من الجالية.. إلى الأقلية ومن التوطين.. إلى المواطنة
من الجالية.. إلى الأقلية ومن التوطين.. إلى المواطنة
حسان موسى
خطيب ورئيس المجلس السويدي لأئمة الجمعة
لقد استوطن الإسلام في العقود الأخيرة بلدانا كثيرة مما استدعى ان يكون لهذه إطار فقهي خاص بها يراعي خصوصيتها حيث بدأ المسلمون يواجهون واقعا جديدا يثير أسئلة كثيرة، تتجاوز القضايا التقليدية ذات الطابع الفردي المتعلقة بالطعام المباح واللحم الحلال وثبوت الهلال والزواج بغير المسلمة، إلى قضايا أكبر دلالة وأعمق أثر ذات صلة بالهوية الإسلامية ورسالة المسلم في وطنه الجديد وصلته بأمته الإسلامية ومستقبل الإسلام وراء حدوده الحالية.
للأسف الشديد ربما حاول البعض الإجابة على هذا النمط من الأسئلة بمنطق الضرورات و«النوازل» ناسين أنه منطق هش لا يتسع لأمور ذات بال، وربما واجه المسلم فوضى في الإفتاء والتوجيه والإرشاد فهذا الفقيه «يحل» وذاك «يحرم» وثالث يشدد الى انه يجوز في دار الحرب ما لا يجوز في دار الإسلام ورابع يقيس الواقع الحاضر على الماضي الغابر قياسا لا يأبه بالفوارق، النوعية الهائلة بين مجتمع وآخر، وبين حقبة تاريخية وأخرى، بل لا يأبه بالقواعد الأصولية القاضية بمنع قياس فرع على فرع فتكون النتيجة المنطقية لهذا المنطق المنهجي الخاطئ إيقاع المسلمين في البلبلة والاضطرار وتحجيم دورهم المرتقب والحكم عليهم بالعزلة والاغتراب (الغيتوهات)، وإعاقة الحياة الإسلامية وفرض التخلف عليها وإظهار الإسلام بمظهر العاجز عن مواجهة اسئلة الحضارة والعمران المستنير في زماننا هذا.
لهذا أعتقد أن مشكلات الأقليات لا يمكن أن تواجه إلا باجتهاد جديد ينطلق من كليات القرآن وغاياته وقيمه العليا ومقاصد شريعته ومنهاجه القويم ويستنير بما صح من سنة وسيرة مع محاولة تجاوز الفقه الموروث في مجال التنظير لعلاقة المسلمين بغيرهم فهو على ثرائه وتنوعه وغناه وتشعبه قد أصبح أغلبه جزءا من التاريخ لأسباب تتعلق بمنهج وأخرى بتحقيق المناط حيث:
أـ لم يأخذ فقهائنا عالمية الإسلام بعين الاعتبار في تنظيمهم الفقهي لعلاقة المسلمين بغيرهم بل عبروا عن نوع من الانطواء على الذات لا يتناسب مع خصائص الرسالة الخاتمة والأمة الشاهدة (قولة الغزالي).
ب – لم يعتد المسلمون في تاريخهم – بعد عصر الرسالة – على اللجوء الى بلاد غير إسلامية طلبا لحق مهدر، أو هربا من ظلم مفروض بل كانت البلاد الاسلامية في الغالب أرض عزة ومنعة.
ولم تكن تفصل بينهما حدود سياسية مانعة، فكلما ضاقت بمسلم أرض وانسدت عليه سبيل تحول من ناحية إلى أخرى من الإمبراطورية الإسلامية الفسيحة دون أن يحس بغربة أو تعتريه مذلة.
ج – لم تكن فكرة المواطنة كما نفهمها اليوم موجودة في العالم الذي عاش فيه فقهاؤنا الأقدمون وإنما كان هناك نوع من الانتماء الثقافي لحضارة معينة او الانتماء السياسي لإمبراطورية معينة يعتمد المعيار العقائدي ويتعامل مع المخالفين في المعتقد بشيء من التحفظ مع اختلاف في درجة التسامح من محاكم التفتيش الى الذمة الإسلامية.
د – لم تكن الأقامة في بلد غير البلد الأصلي تكتسب حق المواطنة بناء على معايير ثابتة مثل الميلاد أو مدة الإقامة أو الزواج... إنما يتحول الوافد الى مواطن إذا كان يشارك أهل البلد معتقدهم وثقافتهم مهما استقر به المقام إذا كان مخالفا لهم في ذلك.
هـ - لم يكن العالم يعرف شيئا اسمه القانون الدولي كما كان منطق القوة هو الغالب على العلاقة بين الإمبراطوريات القديمة لهذا كان العالم في ذلك الوقت مقسم إلى ما سمي «دار الحرب» و«دار الإسلام».
و- كان بعض الفقهاء الأقدمين والمتأخرين يعبرون بفتواهم عن نوع من المقاومة وردة الفعل على واقع مخصوص يختلف عن واقعنا وفي هذا الإطار يمكن أن ندرج كتاب اقتضاء الصراط المستقيم مخالفة أهل الجحيم، وفتاوى علماء شمال إفريقيا في صدر القرن المنصرم بتحريم حمل الجنسية الأوربية جزء من ثقافة الصراع التي لا تحتاجها الأقلية المسلمة في الوقت الراهن.
وبناء على هذه التوضيحات المتعلقة بالمنهج وتحقيق المناط وبحجم الأسئلة المثارة نستطيع التأكيد على أن الكثير من الطروحات الفكرية والاجتهادات الفقهية التي نشأت في عصر الإمبراطوريات لن تسعفنا كثيرا في التأسيس للوجود الإسلامي ولا التأصيل لفقه المعاصر يعنى بشأن أقلية مسلمة تعيش في بلاد غير الاسلام لهذا أعتقد أن العلاقة التي يجب أن تسود بين المسلمين وغيرهم خاصة من استوطن تلك الديار في علاقة التعايش والتسامح والحوار والمشاركة الإيجابية والمواطنة الصالحة، يقول تعالى (لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ، إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ) (الممتحنة/ 8-9)
.
لقد حددت هاتان الآيتان الأساس الأخلاقي والقانوني الذي يجب ان يعامل به المسلمون غيرهم وهو البر والقسط لكل من يناصبهم العداء وكل النوازل والمستجدات ينبغي محاكمتها الى ذلك الأساس..
ولعل ابن حجر في فتح الباري ج 7/ ص 230 ذهب برأيه الى أبعد من ذلك حيث اعتبر الإقامة في دار كفر يستطيع المسلم إظهار دينه فيها أولى من الإقامة في دار الاسلام لما في ذلك من القيام بوظيفة جذب الناس الى هذا الدين وتحسينه إليهم ولو بمجرد الاحتكاك والمعايشة، قال الماوردي: «إذا قدر المسلم على إظهار الدين في بلد من بلاد الكفر فقد صارت البلد به دار الاسلام، فالإقامة بها افضل من الرحلة منها، لما يرتجى من دخول غيره في الاسلام».
لهذا وانسجاما مع نفس المنطق يسعى إخوانكم في أوربا في تثبيت الوجود الاسلامي والانتقال به من فكرة التوطين (أي الاسلام) الى المواطنة الصالحة ومن السلبية الى الايجابية ومن مفهوم الجالية الى الأقلية والذي اصبح مصطلح سياسي يقصد به مجموعة أو فئات من رعايا دولة من الدول تنتمي من حيث العرق او اللغة او الدين إلى غير ما تنتمي اليه هذه الأغلبية.. هذه الأقلية تسعى الى:
1ـ بناء المؤسسات وايجاد المحاضن مع المشاركة الإيجابية في الحياة الاجتماعية والاقتصادية والثقافية في إطار مبدأ مجتمع متعدد الثقافات والأعراف والأديان.
2- المشاركة السياسية كواجب تقتضيه المواطنة الحقيقية والمسؤولية الشرعية، انتصاراً لحقوقهم ودعما لأخوتهم في العقيدة أينما كانوا وتبليغا لحقائق الإسلام، وتحقيقا لعالميته.
3- إيجاد فضاءات ومؤسسات مجتمع مدني تشارك في تقديم حلول إيجابية ذات مرجعية إسلامية سواء فيما يخص حقوق الطفل، أو المرأة، أو حرية المعتقد أو البيئة أو السلم العالمي، أو مكافحة التدخين أو المخدرات أو الكحول أو التجارة بالرقيق الأبيض أو الليبرالية الفاحشة أو جمعيات التصدي للعولمة أو من خلال المؤسسات الوقفية أو الثقافية أو الاجتماعية أو مايسمى بجمعيات مكافحة العداء اتجاه الاسلام «إسلام فوبيا» أو مكافحة معاداة السامية أو جمعيات حماية المستهلك او جمعيات مكافحة العنصرية والتمييز الى غير ذلك من مؤسسات المجتمع المدني العديدة والمتنوعة بالإضافة إلى كل منصب أو ولاية حصل عليها المسلمون بأنفسهم أو أمكنهم التأثير على ضن فيها من غيرهم تعتبر مكسبا لهم من حيث تحسين أحوالهم وتعديل النظم والقوانين التي تمس صميم وجودهم.
لهذا يجب على أبناء الأقلية المسلمة ألا يقيدوا أنفسهم باصطلاحات فقهية تاريخية لم ترد في الوحي مثل دار الإسلام ودار الكفر، بل عليهم أن ينطلقوا من المنظور القرآني (إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ) (لأعراف:128)، مع التأكيد على واجب ترسيخ الإيمان بالله وتدعيم الثقة في الإسلام حتى لا يدفعنا التفاعل مع غيرنا إلى تنازلات تمس أساس الدين مجاراة لعرف سائد أو تيار جارف وفي رفض جعفر السجود للنجاشي، كما فعل خصماه وكما يقضي العرف، أسوة في هذا السبيل.
وبالله التوفيق وهو الهادي إلى أقوم طريق.