الاجتهاد ودوره في التجديد

الاجتهاد ودوره في التجديد

 

 

الاجتهاد ودوره في التجديد

 

أحمد بن محمد الشامي          

عضو مجلس الشورى اليمني

ووزير الأوقاف والإرشاد السابق

وعضو المجلس الأعلى للمجمع

العالمي للتقريب بين المذاهب الإسلامية

 

بسم الله الرحمن الرحيم

(إعلم أنه لا هلاك في المسائل الاجتهادية قطعاً، إذ المخالف فيها مصيب) الإمام أحمد بن يحيى المرتضى*

مفتتح

الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على خاتم الأنبياء والمرسلين وآله الطاهرين وصحبه المنتجبين.

وبعد:

فإنه مما يثلج الصدر ويريح الضمير أن يتنادى إلى وحدة المسلمين مثل هذا الجمع المبارك، وأن ينعقد مؤتمرهم الدولي الخامس عشر في طهران لموضوع هو من الخطورة والأهمية بمكان إلا وهو موضوع الأصالة والمعاصرة في فقه المذاهب الإسلامية.

 

والموضوع ذو صلة بواقع المجتمعات الإسلامية في الحاضر والمستقبل كما هو ذو صلة بماضيهم بكل اشراقاته ونقاط القوة والضعف  فيه،  فالتشريع الإسلامي يكتنف الحياة الإسلامية برمتها ويحدد اسس العلاقة بين الإنسان المسلم وعقيدته، وبينه وبين مجتمعه وصولا إلى علاقته بالآخر، وكل تلك العلاقات كما نراها اليوم مضطر به، يشوبها الخلط، والارتباك والجهل والتنافر مما أوقع المسلمين في حيرة من أمرهم، وأسهم مع جملة عوامل في إذكاء نار الفرقة والخلاف.. والشعور بالدونية أمام  الأمم الأخرى...، وليس معنى ذلك أنه لا توجد في دينهم وشريعتهم من أسباب القوة والمنعة والتجدد مايجيب عن مختلف اشكاليات الواقع، ولكن لأن انفصاما قد حدث بين النص والاجتهاد، لدى معظم مدراس الفكر الإسلامي والمذاهب أسلم إلى التحجر والجمود والتكرار، مما أبعد النص عن الواقع، وأبعد المجتمع عن النص بعداً يختلف  من حين لآخر ومن مكان الآخر، ومن حالة اجتهادية إلى أخرى.

 

إن الشريعة الإسلامية تتميز بميزات من شأن الالتفات إليها وايلائها حقها في التأمل والبحث أن تضيق الفجوة بين المسلمين على إختلاف مذاهبهم ومدارسهم.. وتقربهم من مقصدية الشريعة الإسلامية السامية، وتسد الفجوة مع العصر الأخذة بالاتساع..، ومن الملاحظ أنه في حين حدث تطور مذهل داخل الثقافة الإسلامية المعاصرة في مجالات العلوم الانسانية ومنها الدراسات الأدبية، والتاريخية والنقدية وغيرها من العلوم.. فقد ظل الفقه الإسلامي بمختلف نواحيه غائبا وغير متسق مع المتغيرات سواء في البلد الواحد، أو في البلدان مجتمعة.. بل إن غياب الإجتهاد والتأصيل الشرعي لكثير من القضايا الطارئة والمستجدة ترك الباب مفتوحا لمن هب ودب ليخوض مع الخائضين.. مما بلبل الصف الإسلامي ووسع في غالب الأحيان من شقة الخلاف  وقد أهتبلت بعض الانظمة والسلطات هذه الخبط عشواء لتجعل الفتوى والرأي الفقهي صادراً بأسمها ومعبرا عن سياستها وخادما لأغراضها، وقد ألحق هذا المسلك أفدح الضرر بالإسلام وأهله. وبالعلماء أنفسهم وبصورة الإسلام نفسها التي دفعت البعض إلى القول بوجود إسلامات متعددة وليس إسلاما واحداً..، وليضرب هذا البعض بمثل ذلك القول أهدافا متعددة جلها تصب في هدف الابقاء على الصف الإسلامي مفككا، وبالتالي الإبقاء على الخلافات المذهبية مستحكما.. لتستحيل معه الوحدة الإسلامية أو التقارب الإسلامي - الإسلامي، ويعزل المجتمع الإسلامي عن تطلعاته القوية لتحكيم الإسلام في الواقع والاحتكام إليه في الأمور المختلفة.

 

إن دواعي تحقيق معاصرة الفقه الإسلامي تفرضه طبيعة الشريعة الإسلامية الغراء، والحاجات المتجددة للناس في مواجهة المتغيرات، والمستجدات سواء في البلاد الإسلامية أو بالنسبة للمسلمين في الغرب/ الجاليات، وكذلك فإن علاقات المسلمين بغيرهم وبما استجد من افكار ومنظومات فكرية.. جميعها اليوم أمام مجتهدي وفقهاء هذه الأمة، والمجامع الفقهية والبحثية، وهي تشكل تحديا للتشريعات الإسلامية، لذلك فالاجتهاد والإجابة عن تساؤلات الواقع من الأمور الجوهرية للنهضة الإسلامية المنشودة، التي تجد نفسها أمام مسؤليات وتبعات حضارية حاشا الإسلام أن يقف أمامها عاجزا، ولذا فإنا نرى بأن من أهم دواعي الاجتهاد الذي إخترناه موضوعاً لمشاركتنا هذه.. تأكيد جاهزية وصلاحية الشريعة الإسلامية لكل عصر ومكان، قال تعالى: (سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق أو لم يكف بربك أنه على كل شئ شهيد).

 

ونحسب أن الغايات السامية لمثل هذا المجمع العالمي المبارك للتقريب.. قد وضع على عاتقه وأبان مثل هذه القصديات الموضوعية، من خلال إسهام العلماء الغيورين الذين انضووا تحت لواء التقريب، وشاركوا في مؤتمراته وندواته بالبحوث الرصينة والمفيدة..، وكانوا جميعا وعلى اختلاف انتماءاتهم المذهبية مظهرا من مظاهر وحدة الأمة وحرصها الجلي على التقريب قولاً وعملاً، ولا غرو فهم القدوة والمرجعية.. وإذا صلح العلماء... صلحت الأمة.

 

إنني سعيد بهذا اللقاء، وتلبية هذه الدعوة التي لا تستهدف الربح وإنّما تستهدف في هدفها النبيل التبادل الثقافي الديني للخروج منها بوجه إسلامي مشرق في شريعته السمحاء، والتي ما جاءت مواكب رسالتها إلا من أجل اسعاد الإنسان وجلب مصالح العباد في المعاش والمعاد، وهي عدل كلها في  عمومياتها وكلياتها (إن الله يأمر بالعدل) (وامرت لأعدل بينكم) (وإذا قلتم فاعدلوا) وأمرها كله يدور مع العدل فاينما وجد العدل تحتم الأخذ به، وثمَّ شرع الله، وكل مسألة خرجت من العدل إلى الجور، ومن المصلحة إلى المفسدة، ومن الحكمة إلى العبث فليست من الشريعة التي هي ظل الله في ارضه وحكمته الدالة عليه وعلى صدق رسول الله o.

 

والتشريع إنما وضع ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه من القضايا التي تدور عليها حركة حياتهم، مندداً بالإختلاف وسوء عاقبته، ولم يكن في نصوص الإسلام إلا التوجيه في حكم ما هو واقع ونافع من أمور دينهم ودنياهم مانعة من السؤال فيما لا وقوع له.

 

وفق الله الجميع للقول الفصل فيما دعينا من أجله، واسمحوا لي مع إغماضكم عن التقصير والقصور بتقديم مساهمتي في المطلوب.

مشروعية الاجتهاد

يجدر بنا أن نحدد أولاً الموقع الذي يحتله مفهوم الاجتهاد داخل البنية الفلسفية التي تتأسس عليها جملة  التصورات والنظم الإسلامية المختلفة ثم تقرير مشروعية احتلاله لذلك الموقع من خلال استعراض الأدلّة النصية على ذلك. وتحديد ذلك الموقع يمكن الوصول إليه بسهولة بعد الوقوف عند هاتين المسلَّمتين:

 

أولاً: إنّ الإسلام دين واقعي.. أي أنه دين يعيش الواقع ويتحرك داخل تفاصيله موجها ومقيماً ومصححاً..

 

ثانياً: إنّ الإسلام بما هو الدين الخاتم فإن ذلك يعني أنه دين الخلود والإستمرار الذي يجب أن يصاحب مسيرة البشرية إلى ختامها.

 

وهاتان الخاصتان من خصائص الدين الإسلامي يتولد عن التسليم بهما سؤال جوهري عن فُرص تحقق الواقعية الإسلامية بعد انقطاع الوحي وفي ظل الحركة الحتمية للواقع المتغير باطراد؟ وبالتالي عن فرصة (الخلود الإسلامي) داخل هذه الحركة؟

 

وتزداد أهمية هذا السؤال بالنظر إلى حقيقة أن النص الإسلامي في جانبه التشريعي، ترك مساحات شاغرة داخل عدد من النظم السياسية والاقتصادية والاجتماعية، وهذه حقيقة لا تمثل مساساً بقدسية النص الإسلامي أو بقدسية مصدره بل هي في وجهها الآخر مظهرٌ من مظاهر حكمة المشرع الإسلامي الذي حسم بنصوص نهائية تصوراته المتصلة بالجوانب الثابتة في حياة الإنسان والمتمثلة في جانب العقيدة والإيمان وشعائر العبادات بينما اكتفى بترك الجانب المتغير في الشئون الحياتية الأخرى تحت خطوط عريضة تراعي قوانين الحركة التاريخية وما يتولد عنها من تطور في المفاهيم والأفكار.. ليسمح بذلك للإبداع الإنساني بالتحرك لملئ تلك المساحات الشاغرة وبما لا يتناقض أو يتصادم مع تلك الخطوط.

 

وهذه الخطوط العريضة هي ما تتأسس عليها نظرية (قابلية النص الإسلامي لاستيعاب المتغيرات وقدرته على التعامل معها وتقنينها) وهي النظرية التي تحمل الإجابة عن السؤال السالف كما تحمل داخلها المقتضى الأساس لمسلمتي: واقعية الدين الإسلامي وخلوده..

 

وإذا كانت حكمة المشرع الإسلامي اقتضت ان يكون النص الإسلامي ذا قابلية لاستيعاب المتغيرات والمستجدات داخل العصور المختلفة. فإن ذلك يقتضي بالضرورة وجود آليات شرعية يتم من خلالها تحويل (قابلية النص) النظرية إلى فعل متحقق.. وهنا يبرز مفهوم الاجتهاد باعتباره واحداً من أهم تلك الآليات إن لم يكن أهمها على الإطلاق.

 

هذا من الناحية العقلية. أما من الناحية النقلية، فإن الأدلة على مشروعية الاجتهاد، قائمة في الكتاب والسنة وإجماع الأمة وعمل الصحابة ومن بعدهم. وقد ادرج علماء الأُصول باب الإجتهاد ومباحثه ضمن ابوب اصول الفقه وذكروا مسائله وشروطه وغير ذلك، وهنا نذكر بعض الادلة على مشروعيته:

(1) من الكتاب العزيز:

قال تعالى: (إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق لتحكم بين الناس بما أراك الله).

-       فالآية تتضمن إقرار الاجتهاد عن طريق القياس وغيره.

وقال تعالى في القضاء بجزاء الصيد والمسلم محرم في الحرم: (يحكم به ذوا عدل منكم).

- ومعلوم أن الحكم بالجزاء يتطلب الاجتهاد في تقديره.

وقال سبحانه في تقرير نفقة الزوجات: (لينفق ذو سعة من سعته ومن قدر عليه رزقه فلينفق مما آتاه الله لا يكلف الله نفسا إلا ما آتاها).

 

- ولا يفصل بين المتشاجرين على ذلك إلا الحاكم العدل في تقدير النفقة وذلك يتطلب الاجتهاد منه.

 وكما في مفهوم نص قوله تعالى: (ما قطعتم من لينة أو تركتموها قائمة على اصولها فبإذن الله وليخزي الفاسقين).

 

والآية نزلت في حادثة اختلاف جند المسلمين حول التصرف في نخيل (بني قريظة) ففيما ذهب البعض إلى ضرورة قطعها اخزاء للعدو. ذهب البعض الآخر في اجتهاده إلى الابقاء عليها لتكون فيئاً لله ولرسوله فكان أن نزلت الآية الكريمة واضحة الدلالة في تصويب كلا الاجتهادين مع التأكيد على ان كلاً منهما قد وصل إلى مراد الله المعبر عنه بقوله تعالى (فبإذن الله).

(2) من السنة النبوية

قوله o  من حديث معاذ بن جبل حين بعثه إلى اليمن قال له:

 

(كيف تقضي إذا عرض لك قضاء؟ قال: اقضي بكتاب الله. قال: فإن لم تجده في كتاب الله، قال: أقضي بسنة رسول الله o قال: فإن لم تجد في سنة رسول الله، قال: أجتهد برأيي لا آلو. قال: فضرب بيده في صدري وقال: الحمد لله الذي وفق رسول الله لما يرضي رسول الله o).

 

ومنها حديث الإمام زيد بن علي عن ابيه عن جده عن علي A قال: (أول القضاء ما في كتاب الله تعالى، ثم ما قاله الرسول o ثم ما أجمع عليه الصالحون. فإن لم يوجد ذلك في كتاب الله ولا في السنة ولا في ما أجمع عليه الصالحون، اجتهد الإمام في ذلك لا يألوا احتياطا، واعتبر وقاس الأمور بعضها ببعض فإذا تبين له الحق امضاه ولقاضي المسلمين من ذلك ما لإمامهم).

 

ومنها قوله o: (إذا حكم الحاكم فاجتهد ثم اصاب فله اجران، واذا حكم فاجتهد ثم أخطأ فله أجر).

 

(3) من عمل الصحابة (رضي الله عنهم)

 

وأما مشروعيته من عمل الصحابة رضي الله عنهم بعد لحوق رسول الله o بالرفيق الأعلى، فمعلوم بالتواتر المنقول عنهم وعن اجتهاداتهم وفتاواهم واقضيتهم في كثير من المسائل الفقهية التي اثرت عنهم أو عن فقهائهم، وكذلك فقهاء التابعين وعلماء الأمة من بعدهم، كما أن المسائل التي اختلفت فيه اجتهادات الصحابة لا تزال معروفة ومأثورة عنهم ومنها ما اختلفوا فيه حيث لا يوجد في المسألة نص صريح من الكتاب العزيز او سنة من رسول الله o قولية او عملية ومن اختلافهم ذلك اختلافهم في عدة الأرملة المتوفى عنها زوجها حيث أفتى الإمام علي A  أن تعتد بأبعد الأجلين إعمالاً للآيتين الواردتين في عدة الحامل وعدة المتوفي عنها زوجها، وأفتى عبد الله بن مسعود رضي الله عنه بأن تعتد بأقرب الأجلين إعمالاً للآية الواردة في عدة الحامل، وكذلك اختلاف اجتهاداتهم في بعض مسائل المواريث كمقدرا ميراث الجدة مع الأخوة، وميراث الجدات أيضاً، واجتهاداتهم في اصلاح نظام الحكم بما يكفل للمسلمين مصالحهم وتنظيم شئون حياتهم.

 

كل تلك الأدلة وغيرها تؤكد على مشروعية الاجتهاد وعلى ان المشرع الإسلامي قد أعطى (الاجتهاد) مساحة واسعة في عملية التقنين والتشريع مع ملاحظة ان (الاجتهاد) إن كان في فترة التنـزيل قد بقي في خانة (الجواز) فقط. فإنه بعد انقطاع الوحي والتحاق الرسول o بالرفيق الأعلى، انتقل إلى موقع (الضرورة) والوجوب وذلك ضماناً لاستمرار وحيوية التشريعات والقوانين الإسلامية واحتوائها لكافة المتغيرات والطوارئ. ولذلك فإن طائفة كبيرة من فقهاء الأُصول كأئمة الزيدية والمعتزلة والحنابلة حين أخذوا في التنظير (للاجتهاد) ذهبوا إلى القول بأنه لا يجوز أن يخلو عصرٌ من العصور من مجتهد أو أكثر حتى لا تتوقف الفتوى ويدخل بذلك الفقه الإسلامي في حالة من الجمود والركود.

الاجتهاد والتجديد

لعله من نافلة القول التذكير بأن تجميد الحركة الاجتهادية في فترة من فترات التاريخ الإسلامي نشأ عنه ركود فقهي طويل أدى في النهاية إلى خلق هوة واسعة بين الفقه الإسلامي وبين واقع المسلمين في العصور التي تلت تلك الفترة وحتى اليوم.. وهو ما أعطى للقوانين الوضعية والتشريعات البشرية الفرصة للانتعاش ومن ثم التمدد داخل مجتمعات المسلمين مصحوبة - وهنا الامر الأهم - بعدد من التنظيرات المنحرفة التي ما كان لها أن تتسرب إلى اعماق بعض النخب الإسلامية المثقفة لولا تراخي  الفقه الإسلامي بفعل اغلاق باب الاجتهاد عن مواكبة المتغيرات (العلمية والسياسية والاقتصادية و..الخ) لا سيما منها تلك التي تسارعت منذ عصر النهضة الأوروبية وبلغت -ربما- ذروتها في التاريخ المعاصر.. وهي المتغيرات التي شكلت بمجملها  تحدياً كبيراً لنظرية (صلاحية التشريعات الإسلامية لكل المجتمعات وفي كل العصور) ومن هنا جاء تبني بعض مثقفي ما يسمى (بالتنوير) في بلدان المسلمين لنظرية (تاريخية النص الديني) وهي نظرية تقتضي تعطيل النصوص الشرعية بزعم أنها نصوص محكومة في ملابسات نشوئها بظروف تاريخية واجتماعية تجاوزها الواقع بتطوره والتاريخ بحركته..

 

والمعروف أن (التاريخية) مذهب فلسفي نشأ في عصور أوروبا القروسطية ضمن حركات الفكر المتصدية لواقع النفوذ الكنسي آنذاك..

 

غير أنه إذا كان أمكن لذلك المذهب أن ينجح في التطبيق ويزيح الكنيسة عن الفعل في الحياة الأوروبية.. فإنه لن يكتب له النجاح في الواقع الإسلامي بشرط التفات علماء المسلمين إلى واقع الفقه الإسلامي وسرعة العمل على تجسير الفجوة بينه وبين العصر بتجلياته المختلفة وذلك من خلال بعث الحركة الاجتهادية إذ أن الاجتهاد هو عنصرٌ أساس في جملة العناصر التي تمنح الفقه الإسلامي حيويته وتجدده وقدرته على استيعاب طوارئ الأزمنة والأمكنة في أي حقل كانت..

 

فالاجتهاد حسب اصطلاح الاصوليين: هو استفراغ الوسع في استنباط حكم شرعي ظني في أي مسألة من المسائل مستجدة كانت أو محل خلاف.. وهذا التعريف يعني في النهاية أن الاجتهاد عملية فكرية تهدف إلى إيجاد حالة من التواصل الدائم بين التصور الإسلامي كما هو في المصادر الرئيسة للتشريع وبين الواقع.

 

وحين يتحرك الاجتهاد بمفهومه هذا، تتولد عن حركته حركة مماثلة في الفقه الإسلامي تدفع بعمليته التقنينية إلى آخر نقطة وصلت إليها حركة الواقع، وهذا هو معنى التجديد المنشود في الفقه الإسلامي أي أن التجديد المقصود هنا ليس اعادة إنتاج مسائل الفقه القديم ذاتها بل تجديد الحياة في شرايين الفقه الإسلامي بشكل عام بما يضمن عودته إلى حكم مختلف الشئون الحياتية للمسلمين في هذا العصر وكل العصور اللاحقة.

 

 ولما كان هذا هو دور (الاجتهاد) فإن الاصوليين من علماء المسلمين الأوائل أولوه اهتماماً كبيراً، وبمقتضاه وضعوا عددا من التنظيرات والتأصيلات التي روعيت في جميعها مهمة الاجتهاد التجديدية ودوره الإحيائي ويمكن ملاحظة ذلك من خلال نماذج من تلك التأصيلات:

 

1- منع جواز أن يخلو عصر من العصور من مجتهد أو أكثر (تحدثنا عن ذلك).

 

2- أن كل مجتهد في المسائل الفرعية الظنية مصيب حسبما يذهب إليه الزيدية وبعض الحنفية وأبو الحسن الأشعري والقاضي عبد الجبار وأبو عبد الله البصري والباقلاني وغيرهم.

 

3- أكثر الفقهاء المسلمين على رأي يذهب إلى أنه لا يجوز للمكلف إذا حصلت له أهلية الاجتهاد (وفق شروطه وضوابطه المتعارف عليها) في مسألة من المسائل أن يقلد أحداً ممن سبقه. يقول الآمدي في هذا الموضوع:

 

(المكلف إذا كان قد حصلت له أهلية الاجتهاد بتمامها في مسألة من المسائل فإن اجتهد فيها وأداه اجتهاده إلى حكم فيها فقد    اتفق الكل على أنه لا يجوز له تقليد غيره من المجتهدين في خلاف ما أوجبه ظنه وترك ظنه).

 

4- إجماع الأصوليين على عدم جواز افتاء المجتهد إلا باجتهاده دون اجتهاد غيره، سواء كان ذلك الغير حياً أو ميتاً بل يجب على المجتهد إذا لم يتقدم له اجتهاد في حادثة ما أن يجتهد فيها قبل الفتيا.

 

5- تحريم التقليد على المجتهد حسبما ذهب إليه أئمة أهل البيت b  ومعظم الأصوليين.

 

6- إطلاق مواضيع الاجتهاد في كل شرعي فرعي عملي قطعي أو ظني.

 

7- تحريم بعض الأصوليين لتقليد الميت مهما كانت رتبته في العلم خلال حياته وبعضهم اختار أولوية تقليد الحي على تقليد الميت.

 

8- أن المجتهد إذا تعارضت لديه مفسدة ومصلحة راجحة أو مساوية وجب توقي المفسدة.

 

9- أنه إذا تعارض واجب ومحضور، فترك الواجب أهون من فعل المحضور والأصل في ذلك قولهo: (إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما أستطعتم وإن نهيتكم عن شئ أو أمر فلا تأتوا منه شيئا..) الحديث.

 

10- تجويز أن يكون للمجتهد قولان متناقضان في حادثة واحدة بفعل اختلاف ملابسات وظروف كل قولٍ منهما. كما عرف ذلك عن الإمام الشافعي الذي احصيت له سبع عشرة مسألة له في كل واحدةٍ منها قولان..

 

11- ومن تلك التأصيلات أيضاً جواز تجزئ الأجتهاد، أي أنه بإمكان الفقيه أن يجتهد في بعض المسائل وفي بعض الفنون دون البعض الآخر الذي ليس له اهلية للاجتهاد فيه وهذا هو رأي الزيدية وبعض المالكية والظاهرية.

 

12- ومنها أنه يجوز للمجتهد المتأخر أن يراجع ما اجتهد فيه السلف إذا ما غلب على ظنه أن لديه للواقعة التي اجتهد فيها حكما مغايرا لحكمهم وله أجر اجتهاده، وذلك كالواقعة التي رواها البيهقي عن الحسن البصري ان عمر أرسل إلى امرأة مغنية يستدعيها وفي الطريق أصابها الطلق فأجهضت من الفزع ومات ولدها، فاستشار عمر الصحابة فأشار عليه بعضهم أن لا عليك شئ إنما أنت وال مؤدب فقال عمر للإمام علي A ما تقول في ذلك، فقال الإمام علي A : إن كانوا قالوا برأيهم فقد أخطأوا وإن كانوا قالوا في هواك فلم ينصحوا لك، أرى أن ديته عليك، لأنك أنت الذي أفزعتها، فألقت ولدها بسببك، فأمر علياً A  أن يقيم عقلة في قريش: أي عاقلة لمولودها.

 

تلك النماذج (وغيرها كثير) هي جزء من التأصيلات الذاتية والموضوعية لعملية الاجتهاد والإفتاء بل والتقليد أيضاً.. ودلالة هذه التأصيلات واضحة في ارتباطها القوي بالدور التجديدي المفترض في عملية الاجتهاد. ويمكن هنا أن نضيف اشتراط الإمام الخميني رحمه الله لعنصري الزمان والمكان في عملية الاجتهاد وضرورة معرفة المجتهد بأحوال هذين العنصرين من حوله.. يقول الإمام الخميني:

 

(الزمان والمكان عنصران حيويان في مسألة الاجتهاد فالمسألة التي حكم فيها بحكم معين في الماضي يمكنها في الحاضر أن تحكم بحكم جديد نتيجة الهيكلية الخاصّة بسياسة واجتماع واقتصاد نظام ما بمعنى أنه بالتدقيق بنوع العلاقات الاقتصادية  والاجتماعية للموضوع الأول - الذي يبدوا ظاهراً أنه لم يختلف عن الموضوع القديم - سيظهر أن الموضوع موضوع جديد يضطرنا إلى تقديم حكم جديد له).

 

وعلى نحو قريب مما ذهب إليه الإمام الخميني في طرحه هذا الذي يأتي في سياق تأصيله لنظرية (ولاية الفقيه)..تأتي النظرية السياسية عند الزيدية واشتراط أئمتهم b  في من يرشح نفسه للإمامة، كمنصب (سياسي) أن يكون مجتهداً وعالماً بأحوال أهل زمانه ومكانه.. وقد قدّمت الزيدية عند التطبيق لهذا الشرط ضمن النظرية الكلية للإمامة، تجربةً رائدة استمرت طيلة قرون في بلاد اليمن وخارجها حكم خلالها العشرات من الأئمة المجتهدين الذين خلفوا وراءهم تجربة سياسية ثرية وتراثاً فكرياً وفقهياً هائلاً ناقش كل قضايا ومستجدات كل حقب تلك العصور.

 

وهكذا نلحظ أن تنظيرات الأصوليين لعملية الاجتهاد، تتساوق مع الغاية الكبرى لهذا المفهوم الإسلامي الذي في ظلّ انتقاله من الحالة النظرية إلى الواقع التطبيقي، تتحقق واقعية الفقه الإسلامي وتسقط بالتالي مقولات (تاريخية النص) أو (جموده) خصوصاً وأن المساحة المسموح للإجتهاد أن يتحرك فيها هي مساحة واسعة لا تنحسر بوجود النص إلا في حالات ضيقة. ذلك أن وجود النص على الإطلاق لا يعني إلغاء الإجتهاد، فالنص حسبما يقر الأصوليون إما أن يكون:

 

1- ظني الثبوت، فيجب حينئذ الاجتهاد في ثبوته.

 

2- ظني الدلالة، فيجب أيضاً الاجتهاد في دلالته.

 

3- ظني الدلالة والثبوت، فيجب الاجتهاد في الأمرين.

 

4- قطعي الثبوت والدلالة، وهذا النوع الوحيد من أنواع النص هو مالا يصح الاجتهاد معه بإجماع المسلمين.

 

 أما ما تناهت النصوص إليه، والنصوص فعلاً تتناهى والأحداث تتوالى.. فيؤخذ في ذلك بما فيه مصلحة الأمة، فالشريعة جاءت بكليات وأصول وقواعد كلها تخدم الإنسان، وتخدم مصلحة الإنسان. وبهذا ابيح لنا ان نضع القوانين كلها فيما لا نص فيه انطلاقاً من المصلحة وحيثما تحققت المصلحة فثم شرع الله.

وتمتد مساحة الاجتهاد أيضاً إلى ملابسات رواية النص في حال ما إذا كان النص نبوياً(حديثاً) وذلك من خلال (منهج الجرح والتعديل) الذي من خلال معاييره تتم عملية الكشف عن قيمة الحديث - من حيث سنده - في ميزان الصحة أو عدمها وهو (الجرح والتعديل) موضع من مواضع الاجتهاد بالضرورة كما قرر ذلك جل علماء الحديث قدماء ومتأخرين ولذلك كان على الفقيه إذا أراد إعمال أي نص نبوي أن لا يكتفي بالتوقف عند تصحيح غيره لذلك النص بل عليه أن يجتهد في عملية الكشف عن حال راوي أو رواة الحديث حتى يصل إلى حكم ظني خاص به.

 

قال الزركشي في شرحه لعلوم الحديث لابن الصلاح.

 

(وأئمة الحديث مختلفون في الأكثر فبعضهم يوثق الرجل (الراوي) إلى الغاية وبعضهم يوهنه إلى الغاية؛ ثم قال: قال الترمذي أختلف الأئمة من أهل العلم في تضعيف الرجال كما اختلفوا فيما سوى ذلك من العلم.. فلا تجعل قول أحمد وإن كان إمام هذا الشأن حجة على مالك والبخاري ومسلم وغيرهم كما لا يكون قول بعض الأئمة حجة على بعض في المسائل الاجتهادية لأن في الجرح والتعديل ضرباً من الاجتهاد).

 

وقال صاحب العواصم: (تصحيح الحديث ظني اجتهادي).

 

كما صرح الحاكم في آخر كتابه الذي جمعه في الضعفاء بالقول:

 

(فهؤلاء الذين ذكرتهم قد ظهر عندي تجريحهم لأن الجرح لا استحلَّه تقليداً)..

 

ولعلامة الزيدية الكبير محمد بن علي الشرفي في مقدمة شرحه لخصائص أمير المؤمنين للإمام النسائي  ـ كتاب مخطوط ـ كلام موفق في القضية حين قال:

 

(والحق أن المجتهد لا يعد مجتهداً مع التقليد في التجريح والتوثيق والتضعيف والتصحيح كما قرره المحققون وإلا كان من باب بناء الاجتهاد على التقليد).

 

ويقصد أن المجتهد إذا قام باستنباط حكم شرعي من حديث، إعتمد في صحته على تصحيح من سبقه من المحدثين. فإنه بهذا الإعتماد يكون مقلداً وحينئذ يكون اجتهاده مبنياً على تقليد وذلك ما لا يستقيم..

 

ولذلك فإن أئمة آل البيت b وقداما المحدثين من أهل السنة، لم يجوزوا العمل بالأحاديث المرسلة (منقطعة السند) أياً كان المصنف الحديثي الذي وردت فيه، لأن غياب السند يحول بين الفقيه وبين الاجتهاد الذاتي لتحصيل الظن في عدالة الرواة ولا يعوض ذلك الغياب بتعديل صاحب المصنّف لرواته.. إذ أن التقليد في الجرح والتعديل غير جائز.

 

 وإجمالاً فإن موضوعات الاجتهاد هي من الوسع في الدرجة التي تمكن مجتهدي الإسلام في كل العصور من إنزال النص الديني منازله الطبيعية عند كل حادثة دون اضطرار إلى تعطيل نص أو اتخاذ موقف سلبي من كل مستجد.

شواهد تاريخية

إن الاجتهاد مرده إلى العلماء، الذين هم أهل الذكر وذلك في الأمور الشرعية التي يعلمون بها والتي قد يختلف الناس حولها فهم متخصصون في مجال الشريعة وقواعد الإسلام والحرص على عدم الخروج عنها، فمسألة المرجعية تكون لكون العلماء أكثر معرفة بمراد الشارع ومقصد النص القرآني، وهي مسألة دينية بحتة.

 

وفي سياق حديثنا عن دور الاجتهاد في تجديد وتطوير الفقه الإسلامي يمكن هنا استحضار بعض الشواهد التاريخية التي حضر فيها الاجتهاد ومثلت فيها نتاجاته إضافات مهمة في الفقه الإسلامي ومن تلك الشواهد:

اجتهادات الإمام علي (ع) في القضايا السياسية والعسكرية

شهدت فترة تولي الإمام علي A  لمقاليد الخلافة الإسلامية عدداً من المستجدات العاصفة - لا سيما في الناحية السياسية - التي نجم عنها ظهور ثلاث جبهات معارضة للسلطة الشرعية التي يمثلها الإمام علي A واضطرته إلى خوض ثلاثة حروب منفصلة مع كل منها وذلك فيما عرف بمعارك الجمل وصفين والنهروان.

 

والخروج عن السلطة الشرعية يعرف في الفقه الإسلامي (بالبغي). وحين ظهر البغي في عصر امير المؤمنين A، لم تكن ثمة نصوص تقنن سبل مواجهته وتحدد ما ينبغي وما لا ينبغي على الحاكم الشرعي فعله إذا ما اضطر إلى مصادمة البغاة ومعسكرهم.

 

ولذلك كان على الإمام علي A وقد وجد نفسه وفق ملابسات تاريخية -ليس هنا محل سردها- مضطراً للمواجهة العسكرية مع (البغاة)، أن يستفرغ وسعه مجتهداً في ايجاد قوانين المواجهة مع هذه الطوائف المسلمة في الأساس؛ منطلقاً في اجتهاداته تلك من عموم النصوص ومن روح التعاليم الكلية للإسلام وبما تقتضيه المصلحة العليا للمجتمع الإسلامي.. فكان أن انقضت تلك المواجهات العسكرية مخلفة وراءها ذلك القدر العظيم من القوانين والأحكام التي تولدت عن اجتهادات الإمام علي A وظهرت مطبقة خلال مراحل المواجهة وأهمها:

 

أن الحاكم الشرعي لا يجوز له قتال الخارجين على سلطته من البغاة إلا بعد تحقق شروط ثلاثة:

 

أولها: أن يروّج البغاة لأنفسهم على أساس أنهم على حق وأن الحاكم الشرعي على باطل.

 

وثانيها: أن يبدأوا هم بالحرب أو أن يعتزموا شنها عليه أو  أن يمتنعوا عن دفع ما عليهم من واجبات للدولة كالزكاة أو الخمس وغيرهما، أو أن يمنعوا السلطة من القيام بأي أمر يتوجب عليها القيام به لتحقيق مصلحة من مصالح المسلمين أو الحفاظ عليها.

 

وثالث تلك الشروط: أن تكون لأولئك البغاة، أرضية حربية ينطلقون منها ويتحصنون بها إما مدينة أو حصناً أو عشيرةً تأتمر بأمرهم وتنتهي بنهيهم..

 

ووفق اجتهاد الإمام علي A فإنه إذا تحققت تلك الشروط الثلاثة في أي جماعة منشقة داخل المجتمع الإسلامي. فقد جاز حينئذٍ للحاكم الشرعي أن  يجابههم بالحرب والمواجهة العسكرية وإذا بدأت المعركة فإن للمعركة أحكامها أيضاً كما تجلت في اجتهادات وتطبيقات الإمام A، ومنها أنه:

 

أ) لا يجوز لجيش السلطة الشرعية أن يبدأ جيش البغاة بالقتال حتى يبدءوا هم.

 

ب) لا يجوز في حق البغاة قتل الجريح منهم ولا المدبر.

 

ج) لا يجوز سبي أو استرقاق ذكورهم او اناثهم أو اطفالهم.

 

د) لا يجوز اغتنام أموالهم إلا ما كان من أدوات القتال كما لا تجوز استباحة مدن أو قرى تحصنوا فيها.

 

كل تلك الأحكام وغيرها معروف أنها لم يرد بشأنها نصٌ قرآني أو نبوي، بل كانت محض اجتهادات للامام علي A انطلق في تقريرها مما استوحاه من عموم النصوص ثم من ادراكه العميق للمقاصد الكلية للشريعة الإسلامية ووعيه الكامل بفقه درء المفاسد وجلب المصالح.

 

وبهذا اكتسبت تلك الأحكام/ الاجتهادات شرعيتها واحتلّت موقعها المهم في سياق فقه الإسلام السياسي والعسكري مجمعةً عليها الأمة ولذلك روي عن الإمام الشافعي قوله:

 

(إن أحكام البغاة لم تعرف إلا من سيرة علي).

 

ذلك شاهدٌ تاريخي على دور الاجتهاد في التجديد والاضافة إلى التشريعات الإسلامية وإنّما اقتصرنا على عرض هذا الشاهد ـ فقط، لكونه بنظرنا ـ من بين أولى نماذج الاجتهادات التي ظهرت في التاريخ الإسلامي مما لم يكن في موضوعها أي نص بمعنى أنها اجتهادات في مساحة شاغرة تماماً وذلك بعكس عددٍ من الاجتهادات التي سبقتها في عصر الصحابة والتي كانت جميعها تندرج في خانة التأويل أو القياس وهما حالتان أضيق من الاجتهاد إذ أنهما تتحركان داخل نص معين أو أكثر لاستخراج دلالة ما.. أو تندرج في خانة الاجتهاد مع وجود النص القطعيّ كاجتهادات عمر بن الخطاب.

 

كما أنا اخترنا هذا النموذج من الاجتهاد اجتهاد الإمام علي A لأنا نرى أن هذا النوع من الاجتهاد هو ما يمثل مطلباً ملحاً في حياة المسلمين المعاصرة. ذلك أن المساحات الشاغرة في تفاصيل حياتنا الجمعية والفردية، هي أكثر بكثير من المساحات التي يملؤها النص هذا إذا تجاوزنا أزمة (الجمود النصي) والتفسير المتعسّف لقوله تعالى: (ما فرطنا في الكتاب من شيء).

 

وهي الأزمة التي تبتلى بها كثير من طوائف المسلمين اليوم وتحول دون تحقيق المعاصرة المطلوبة للفقه الإسلامي.

 

ولا يفوتنا أيضاً القول بأنه في سياق ذلك اللون من الاجتهادات العلوية، تأتي الاجتهادات الإسلامية التي برزت في مطلع التاريخ الحديث والمعاصر على أيدي نفر من المصلحين الاسلاميين والعلماء وفي مقدمتهم الإمام يحيى بن حميد الدين الذي كانت له اجتهادات وخيارات مشهورة ومعروفة، والامام الخميني  ومحمد باقر الصدر ومحمد عبده وجمال الدين الأفغاني وغيرهم ـ رحمهم الله جميعاً ـ والذين تركوا جميعا تنظيرات اجتهادية تمثل أساساً مهماً للمجتمع والدولة الإسلامية المعاصرة المفترضة، وتموضعت تلك الاجتهادات في أهم القضايا التي تواجه عالم الإسلام اليوم من قضية الدولة إلى قضية الحكم وآلياته إلى قضية الاقتصاد ثم العلاقة مع الآخر ومع نتاجاته وغير ذلك من الاجتهادات التي شكلت بمجملها الصفحات الأولى من فقه الإسلام المعاصر وهي الصفحات التي يسلم الجميع بأنها تنتظر أخواتٍ لها لا زلن على كثرتهنّ غائبات ومع غيابهن يتعذّر على دائرة المعاصرة أن تكتمل.

خاتمة

إن التجديد المنشود في الفقه الإسلامي وإن المعاصرة المطلوبة لذلك الفقه لا يمكن أن تتحقق دون احياء العملية الاجتهادية وتفعيل حركتها، ودون الانفتاح الفكري، وإتاحة المجال للعقل باعتباره أول مصدر للمعرفة ودون ذلك لا يمكن أن يكون هناك فقه معاصر ودون الفقه المعاصر لا يمكن أن يكون هناك مجتمع إسلامي بحق.

 

ويكفي أن نذكر هنا أن عملية التشريع في الفقه الإسلامي، يظل ضابطها الاساسي علم اصول الفقه الذي يعرف بأنه علم يتوصل به إلى استنباط الاحكام الشرعية عن ادلتها التفصيلية.. والاجتهاد يأتي كأهم موضوع بين مواضيع علم أصول الفقه بل هو موضوعها الأساس ولم تكن بقية المواضيع إلا فرعاً عليه وضابطاً له ولطرقه وأدواته.

 

ولذا فإن تعريف علم أصول الفقه يصح أن يطلق كتعريف للاجتهاد وبهذا المعنى فإن الاجتهاد هو اصل الفقه والفقه فرعٌ له.. واذا كان غير ممكن أن يقوم الفرع دون الاصل فإنه غير ممكن كذلك أن يحافظ الفرع على بقائه وتجدده دون ان يكون الاصل قائماً ومتجدداً أيضاً.

 

وتلك حقيقةٌ يؤيدها شاهد التاريخ، فحين كانت أبواب الاجتهاد في قرون الإسلام الاولى مشرعةً أمام كل من جمع شروطه وحصل معاييره وضوابطه شهدت الساحة الفقهية آنذاك ذلك الحراك الهائل الذي نشأت في ظله مدارس الفقه الإسلامي بمناهجها المتعددة ونتاجاتها الغنية لتشكل بذلك مظهراً من مظاهر الحضارة الإسلامية التي بلغت أوج مجدها وازدهارها آنذاك، وحين بدأت مشاعل تلك الحضارة في الانطفاء التدريجي، كان اغلاق باب الاجتهاد واحداً من العوامل التي وقفت وراء ذلك الانطفاء ومن ثمّ  وراء حالة الركود الرهيب الذي لم يقتصر على الساحة الفقهية بل ومعها أيضاً الساحات الفكرية والفلسفية وكافة فروع العلم والمعرفة.

 

لقد كان اغلاق أبواب الاجتهاد كارثة بكل المقاييس.. فتحت معها أبواب الجمود  والتعصب ثم التمزق والتناحر بعد أن صارت نتاجات واجتهادات الأئمة السابقين موضع تقديس من قبل عوام العلماء اللاحقين التزموا وألزموا غيرهم بالتوقف عند حدودها وعدم الخروج عنها كما لو كانت نصوصاً دينية أخرى.. ومن هنا تبدو ضرورات الاجتهاد المتشعبة، فبقدر ما هو عنصر الحياة المهم للفقه الإسلامي. هو كذلك عاملٌ من عوامل النهوض بالذات الإسلامية ككل ثم هو وسيلة بالغة الأهمية في وسائل الوحدة الإسلامية والتقارب الإسلامي باعتبار أن الاجتهاد هو انفتاحٌ على الآخر بالضرورة.

 

فأي مجتهد لا بدّ له في طريقه إلى تحصيل أي حكم من الاحكام أن يطلع على ما لدى غيره من المجتهدين من رأي في القضية موضوع الاجتهاد، والاطلاع والتعرف على ما لدى الآخر هو خطوة أولى من خطوات الانفتاح والتسامح على نحو ما كان سائداً في العصر الذهبي للفقه الإسلامي الذي خرجت منه المقولة الشهيرة للامام الشافعي رحمه الله: (قولي صواب يحتمل الخطأ وقول غيري خطأ يحتمل الصواب).

 

وقبلها المقولة الأبلغ عمقاً ودلالةً على ضرورة التسامح وحسن الظن وهي مقولة (لكل مجتهد نصيب).

 

وختاماً نؤكد على أهمية الاجتهاد وإعادة فتح أبواب الجهاد مؤمنين ان دين الإسلام الحنيف قد وسع على الأمة ولم يحصرها عند اجتهاد إمام بعينه في أي مسألة من المسائل الفرعية العملية، هذا الدين حريُّ بائمته وعلمائه المعاصرين إلا يفرضوا على انفسهم العزلة والجمود أو حصر دورهم بالشرح على المتون، أو التقيد بنصوص خطتها اقلام من سبقهم من رواد وهداة، إذ أن النظر واعمال الفكر للتوصل إلى حلول لقضايا الحياة المتجددة وتجنيب المجتمعات مضيق انفصام عرى التلاحم بين الدين والحياة في أي عصر هو واجب ديني محتم، وذلك بالرجوع إلى محكم الكتاب والصحيح من السنة والإجماع والقياس.

 

وباب الاجتهاد مفتوحٌ لكل كفؤ وطريقه مسلوك لكل من تأهل بمؤهلاته من الأولين والآخرين.