وهذا يعني ان الحب (وهو ميل نفسي غريزي ينتظر ما يتعلق به (المحبوب) الذي يحقق له ما يريده فيه من انسجام مع الفطرة، وإشباع للحاجة، وتبادل للمحبة، وتنمية لها باستمرار) طاقة فطرية رائعة أودعها الله في الخلقة الإنسانية لتقوده إلى الكمال. ولكن هذه الطاقة تحتاج إلى تربية مستمرة وتذكير مستدام بالحقيقة، وشد بمنبع الطاقة لئلا تنحرف عن الهدف المنشود وتتحول إلى ذوبان مذل وهبوط مسف يختزل الحياة المتعالية في المجون والضياع.
والحب أو العاطفة المتأججة لها أعظم الأثر في الإرادة الإنسانية، وقد تصل إلى الحد الأعمى بحيث تذوب (الإرادة) أمامها. وهذا ما دفع بعض علماء الأصول حينما أراد ان يحلل الإرادة وجذورها للقول بان الإرادة هي (شوق مؤكد). ولكنه تحليل مفرط في تأثير العاطفة، وذلك إن الإرادة الإنسانية مهما كان التأثير عليها قوياً تمتلك صفة الحرية والمقاومة مستمدة من إرشادات العقل ما تستطيع به أن تعدل تأثيرات العاطفة. وبالتالي يبقى مجال المسؤولية واسعاً وإلا وقعنا في (الجبرية) وهي ما يرفضها الوجدان نعم إذا كانت الضغوط إلى الحد الذي يمحو الإرادة فقدت المسؤولية بلاريب.
وعلى أي حال؛ فان نعمة الحب هي من أعظم النعم الإلهية؛ إن الحب يشد الإنسان بالحقيقة المطلقة، ويخرجه من سجن ذاته، وما لم يخرج الإنسان من هذا السجن فانه سيبقى قلقاً ضعيفاً خائفاً بخيلاً خائر القوى، أما إذا أحب فانه سيلقى السكينة (ومن آياته ان خلق لكم من أنفسكم أزواجاً لتسكنوا إليها وجعل بينكم مودة ورحمة)، ([5]) وسيعرف معنى التضحية والإيثار، والكرم، والعزيمة، والانسجام مع الآخر، والبهجة بالحياة، وتهذيب النفس، والارتفاع بها إلى مستوى الإبداع.
ولكن هذه النعمة إذا لم تتداركها النعمة الإلهية قد تهبط بالإنسان إلى مكان سحيق.
النقطة الثالثة: النظام التربوي يشبع الغرائز والميول إشباعاً متوازناً
ان التناسق التام بين أنواع الهداية في سبيل إيصال الإنسان إلى هدفه، هو من أجمل ما يلاحظه المتأمل في تركيب الشخصية الإنسانية وهنا تشكل الغرائز الدوافع الرئيسة للعمل، اما العقل والإرادة فإنهما يشكلان الضابط لعملها، ويبقى الوحي هو المخطِّط المنمِّي للعقل.. وهو يعتمد الخطين التاليين:
الخط الأول – عدم الكبت:
إن الإسلام – على العكس من سائر المبادئ المادية (كالماركسية) التي تكبت بعض الغرائز – لا يرضى بالكبت الغريزي، نظراً لواقعيته، فهو يؤكِّد على أنها كلها وضِعت في الكيان الإنساني لصالحه، وأن ليس في الوجود العام ككل، والوجود الإنساني بالخصوص، شيء غير معدِّ لشأنه، ولذا فلا معنى للكبت الذي لا يؤدِّي إلا إلى اختلال التوازن الحياتي المطلوب في عمل الغرائز، وضياع التناسق الضروري لمسيرة الإنسان.
الخط الثاني- تنمية الاستعدادات المعنوية، وتركيز الحب على مجالاته الأصيلة، وتهذيب الغرائز الطاغية:
فإن من الاستعدادات النفسية الأصيلة ما يحتاج إلى تنمية منظَّمة يتجلَّى بشكل أكثر وضوحاً في حياة الإنسان، ومنها ما يحتاج إلى تهذيب لأنه ينمو بصورة طبيعية. فلنلاحظ أهم مساحات هذه الاستعدادات وعلاج الإسلام لها، لنرى ما الذي فعله الإسلام لتنمية هذه الأمور أو تهذيبها، وسوقها نحو الوحدة والتلاحم.
1ـ الارتباط بالكامل المطلق والتوجه إليه:
وهو استعداد إنساني عبّر عن نفسه بتعبيرات مختلفة عبر التاريخ، واختلفت تطبيقاته وتصورات محل الكمال فيه. وكان أهم انحراف فيه ما ذكرناه في النقطة الأولى وهو تحويل المؤثرات النسبية إلى مطلقات من جميع الوجوه وتقديم فروض الطاعة والاحترام لها، وأمثلتها: الآباء، والقبيلة، والطبيعة، والمادة، والأجرام السماوية، والعلم والتجربة، والحاكم المستبد، وغيرها.. وأكبر ضرر لهذه المطلقات الوهمية هي كونها تشكِّل قيداً على فكر الإنسان وأنها تعيق مسيرة تقدُّمه الحضاري، وتقوده نحو الضلال: «فكلُّ محدود ونسبي إذا نسج الإنسان منه في مرحلة ما مطلقاً يرتبط به على هذا الأساس يصبح في مرحلة رشد ذهني جديد قيداً على الذهن الذي صنعه، بحكم كونه محدوداً ونسبياً»([6]).
ومن هنا فقد كان العلاج الإسلامي الواقعي هو تحويل الأنظار والأفهام عن هذه الآلهة الوهميّة المقيِّدة للذهن، المحدِّدة للأفق والتي لا تملأ وجود الإنسان وتطلعاته، والتركيز على الموجود المطلق الحق سبحانه الذي لا تحدُّه أية حدود، والذي لم يكن من نسيج مرحلة من مراحل الذهن الإنساني، ليصبح في مرحلة رشد ذهني جديد قيداً على الذهن الذي صنعه، ولم يكن وليد حاجة محدَّدة لفرد أو فئة، ليتحوَّل بانتصابه مطلقاً إلى سلاح في يد الفرد والفئة لضمان استمرار مصالحه غير المشروعة. فالله سبحانه وتعالى مطلق لا حدود له، ويستوعب بصفاته الثبوتية كل المثل العليا للإنسان الخليفة على الأرض، من إدراك، وعلم وقدرة، وعدل، وغنى، وهذا يعني أن الطريق إلى الله لا حدَّ له، فالسير نحوه يفرض التحرك باستمرار وتدرُّج نسبيٍّ نحو المطلق بدون توقف:
)يا أَيُّهَا الإنسان إِنَّكَ كَادِحٌ إلى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلَاقِيهِ( ([7]).
وإذا كان الأمر كذلك فالتعلُّق الحقيقي يجب أن يكون بالله تعالى، والحب الأصيل للكمال يجب أن يتركَّز في آخر هدف له وهو الله، ليكون الانتساب إلى الله والإيمان هو معيار الحب، وليقوم حبٌّ متعادل قويٌّ بين الله وعبده: )يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ مَن يَرْتَدَّ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ( ([8]). )فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَن يَتَطَهَّرُواْ وَاللّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ( ([9]).
)وَمِنَ النَّاسِ مَن يَتَّخِذُ مِن دُونِ اللّهِ أَندَاداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللّهِ وَالَّذِينَ آمَنُواْ أَشَدُّ حُبًّا لِّلّهِ(([10]).
وهذا الحب إذا أريد له أن يكون واقعياً وجب أن يعلو على كل حب )يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ آبَاءكُمْ وَإِخْوَانَكُمْ أَوْلِيَاء إَنِ اسْتَحَبُّواْ الْكُفْرَ عَلَى الإِيمَانِ وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ، قُلْ إِن كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَآؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُم مِّنَ اللّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُواْ حَتَّى يَأْتِيَ اللّهُ بِأَمْرِهِ وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ(([11]).
وروي عن رسول الله(ص) أنه قال:
«لا يؤمن أحدكم حتى يكون الله ورسوله أحبَّ إليه مما سواهما» [12].
وقال(ص) في دعائه:
«اللهم أرزقني حبَّك وحبَّ من يحبُّك وحبَّ ما يقرِّبـني إلى حبّك، وأجعل حبَّك أحبَّ إليَّ من الماء البارد».
ولتوفير مقدمات هذا الحبِّ يذكِّر القرآن بنعم الله التي لا تحصى: )وَآتَاكُم مِّن كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَتَ اللّهِ لاَ تُحْصُوهَا(([13]).
وكلَّما ازداد وعي الإنسان بنعم الله، بل وعَلِمَ أنَّ هذا الكون كلَّه خُلِقَ على أساس الرحمة الإلهية الواسعة؛ اتقدت في نفسه شعلة العواطف الواعية تجاه الله تعالى، وذاب كلُّ شيء في قبال حبِّ الله، وراح في مناجاة لحبيبه ودعاء ولهان، ونسي كلَّ ألم في سبيل تحقيق رضاه.
يقول أمير المؤمنين(ع):
«ولقد كنا مع رسول الله(ص) نقتل آباءنا وأبناءنا وإخواننا وأعمامنا ما يزيدنا ذلك إلا إيماناً وتسليماً ومضيّاً على اللقم، وصبراً على الألم، وجدّاً في جهاد العدو» [14].
ويقول في خطبة المتقين: «عظم الخالق في أنفسهم فصغر ما دونه في أعينهم»[15].
وبذلك يبلغ الحبُّ أعلى مستواه، ويرتفع عن مستواه البهيمي.
وعن الإمام الصادق(ع): «قال رسول الله(ص) لأصحابه: أيُّ عرى الإيمان أوثق؟ فقالوا: الله ورسوله أعلم، وقال بعضهم: الجهاد. فقال رسول الله(ص): «لكل ما قلتم فضل، وليس به ولكن: أوثق عرى الإيمان: الحب في الله والبغض في الله، وتولي أولياء الله والتبرّي من أعداء الله»([16]).
ولعل كون الحب والبغض من أوثق عرى الإيمان لأنهما يعنيان انغراس الإيمان في الشعور والجوارح وتحوُّله إلى عواطف مؤمنة قوية دافعة، وهو أقوى مراتب الإيمان: قال الله تعالى: )أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلَا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِن قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ( ([17]).
والمؤمن الذي لا يمتلك عاطفة متحرِّكة على ضوء الوحي قد لا يمتلك حتى صفة الإيمان: )أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ، فَذَلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ، وَلَا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ، فَوَيْلٌ لِّلْمُصَلِّينَ، الَّذِينَ هُمْ عَن صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ، الَّذِينَ هُمْ يُرَاؤُونَ ، وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ( ([18]).
وتشترك الأنظمة الإسلامية المختلفة في خلق التأكيد المجسِّد لهذه الرابطة القوية، ومنها نظام العبادات الذي يقوم بدور أساس كبير بواجباته ومستحباته، ومنها النظام التربوي والأخلاقي. وكلها تحقِّق التوازن في مجال انعكاس هذه الرابطة على عمل الإنسان، فتشيع فيه احتياجه للدين، وتعلِّمه كيفية التعبير عن تدينه، دون أن يبتلى بما سيأتي من أخطار.
هكذا ينمو الحب الإلهي إلى أروع الدرجات.. إلاّ أنه يبقى هناك خطر انقلاب هذا الحب على هدفه.. فإن أهم أخطار الانقلاب التي أصيب بها هي:
1ـ الرهبنة والانعزال والبعد عن الواقع الخارجي المعاش.
2- الاغترار بهذا الحب، وادّعاء كفاية الجنبة العاطفية فيه.
3- العنصرية والقومية فيه.
وكل من هذه الأمور يؤدّي إلى عدم قيام النظام العالمي الاجتماعي الواحد للإسلام، وإلى ضياع طاقات المسيرة الإنسانية وتفكُّك قواها وروابطها الاجتماعية، والقضاء بالتالي على الأهداف الكبرى، ومن اهمها تحقيق الوحدة الحقيقية.
ولذلك فقد نبه الإسلام المسلم إلى الواقع الذي يجب أن يكون عليه الحب، فأعطى النماذج في أناس قادة يمثلون قمة الحبِّ الإلهي الواقعي النافذ إلى المشاعر، وقدوة للمسلمين في هذا السبيل: )لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ( ([19]). وقيل لهم: إنَّ إتباعهم هو ملاك الحب الحقيقي: )قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللّهُ(([20]). ومن ثم فقد جاءت آيات توضِّح بالتفصيل من هم أولئك الذين يحبون الله حقيقة فيحبُّهم الله تعالى، وهي تؤكِّد على: أنَّ الله يحبُّ التوابين، والمتطهرين، والمتقين، والمحسنين، والصابرين، والمقسطين، والذين يقاتلون في سبيله صفاً كأنهم بنيان مرصوص على طاعته وطاعة رسوله، وأنه تعالى: لا يحب المعتدين، والمفسدين، والآثمين، والظالمين، وكل مختال فخور، والخائنين، ولا يحب الجهر بالسوء من القول إلا من ظُلِمَ، ولا يحبُّ المسرفين، والمستكبرين.
فإذا تحقق العنوان المحبوب فالحبُّ المتبادل متوقع وإلاّ فلا، وهكذا لا ينسجم أدّعاء الحبِّ مع العناوين المبغوضة.
ومما نسب إلى الإمام الصادق(ع):
هذا لعمرك في الفِعال بديعُ إن الـمحبَّ لــمن يحــــبُّ مطيــعُ
تـَعصي الإله وأنت تـُظهر حبَّه لـــو كـــــان حبُّك صادقاً لأطعته
هذا وقد نقل القرآن دعوى العنصرية في الحُبِّ وأنَّ الحبَّ الإلهي مخصوص بطائفة بشرية دون غيرها وردَّها بشدة:
)قُلْ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ هَادُوا إِن زَعَمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِيَاء لِلَّهِ مِن دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ، وَلَا يَتَمَنَّوْنَهُ أَبَدًا بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ( ([21].
)وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى نَحْنُ أَبْنَاء اللّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُم بِذُنُوبِكُم بَلْ أَنتُم بَشَرٌ مِّمَّنْ خَلَقَ يَغْفِرُ لِمَن يَشَاء وَيُعَذِّبُ مَن يَشَاء وَلِلّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ( ([22]).
وجاءت آيات لتؤكِّد أنَّ الشريعة مفتوحة للجميع، وأن لا تمايز بين أحد وآخر إلاّ بالتقوى والعلم. ولم يقع هناك تمايز تشريعي بين طائفة وطائفة إلاّ فيما كان هناك غرض تربوي واجتماعي.
حبُّ الرسول وأهل البيت والصحابة ملازمٌ لحبِّ الله تعالى:
ففي طول حبِّ الله تعالى يُركّز الإسلام على حبِّ الرسول والأئمة(ع) والصحابة الأخيار وباقي المؤمنين. وينمّي عوامل هذا الحب، حتى أن الرسول لا يسأل أجراً للرسالة إلا حبَّ أهل بيته(ع)، وهذا الأجر ليس إلاّ لصالح الأمة، لأنه شدَّها بقيادتها الحكيمة. ونحسب أننا في غنى عن ذكر النصوص الواردة في هذا السبيل لوضوحها وضرورتها.
2- الميول بالنسبة لما سوى الله:
أنَّ الإطار الذي يؤطِّر هذه الميول هو إطار (رضا الله) و(الحبُّ في الله). وهذا الإطار يضمن لنا إشباعاً متوازناً لهذه الغرائز منسجماً مع الهدف، وهذا الإشباع المتوازن يتجلّى بوضوح عندما ندرس كل ميل وهذا ما لايتسنى لنا ولكننا سنركز على مسألة حب الذات فقط.
حب الذات:
ويعبر عنه بـ (أمِّ الغرائز) باعتبار انها تستوعب دوافع الغرائز الأخرى كلها، إلا أنه قد يدّعى أنها ليست بهذا المستوى من المرجعية التامة، فهناك غرائز أصيلة لا تقوم على أساس حبِّ الذات.
وعلى أيِّ حال، فإنـَّها غريزة أصيلة كبرى، ولا يمكن للمبدأ أن يكون واقعياً إذا أنكرها أو أنكر آثارها في حياة الإنسان.
وقد أكَّدت (الماركسية) على أنها من نتائج (الوضع البرجوازي) وأنه يمكن القضاء عليها بإقامة نظام حديدي من جهة، وتحريم (الملكية الخاصة) من جهة أخرى.
فكانت بذلك مبدأ غير واقعي وغير منطقي في نظرته إلى الإنسان. كما كانت من قبل مبدأ مشككاً في مجال معرفة الواقع حقيقة.
وهذه الغريزة أمر ينمو بشكل طبيعي جداً وتظهر أعراضها في تصرُّفات الحيوان قبل الإنسان وفي أولى تصرفات الإنسان، فتستوعب الأعمَّ الأغلب من تصرفاته حتى بعض تلك التي يبدو أنها مناقضة لها.
ولا ريب في كونها ضرورية جداً لبقاء النوع الإنساني، وذلك لكي يستطاع إيصال الإنسان إلى هدفه المنشود.
ولكن قد تطغى هذه الغريزة فتتجاوز الحدَّ المطلوب، ويعدُّ الإنسان من نفسه إلهاً ويرى بعد ذلك أنَّ كلَّ شيء خارج حدود الذات أمر غير طبيعي بل هو غريب عنها.
ومن هنا اتهم المادّيون الإلهيين: بأنهم اغتربوا عن ذواتهم إذ وضعوا كلَّ مالديهم من قوىً وإمكانات في موجودات خارجة عن الذَّات، ثم قدَّموا لها الطاعة والولاء. وعليه فالمادية في نظرهم: رجوع الإنسان إلى ذاته وحصر القوى فيها.
وكانت نتيجة هذه الدعوى: تأليه الإنسان وقواه، حتى بلغ الأمر ببعض الفلاسفة أن يعلن ديناً إلههُ الإنسان، وحتى جاءت الوجودية لتقدس الإنسان.
ومع التجاوز عن كل ما في هذه المبادئ المادية من ضعف نقول: إن هذه المبادئ حَصرت الإنسان في ذاته، وفصلته عن الوجود الأكبر، وتجاوزت به حدوده ونسيت ضعفه وإمكانه، وسلبته أمنه عندما وكلته إلى نفسه.. ومن هنا نجد الوجودية تنساق بشكل طبيعي إلى القلق والهذيان والعبث والقرف وغيره، وهكذا كان كل هذا الانحراف تعبيراً واضحاً عن طغيان (غريزة حبِّ الذات) على سائر الغرائز وعلى الحقيقة نفسها )وَمَن يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاء فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ( [23].
)قُلْ أَنَدْعُو مِن دُونِ اللّهِ مَا لاَ يَنفَعُنَا وَلاَ يَضُرُّنَا وَنُرَدُّ عَلَى أَعْقَابِنَا بَعْدَ إِذْ هَدَانَا اللّهُ كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ الشَّيَاطِينُ فِي الأَرْضِ حَيْرَانَ لَهُ أَصْحَابٌ يَدْعُونَهُ إلى الْهُدَى ائْتِنَا قُلْ إِنَّ هُدَى اللّهِ هُوَ الْهُدَىَ وَأُمِرْنَا لِنُسْلِمَ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ( ([24]).
وهكذا قدر لهذه الغريزة أن تكون موضع جدل عميق جداً وأخذ ورد، فتارة تشبع حتى تطغى! وأخرى تكبت حتى لا تجد لها متنفساً! وكلا الحالين أمر لا ينسجم مع المسيرة المتوازنة للإنسان.. وذلك الإشباع وهذا الكبت نشآ في الواقع من وجهتي نظر مختلفتين في مجال حل المشكلة الإجتماعية الإنسانية، وهي مشكلة معرفة (النظام الأصلح) و تطبيقه.
وكان أهمّ ما يواجه الإنسان هذا التعارض الذي يظهر بصورة طبيعية بين المصالح الذاتية والمصالح الاجتماعية، فلابد أن تتنحى إحداهما حتى يسير الركب، ومن هنا كان البعض من أنصار كبتِ المصالح الفردية وتقديم المجتمع، في حين فضَّلَ الآخرُ تقديمَ المصالح الفردية على المصالح الإجتماعية وكبت متطلبات المجتمع.
وقد رفض الإسلام كلتا النظريتين، مؤكداً، على أنهما توقعان الاختلال في مسيرة الإنسانية الصاعدة ومركزاً على حل التعارض بأفضل حلٍّ متصوِّر، وذلك عبر الخطوات التالية:
أولاً: يبدأ قبل كل شيء بتعيين مركز الإنسان من الكون. وقد مرَّ بعض الحديث في هذا الجانب، وخلاصته: إن الإنسان موجود خلقه الله الكامل المطلق خالق الكون، ذو القدرة، والعلم، والحياة المطلقة، لأجل أن يعمر الأرض من خلال ممارسة حياة اجتماعية طويلة، ووضع له تشريعاً في سبيل ذلك.
ثانياً: وعلى ضوء الخطوة الأولى يُنمّي في المسلم حبَّ الله تعالى حتى يصل إلى الحد الذي يضحي فيه بذاته في سبيله تعالى، كما مرَّ.
ثالثاً: ثم يربط بين التقرُّب إلى الله والحياة الاجتماعية، ليكون سبيل الله يعني سبيل العمل لصالح الرسالة، وتحقيق رضا الله في الأرض ونشر تعاليمه بين الناس، وفي خدمة المؤمنين ورفع أدوائهم ونقائصهم، وإشاعة الأخلاق الحسنة بالإضافة إلى التكامل الفردي:
)مَّن ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ( ([25]).
)وَلاَ تَقُولُواْ لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبيلِ اللّهِ أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاء وَلَكِن لاَّ تَشْعُرُونَ( ([26]).
)إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَالَّذِينَ هَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ أُوْلَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ اللّهِ( ([27]).
)مَّثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنبُلَةٍ مِّئَةُ حَبَّةٍ وَاللّهُ يُضَاعِفُ لِمَن يَشَاء( ([28]).
وهكذا يرتبط سبيل الله بخدمة المجتمع خدمة يأذن بها الله ويراها لصالحه.
رابعاً: وعلى ضوء الخطوة الثالثة، يبدأ الإسلام بتربية أخلاقية طويلة المدى، من خلال نظم عديدة (كنظام العبادات، والنظام التربوي والأخلاقي، ونظام الأسرة وغيرها) كلها تؤكد على تنمية الحسِّ الإجتماعي فيه، وتعمل على تربية الوجدان والضمير الأخلاقي في الإنسان، وتركِّز على أن يرتبط بعلاقات مودة كبرى مع مجتمعه المؤمن خاصة ومع مجتمعه الإنساني عامة.
خامساً: وبعد هذا يعمل على أن يذكر الإنسان بالمنابع الكبرى التي تنفذ عبرها غريزة حبِّ الذات فتنمِّي نفسها وتطغى لتنتهي بتلك الصور. وكمثل لذلك: نلاحظ موقف الإسلام من كل من عنصري الغفلة والتكبُّر، وهما منفذان كبيران للذاتية.
سادساً: ومع كل هذا يأتي دور أصيل يشكل نقطة الحل الرئيسة، وهو الدور الذي يجعل المسألة الفردية والمسألة الاجتماعية أمراً واحداً، وهي تلك المعجزة التي عجزت عنها جميع الأنظمة الوضعية؛ وذلك بتركيز الاعتقاد بالآخرة، وإعطاء صورة واضحة عنها. وحينذاك، فالذات الإنسانية واحدة في كلا الحالين جميعاً، وعندها يكون التنازل البسيط المؤقت في هذه الحياة القصيرة عن بعض اللذات لصالح المجتمع الذي يحبه، ولصالح رقي الإنسانية وهو عضو فيها، ويكون هذا التنازل موجباً لإشباع النفس والذات عينها بأسمى أنواع الإشباع بدخولها جنَّة الخلد والرضا، وخلاصها من عذاب الخلدِ في النيران.
)مَا كَانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُم مِّنَ الأَعْرَابِ أَن يَتَخَلَّفُواْ عَن رَّسُولِ اللّهِ وَلاَ يَرْغَبُواْ بِأَنفُسِهِمْ عَن نَّفْسِهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ لاَ يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلاَ نَصَبٌ وَلاَ مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَلاَ يَطَؤُونَ مَوْطِئًا يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَلاَ يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَّيْلاً إِلاَّ كُتِبَ لَهُم بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ إِنَّ اللّهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ ، وَلاَ يُنفِقُونَ نَفَقَةً صَغِيرَةً وَلاَ كَبِيرَةً وَلاَ يَقْطَعُونَ وَادِيًا إِلاَّ كُتِبَ لَهُمْ لِيَجْزِيَهُمُ اللّهُ أَحْسَنَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ( ([29]).
وقد كانت الآيات الشريفة دقيقة غاية الدقة عندما ضربت على وتر إشباع الذات إشباعاً خالداً في قوله تعالى: )وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الْأَنفُسُ وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ وَأَنتُمْ فِيهَا خَالِدُونَ( ([30]).
)وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ( ([31]).
)لَا يَسْمَعُونَ حَسِيسَهَا وَهُمْ فِي مَا اشْتَهَتْ أَنفُسُهُمْ خَالِدُونَ( ([32]).
وهكذا يتحول العمل الصالح لصالح المجتمع؛ لصالح النفس في الوقت نفسه:
)وَمَا تُقَدِّمُواْ لأَنفُسِكُم مِّنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِندَ اللّهِ( ([33]).
)وَمَا تُنفِقُواْ مِنْ خَيْرٍ فَلأنفُسِكُمْ( ([34]).
ويكون المتاع الدنيوي المنحرف ظلماً وبغياً على النفس:
)أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا بَغْيُكُمْ عَلَى أَنفُسِكُم مَّتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا( ([35]).
وهكذا )إِنْ أَحْسَنتُمْ أَحْسَنتُمْ لِأَنفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا( ([36]).
)كُلُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَمَا ظَلَمُونَا وَلَكِن كَانُواْ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ( ([37]).
)وَلاَ يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِّأَنفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُواْ إِثْمًا وَلَهْمُ عَذَابٌ مُّهِينٌ(([38]).
)وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُواْ أَنفُسَهُم( ([39]).
)وَسَيَحْلِفُونَ بِاللّهِ لَوِ اسْتَطَعْنَا لَخَرَجْنَا مَعَكُمْ يُهْلِكُونَ أَنفُسَهُمْ وَاللّهُ يَعْلَمُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ(([40]).
فالنفس الإنسانية تباع في الدين لله وللرسول(ص) وللأئمة(ع) وللمؤمنين ليعوَّض عنها بالجنة:
)إِنَّ اللّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُم بِأَنَّ لَهُمُ الجَنَّةَ( ([41]).
)النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنفُسِهِمْ( ([42]).
وخاطب الرسول(ص) المؤمنين قائلاً:
«ألست أولى بكم من أنفسكم؟» قالوا: بلى، فقال: «فمن كنت مولاه فعليٌّ مولاه»[43].
وقد جاء في (نهج البلاغة) قول أمير المؤمنين(ع):
«إنَّه ليس لأنفسكم ثمن إلا الجنة فلا تبيعوها إلا بها» ([44]).
وما أكثر الآيات والأحاديث الواردة في هذا المعنى، وكلها تنتج هذا الحل الوحيد للمشكلة الإجتماعية المستعصية. فلا يبقى – والحال هذه – إلاّ طريق الإسلام المتوازن تماما فحسب، والا التضحية في سبيل المجتمع والسير لتحقيق الوحدة المنشودة.
وهكذا رأينا:
أنَّ غريزة حبِّ الذات غريزة طبيعية تنمو بشكل طبيعي ولا تحتاج إلى تربية منمية، وإنما تحتاج إلى تهذيب وتوجيه، وتحديد مصاديق الذات ومداها، وتنبيه على سبيل إشباع اللذات الإنسانية، وإن كان شعور النفس ببعض اللذات المعنوية يحتاج إلى تربية عملية صحيحة ليكون إشباعها إشباعاً لهذه الغريزة في الوقت نفسه.
النقطة الرابعة : الإرادة مظهر الذات:
وتشكِّل الإرادة الإنسانية المظهر الأساس للذات الإنسانية، وقوتها تعبر عن قوتها، والعكس بالعكس. كذلك تشكل الإرادة حركة نفسية تتبع التعقل، فالعلاقة بينهما علاقة قويَّة جداً، ومن هنا فكلما كان التعقل قوياً ورفيعاً سارت الإرادة معه في تساميه، وإذا هبط عنصر التعقل توقعنا للإرادة النزول تدريجياً. وكذلك نقول: إن ضعف الإرادة وعدم تقويتها ربما يسري إلى ضعف التعقل.. فإذا كانت التربية واقعية نظرت للأمرين المتفاعلين معاً، ولم تهمل أحدهما على حساب الآخر. وعليه فما هو موقف الإسلام من الإرادة نفسها؟
إن الإسلام يفرِّق بين الإرادة الواعية التي يوجِّهها العقل، والإرادة الطاغية العنود، فيؤكِّد على الأولى ويرفض الثانية بنفس المستوى الذي يرفض فيه حالات موت الإرادة وضعفها. فلنستعرض حالات الإرادة في الإنسان، وكيف عالج الإسلام الحالات المرفوضة منها.
الحالة الأولى: ضعف الإرادة
وهي في الواقع ونظر الإسلام الواقعي حالة غير طبيعية، وفق ما عرفناه من دور لها سابقاً وهذه الحالة غير الطبيعية تنتج فقدان الشخصية الإنسانية أو ضعفها، وإذا فقدت الشخصية الإنسانية فقد الإنسان إمكان اتخاذ شخصية أخرى متفرعة عليها، كالشخصية الإسلامية، ذلك أن الإرادة هي أحد الركنين المقوِّمين لها.
والركن الثاني الذي يجب ان تعمل في إطاره الإرادة هو التعقل وهما معاً يشكِّلان الشخصية الإنسانية المميزة عن الحيوان.
كما ينتج عن ذلك بعض أنماط التقليد في العقيدة، حيث لا يمتلك الإنسان مبرراً ودافعاً لأن يتخذ موقفاً محدَّداً من الواقع – ومن ضمنه العقيدة الصحيحة – وإنما يلجأ إلى عقائد جاهزة. والأغلب أن تكون هذه العقائد الجاهزة هي العقائد الموروثة من القبيلة أو البيئة ليعتنقها مشبعاً بها بعض متطلبات نفسه. وحتى لو أحسَّ بضرورة تغيير ما يعيشه من ظروف، إلاّ أنه لا يمتلك المقوِّمات التي تسمو به على واقعه المعاش ليغيره نظراً للتهافت في أركان شخصيته. وأقلُّ ما تعني هذه الحالة أن تستهلك المسيرة الإنسانية عناصر قوتها وتجمد على ما تملكه، دون أن تعمل على أن تصدق مع ذاتها وشعارها لأنها مسيرة نحو الكمال.
ثم إنه ينتج من ضعف الإرادة – مع غض النظر عما سبق – تأرجح في السلوك، ولا مبالاة مقيتة بالهدف.. وواضح أن الالتزام بالمقررات والقوانين التي يؤمن بأسسها الإنسان أمر لا يمكن الاستغناء عنه لتكوين المجتمع الصالح ودفعه، بل يكاد يمتلك الإلزام جذوراً أصيلة في النفس ذاتها والالتزام فرع قوة الإرادة ووعيها فإذا ضعفت مال صاحبها مع كل ريح ونعق مع كل ناعق، ولم يؤمَن عليه مطلقاً أن ينقض كل الالتزامات عليه لميول معينة.
كما ينتج عن ذلك أيضاً: طغيان كبير للغرائز وتحكم كبير أهوج لها في سلوك الإنسان. وحينذاك فالفوضى وعدم التوازن في المشتهيات النفسية الجامحة.
وقديماً قال أمير المؤمنين(ع):
«إن أخوف ما أخاف عليكم إثنان: إتباع الهوى، وطول الأمل».
ومن هنا يمكن أن نفهم التأكيد الشديد لأعداء الأمة على تمييع الشباب وتحطيم إرادته، ودفعه نحو اللامبالاة واتباع الغرائز الشهوانية دون أي تقيُّد بأيِّ رادع أو وازع روحي، وذلك بشتى الأساليب المثيرة للغرائز والمحطمة للشخصيَّة من سينما وتلفزيون وصحف خلاعية وغيرها مما تعجُّ بها بلادنا الإسلامية، لا بل يعجُّ بها العالم كله نتيجة اليد الصهيونية أو الرأسمالية الجشعة.
ولعل أهم ناتج لذلك الضعف الإرادي هو الضعف العقلي والتفكيري الذي ينجرُّ إليه المرء، ذلك أن العقل يعمل ويعمل متى ما يجد أن نتائجه تنعكس في إرادة الإنسان وسلوكه، فهو يعبِّر عن نفسه من خلال تلك الإرادة والسلوك الذي يتبعانه، أما إذا لم يجد أذناً صاغية وهمَّة عالية هادفة فإنه يعيش حالة خمول وكسل، وهي خسارة وما بعدها خسارة.
والواقع: أن كل ما ذكرناه من تزلزل الشخصية، وفقدان القدرة على التغيير، والتأرجح في السلوك واللامبالاة، وطغيان الشهوات، والخمود العقلي.. هي أمراض فرديَّة واجتماعية، فإذا ابتلي بها المجتمع فقد وجوده الحضاري الموجه المتعالي، وإن ظلَّ مثلاً يحتفظ بشيء من وجوده التكنيكي المتقدم.. وفي مثل هذا المجتمع اللاملتزم يصعب أن ينمو فرد بشكل طبيعي ليرجعه إلى حالته العقلية المبدعة.
علاج الإسلام لهذه الحالة:
وتختلف أساليب العلاج الإسلامي لهذه الحالة، إلاّ أنها تتفق جميعها على تنمية الجانبين المترابطين معاً: (التعقل والإرادة) – كما أشرنا إليه – ويمكن أن نذكر منها مايلي:
1ـ التوصيات المباشرة لتنمية الإرادة والعقل:
أما التوصيات المباشرة لتنمية العقل فنجدها في كثير من الروايات التي تمجِّد العقل وتجعله نبيَّ الباطن، وتجعله أساس الخير، وبه عُرِفَ الله، وبه يُعبَدُ، وكذلك الآيات الداعية للتفكر في خلق السموات والنعم الإلهية، والتدبُّر في الحكمة. وهي إذ تمجِّد العقل والتعقُّل والتفكّر، وتؤكد على ان الإنسان إنما هو بعقله، لتلتفتُ إلى حالة الإفراط التي تصيب الإنسان في تعقله، فتذكِّره بأن عقله وإن كان مطلقاً في عمله إلا أنه محدود، ولا يمكنه أن يدرك كل الحقائق، بل عليه أن يستمد من الوحي الكثير من المعلومات، وتعلمه: «أنَّ دين الله لا يصاب بالعقول». (الإمام الصادق-ع-) إذ أن الملاكات والمصالح بيد الله، وتؤكد له على عنصر التعبُّد كما مرَّ.
وهكذا نجد التأكيد الكبير على أن يمتلك الإنسان إرادته أمام الشهوات وأنَّ الشجاعة الحقيقية هي امتلاك السيطرة على النفس، وعدم اتباع هواها، وامتلاك زمام المبادرة في اختيار الطريق. ومن هذا القبيل نصوص المحاسبة التي تحرِّك الإنسان ليقوم بإرادته بمحاسبة نفسه كما في الحديث: «حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا وزنوها قبل أن توزنوا».
ويصف الإمام علي(ع) السالك الطريق إلى الله سبحانه، فيقول: «قد أحيا عقله، وأمات نفسه، حتى دقَّ جليله، ولطف غليظه، وبرق له لامع كثيرُ البرق، فأبانَ له الطريق، وسلك به السبيل، وتدافعته الأبواب إلى باب السلامة، ودار الإقامة، وثبتت رجلاه بطمأنينة بدنه في قرار الأمن والراحة، بما استعمل قلبَه، وأرضى ربه» ([45]).
ومن قصَصِ القرآن يمكن أن نختار قصة طالوت والجنود:
)أَلَمْ تَرَ إلى الْمَلإِ مِن بَنِي إِسْرَائِيلَ مِن بَعْدِ مُوسَى إِذْ قَالُواْ لِنَبِيٍّ لَّهُمُ ابْعَثْ لَنَا مَلِكًا نُّقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللّهِ قَالَ هَلْ عَسَيْتُمْ إِن كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ أَلاَّ تُقَاتِلُواْ قَالُواْ وَمَا لَنَا أَلاَّ نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِن دِيَارِنَا وَأَبْنَآئِنَا فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ تَوَلَّوْاْ إِلاَّ قَلِيلاً مِّنْهُمْ وَاللّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ، وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكًا قَالُوَاْ أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِّنَ الْمَالِ قَالَ إِنَّ اللّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ وَاللّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَن يَشَاء وَاللّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ، وَقَالَ لَهُمْ نِبِيُّهُمْ إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَن يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ فِيهِ سَكِينَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَبَقِيَّةٌ مِّمَّا تَرَكَ آلُ مُوسَى وَآلُ هَارُونَ تَحْمِلُهُ الْمَلآئِكَةُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لَّكُمْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ، فَلَمَّا فَصَلَ طَالُوتُ بِالْجُنُودِ قَالَ إِنَّ اللّهَ مُبْتَلِيكُم بِنَهَرٍ فَمَن شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَن لَّمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي إِلاَّ مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ فَشَرِبُواْ مِنْهُ إِلاَّ قَلِيلاً مِّنْهُمْ فَلَمَّا جَاوَزَهُ هُوَ وَالَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ قَالُواْ لاَ طَاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنودِهِ قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُم مُّلاَقُو اللّهِ كَم مِّن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللّهِ وَاللّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ، وَلَمَّا بَرَزُواْ لِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالُواْ رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ ، فَهَزَمُوهُم بِإِذْنِ اللّهِ وَقَتَلَ دَاوُدُ جَالُوتَ وَآتَاهُ اللّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَاء وَلَوْلاَ دَفْعُ اللّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَّفَسَدَتِ الأَرْضُ وَلَكِنَّ اللّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ[46](
وكذلك قصة الجرحى الذين تحرك بهم النبي(ص) لملاحقة المشركين بعد معركة أحد. وفي مقابلها قصة ضعف آدم، ويونس على نبينا وآله وعليهما السلام.
2- التحسيس بالهدف والواجب والموقع وأمثالها:
وهو أسلوب مهمٌّ جداً، فكم نرى من أناس يعيشون حالةً مؤسفة إذا ذُكِّروا بها وبعواقبها، وعرض عليهم حالهم بوجوهه المقيتة انتفضوا وتحركوا وغيَّروا وضعهم.. والإسلام إذ يواجه حالة ضعف الإرادة يقوم بعملية التذكير بالموقع السامي الذي يمتلكه الإنسان من الكون كخليفة لله في الأرض، وكمجعول من قبل أكبر الحقائق الكونية لأعمار الأرض، وكموجود سُخِّرت له المخلوقات وفُضِّل بما يمتاز به على جميعها فضِّل بالعقل والإرادة المنفذة لنتائج التعقُّل، وبهذا كان كريماً يباهي الله به الملائكة إذا سلك الصراط السويَّ. كما ينصبُّ التحسيس الإسلامي على الفرق بين الحياتين: حياة الاستسلام للشهوة، وحياة السيطرة عليها. والحياة الأولى لا معنى لها في المنطق الصحيح، وهكذا.. وإذا شعر الإنسان بهذه الأمور ترفَّع – بلا ريب – عن المستوى المنحط، وعلت همته ونفسه:
«وإذا كانت النفوس كباراً تعبـــت فــي مرادها الأجسام»
3- تربية الإرادة الواعية عبر الصوم والحج والمستحبات
وإذا رجعنا إلى بعض النظم - وخصوصاً نظام العبادات – وجدنا فيه أروع تربية للإرادة الواعية.
ففي الصوم – مثلاً – نجد أن التركيز كله ينصبُّ على تربية إرادة الإنسان الواعية، أو كما يعبَّر عنه في الروايات بالصبر، وليس هو إلا امتلاك الإرادة القويَّة في ظل أوامر الله ونواهيه.. وهذا ما ورد في روايات عديدة.
عن رسول الله(ص):
«الصبر ثلاثة: صبر عند المصيبة، وصبر على الطاعة، وصبر على المعصية» ([47]).
وهكذا الصوم صبرٌ على عدم القرب إلى أمسِّ الأشياء به (الطعام والجنس) وذلك قربة إلى الله تعالى وإخلاصاً له.
وهكذا نجد الأمر في الحج، حيث يحرم على الحاج المحرم بعض المحرمات التي تمس حياته اليومية تقريباً، فيطلب منه أن يكون دقيقاً في التنفيذ، وفي جوٍّ من قصد القربة.. وهو بذلك يري إرادته القويَّة للقيام بحق العبودية لله، واجتناب الطاغوت، والصراع ضدَّ مظاهره المتنوعة، وذلك باعتبار ان الحج يستهدف تحقيق هدف الأنبياء جميعاً، وما بعثوا إلا لهذين الهدفين.
) وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولاً أَنِ اعْبُدُواْ اللّهَ وَاجْتَنِبُواْ الطَّاغُوتَ( ([48]).
ويمكن هنا أن نضيف إليهما بعض المستحبات، التي تحدَّثنا عن تأثيراتها الكبرى في إيجاد العزيمة الذاتية عند المسلم. وترفعه نحو بناء المجتمع الموحد.
هذا بالإضافة إلى التلقينات النافذة التي تلقيها الصلوات في نفس المسلم، وهكذا الأدعية المختلفة من مثل: «واستعملني بطاعتك…».
4- تقديم النماذج العملية المتمثلة في القادة:
وليس بغريب على الإسلام أن يقدم هذه النماذج الحسية العالية بعد أن اعتمد هذه الطريقة في مختلف الشؤون. فالمسلم إذ ينشدُّ فكرياً وعاطفياً إلى المثل الأعلى، ويشاهد بأمِّ عينه تضحيات النبي(ص) الجسيمة وصموده وبسالته الواعية في سبيل الحق بحيث لو وضعوا الشمس في يمينه والقمر في يساره ما ولّى عن الدعوة إلى الله ومواقف الأبطال المسلمين في صدر الإسلام، ومنها مواقف الإمام الحسن بن علي(ع) أو الحسين(ع) في معركته الخالدة النتائج وغيرهم.
إن استعراض مواقف هؤلاء القادة ليملأ النفس وعياً وثباتاً على الحق.
ويقرب من هذا حكاية القرآن العظيم لقصص الثبات على الحق للأنبياء والمؤمنين في سبيل الحق.. فإن المسلم إذ يقرأ الآيات التالية تتجلَّى في ضميره الحقيقة المربية للإرادة:
)وَجَاء مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَى قَالَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ، اتَّبِعُوا مَن لاَّ يَسْأَلُكُمْ أَجْرًا وَهُم مُّهْتَدُونَ، وَمَا لِي لاَ أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ، أَأَتَّخِذُ مِن دُونِهِ آلِهَةً إِن يُرِدْنِ الرَّحْمَن بِضُرٍّ لاَّ تُغْنِ عَنِّي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا وَلاَ يُنقِذُونِ، إِنِّي إِذًا لَّفِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ، إِنِّي آمَنتُ بِرَبِّكُمْ فَاسْمَعُونِ( ([49]).
)إِذْ قَالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِندَكَ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِن فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ(([50]).
)فَاقْضِ مَا أَنتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا( ([51]).
)قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِن شَاء اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ( ([52]).
بمثل هذه الأساليب وغيرها عالج الإسلام هذه الحالة الإرادية المرَضية:
الحالة الثانية: طغيان الإرادة
وهي حالة طغيان الإرادة حتى على التعقل أو قوتها مع ضعف التعقل، وهي حالة مرَضية لا إنسانية يرفضها الإسلام أيضاً، فإنها تنتج الحدة في كل المواقف وذلك أمر ينافي الحكمة كما يؤدي إلى عدم الالتزام، وتبتلي الإنسان بمرض العناد المعبر عن إرادة عمياء.. ومن نتائجها الثقة المفرطة بالنفس، وهي من مهالك الإنسان ومزالقه، لأنها تتنافى مع التوكل الذي يريد الإسلام أن يشعر الإنسان به دائماً وأن القوّة والعزّة من الله دائماً.. وإذا استحكمت هذه الحالة جرَّت إلى التكبُّر، وهو من أشد الأمراض النفسية، والقرآن يؤكِّد أن سر العصيان الأول وبالتالي كثير من المعاصي الأخرى إنَّما هو التكبُّر الذي ابتلي به إبليس ففسق عن أمر ربه.
علاج الإسلام:
وبملاحظة علاج الإسلام للحالة السابقة نعرف موقفه من هذه الحالة، إذ أن نفس تربية الإرادة ضمن الوعي، أو نفس تربية التعقل والالتزام، له تأثيره الكبير هنا، يضيف الإسلام هنا، أن يذكر الإنسان بضعفه وواقعه، وكيف أنه لا يقوى على شيء مما تمده العناية الإلهية، ويذكّره بأصله الذي لا يكاد يذكر لولا مدد الله:
)يُرِيدُ اللّهُ أَن يُخَفِّفَ عَنكُمْ وَخُلِقَ الإنسان ضَعِيفًا( ([53]).
)اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِن بَعْدِ ضَعْف قوةٍ( ([54]).
)الآنَ خَفَّفَ اللّهُ عَنكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا( ([55]).
)خَلَقَ الإنسان مِن نُّطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُّبِينٌ( ([56]).
)قُتِلَ الإنسان مَا أَكْفَرَهُ، مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ، مِن نُّطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ ، ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ، ثُمَّ أَمَاتَهُ فَأَقْبَرَهُ، ثُمَّ إِذَا شَاء أَنشَرَهُ، كَلَّا لَمَّا يَقْضِ مَا أَمَرَهُ( ([57]).
)يَا أَيُّهَا الإنسان مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ، الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ ، فِي أَيِّ صُورَةٍ مَّا شَاء رَكَّبَكَ(([58]).
ويقول أمير المؤمنين(ع):
«أم هذا الذي أنشأه في ظلمات الأرحام وشغف الأستار، نطفة دهاقاً، وعلقةً محاقاً، وجنيناً وراضعاً، ووليداً ويافعاً، ثم منحه قلباً حافظاً، ولساناً لافظاً، وبصراً لاحظاً، ليفهم معتبراً، ويقصر مزدجراً؛ حتى إذا قام اعتداله، واستوى مثاله، نفر مستكبراً، وخبط سادراً، ماتحاً في غرب هواه، كادحاً سعياً لدنياه، في لذّات طربه، وبدوات أربه، ثم لا يحتسب رزيَّة ولا يخشع تقيَّة، فمات في فتنته غريراً، وعاش في هفوته يسيراً»[59].
ومن الأمثلة الرائعة التي يضربها القرآن على ضعف الإنسان مهما بلغ من القوة والوسائل المقوية، (قصة سليمان بن داود) النبي المؤمن صاحب القوة والسلطان الذي لا تتصور البشرية فعلا له مثيلاً، بحيث سخر له الريح والطير والجن بحيث يمكن لأحدهم أن يحمل عرش ملكة سبأ في أقل من طرفة عين.
)يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَاء مِن مَّحَارِيبَ وَتَمَاثِيلَ وَجِفَانٍ كَالْجَوَابِ وَقُدُورٍ رَّاسِيَاتٍ اعْمَلُوا آلَ دَاوُودَ شُكْرًا وَقَلِيلٌ مِّنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ، فَلَمَّا قَضَيْنَا عَلَيْهِ الْمَوْتَ مَا دَلَّهُمْ عَلَى مَوْتِهِ إِلَّا دَابَّةُ الْأَرْضِ تَأْكُلُ مِنسَأَتَهُ فَلَمَّا خَرَّ تَبَيَّنَتِ الْجِنُّ أَن لَّوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ مَا لَبِثُوا فِي الْعَذَابِ الْمُهِينِ( ([60]).
وهذه القصة يذكرها القرآن في سياق عجز الإنسان أمام القدرة الإلهية، حيث يقول قبلها بقليل )أَفَلَمْ يَرَوْا إلى مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُم مِّنَ السَّمَاء وَالْأَرْضِ إِن نَّشَأْ نَخْسِفْ بِهِمُ الْأَرْضَ أَوْ نُسْقِطْ عَلَيْهِمْ كِسَفًا مِّنَ السَّمَاء إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِّكُلِّ عَبْدٍ مُّنِيبٍ([61]).
وللإمام أمير المؤمنين(ع) تذكير رائع بضعف الإنسان وعدم خلوده إذ يقول(ع):
«أوصيكم عباد الله بتقوى الله الذي ألبسكم الرياشَ، وأسبغ عليكم المعاش.. فلو أن أحداً يجد إلى البقاء سلَّماً أو لدفع الموت سبيلاً، لكان ذلك سليمان بن داوود (ع) الذي سخر له ملك الجن والأنس، مع النبوَّة وعظيم الزلفة، فلما استوفى طعمته، واستكمل مدَّته، رمته قِسيُّ الفناء بنبال الموت، وأصبحت الديار منه خالية، والمساكن معطَّلةً، وورثها قوم آخرون…» ([62].
وما أكثر القصص التي تتحدث عن من طغى وتجبَّر، فقصمه الله سبحانه وتعالى.
وإذا تذكَّر الإنسان ضعفه ووظيفته عاد إلى صوابه.
وبعد هذا.. تأتي الروايات الكثيرة التي تذمُّ التكبُّر والعناد الصَّلِف والعجب. كما مضى شيء من ذلك عند البحث عن التسليم، ونحن نذكر هنا بعض ما ورد هذا:
)سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ( ([63]).
وعن الإمام الباقر(ع):
«الكبر رداء الله، والمتكبِّر ينازع الله في ردائه»([64].
والرواية التالية توضح النقص الكبير، وان ظنه المتكبر كمالاً.
يقول الإمام الصادق(ع):
«ما من أحد يتيه إلا من ذلة يجدها في نفسه» ([65]).
وقد حَلَل علماء الأخلاق (رحمهم الله) هذه الصفة وأبرزوا جوانبها ومختلف علاجات الإسلام لها، فلتراجع بحوثهم، وكمثال قرآني على الإرادة المعاندة نلاحظ ابن نوح وأولئك الذين كانوا يقولون:
)اللَّهُمَّ إِن كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِندِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِّنَ السَّمَاء أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ( ([66]).
)سَأَلَ سَائِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ، لِّلْكَافِرينَ لَيْسَ لَهُ دَافِعٌ( ([67]).
ومن جوانب علاج هذه الحالة: تنمية روح التوكل عند الإنسان والتذكير بـإرادة الله الحاكمة على كل شيء، وان النصر من عند الله:
)وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِندِ اللّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ( ([68]).
)وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ( ([69]).
ومن الرائع: أن نلاحظ أن كل تربية على الأقدام والشجاعة والإرادة تقريباً، تقرن بما يعطي الاستمداد من الله، وإن الله هو الممدُّ لكل شيء:
)وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللّهَ رَمَى( ([70]).
وقد أوصى أمير المؤمنين(ع) ابنه محمداً بوصايا حربية وختمها بذلك إذ قال:
«تزول الجبالُ ولا تزل، عضَّ على ناجذك، أعِرِ الله جمجمتك، تد في الأرض قدمك، ارم ببصرك أقصى القوم وغُصَّ بصرك. واعلم أن النصر من عند الله سبحانه».
هذا وكل ما ذكرناه كان بعض العلاج الإيجابي لهاتين الحالتين المرضيتين، أما علاج التخويف بعذاب الدنيا وفوقه عذاب الآخرة فهو صاحب الدور الرئيسي في ردع المفرط وتقديم المتأخر المتكاسل.
الحالة الثالثة: حالة الإرادة الواعية
وهي الحالة التي تنسجم مع الواقع الإنساني بشهادة الوجدان، والتي يقبلها الإسلام، محققاً توازناً في الإشباع، وانسجاماً بين الطاقات والهدف، ومعطياً مجالها العلمي الصحيح. ودافعاً نحو الوحدة في الشخصية الفردية وبالتالي الوحدة الإسلامية العامة.
وفي الختام :
ندعو كل المسؤولين التربويين لاستحضار النظرة الإسلامية للإنسان، والأساليب التي اتبعها لتحقيق التوازن في شخصيته، وتفجير طاقاته وضمان قدرته على تحقيق الهدف من خلقته ليحقق الفرد الكامل العابد والمجتمع الكامل الواحد المنشود.
وبدون هذا الاستحضار فإننا نعتقد ان عملية التربية ستفشل في تحقيق الهدف المطلوب.
(يا أيها الذين آمنوا استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم). ([71])
[1]- بحار الأنوار للمجلسي ج1 ص ،98، غريب الحديث للهروي، ج 1، ص 241.
[2]- الفرقان: 43.
[3]- سورة البقرة آية 143.
[4]- عوامل الجذب والدفع في شخصية الإمام للشهيد المطهري ص 46 (بتلخيص).
[5]- الروم: 21.
[6] - الفتاوى الواضحة: نظام العبادات، ص 708، ط 7.
[7] - الانشقاق/ 6.
[8] - المائدة/ 54.
[9] - التوبة/ 108.
[10] - البقرة/ 165.
[11] - التوبة/ 23 - 24.
[12] - الأخلاق، عبد الله شبر، ص 284 – 286، منشورات بصيرتي، قم - إيران.
[13] - إبراهيم/ 34.
[14] - نهج البلاغة، صبحي الصالح، ط 56، 91 - 92.
[15] - المصدر السابق، ط 193، ص 303.
[16] - أصول الكافي، ج 2، ص 126.
[17] - الحديد/ 16.
[18] - الماعون/ 1 - 7.
[19] - أحزاب/ 21.
[20] - آل عمران/ 31.
[21] - الجمعة / 6 – 7 .
[22] - المائدة/ 18.
[23] - الحج/ 31.
[24] - الأنعام/ 71.
[25] - البقرة/ 245.
[26] - البقرة/ 154.
[27] - البقرة/ 218.
[28] - البقرة/ 261.
[29] - التوبة/ 120 - 121.
[30] - الزخرف/ 71.
[31] - فصلت/ 31.
[32] - الأنبياء/ 102.
[33] - البقرة/ 110.
[34] - البقرة/ 272.
[35] - يونس/ 23.
[36] - الإسراء/ 7.
[37] - البقرة/ 57.
[38] - آل عمران/ 178.
[39] - الأعراف/ 9.
[40] - التوبة/ 42.
[41] - التوبة/ 111.
[42] - الأحزاب/ 6.
[43] - حديث الغدير .
[44] - الكلمات القصار/ 456.
[45] - نهج البلاغة ، صبحي الصالح، ص 337.
[46] - البقرة/ 246 - 251.
[47] - أصول الكافي، الكليني، ج 2، ص 91.
[48] - النحل/ 36.
[49] - يس/ 20 - 25.
[50] - التحريم/ 11.
[51] - طه/ 72..
[52] - الصافات/ 102.
[53] - النساء/ 28.
[54] - الروم/ 54.
[55] - الأنفال/ 66.
[56] - النحل/ 4.
[57] - عبس/ 17 - 23.
[58] - الانفطار/ 6 - 8.
[59] - نهج البلاغة، صبحي الصالح، ص 112 - 113.
[60] - سبأ/ 34.
[61] - سبأ/ 9.
[62] - نهج البلاغة، صبحي الصالح، ص 262 - 263.
[63] - الأعراف/ 146.
[64] - الأخلاق ، شبر، ص 170، منشورات بصيرتي.
[65] - المصدر السابق، ص 171.
[66] - الأنفال/ 32.
[67] - المعارج، 1 - 2.
[68] - آل عمران/ 126.
[69] - الطلاق/ 3.
[70] - الأنفال: 17.
[71] - الأنفال: 24.