منظمة المؤتمر الاسلامي والمؤسسات الاسلامية

منظمة المؤتمر الاسلامي والمؤسسات الاسلامية

 

 

منظمة المؤتمر الاسلامي والمؤسسات الاسلامية ودورها في دعم الأقليات والجاليات الاسلامية

 

                  الدكتور عبد العزيز بن عثمان التويجري

المدير العام للمنظمة الإسلامية للتربية والعلوم والثقافة ـ إيسيسكو ـ

 

مدخل:

أثار نشر الرسومات الكاريكاتيرية المسيئة للإسلام في عديد من الجرائد الأوروبية، وما ترتب على هذا النشر المستفز لمشاعر المسلمين قاطبة من ردود أفعال، الاِهتمامَ الواسعَ بالأقليات والجاليات الإسلامية التي تنتشر في جلّ أنحاء العالم، من أستراليا شرقاً، إلى الولايات المتحدة الأمريكية وأمريكا اللاتينية غرباً، ومن جنوب أفريقيا جنوباً، إلى الدول الإسكندنافية شمالاً. وليس معنى ذلك أن الحديث عن هذه المجموعات الإسلامية لم يكن يتردد بين الحين والآخر، ولكن الحديث عنها اطّرد في هذه المرحلة، وتشعّب، وصار أكثر إلحاحاً، واكتسب بُعداً جديداً.

وبسبب من أن الأقليات والجاليات الإسلامية تشكّل أكثر من نصف تعداد المسلمين في العالم، فإنَّ بحث الأوضاع التي تعيشها، ومعالجة المشكلات التي تعاني منها، والنظر في السبل والوسائل التي تكفل تقديم الدّعم لها في المجالات كافة، واجبٌ على الجميع، خاصة على الجهات التي في إمكانها المساعدة والقيام بدور إيجابي في هذا المجال، ومن اختصاصاتها العناية بهذه المسألة، وبصورة أخصّ في هذه الظروف التي يجتازها العالم الإسلامي، حيث تَتَصاعَدُ التحدّيات الحضارية التي تكاد تحاصر الأمة الإسلامية، وتسدُّ في وجهها آفاق النموّ المتوازن والمتكامل.

وتتحمَّل منظمة المؤتمر الإسلامي والمؤسسات والمنظمات الإسلامية الأخرى، سواء التي تعمل في إطارها، أو تلك التي تلتقي معها في الأهداف والغايات، المسؤوليةَ، ليس فحسب بحكم الاِختصاص، ولكن بدافع الاِهتمام بأمور المسلمين في كلّ مكان، إعمالاً لمبدإ الأخوة الإسلامية {إنَّما المؤمنون إخوة}.

وفي هذه المرحلة بالذات، حيث تتعرض الأخوة الإسلامية لمؤامرات عديدة، وحيث تسعى قوى أجنبية معادية للإسلام وحاقدة عليه، لإشعال نيران الفتنة بين المسلمين في بعض المناطق من العالم الإسلامي، يتوجَّب علينا أن نتعاون وتَتَضافَرَ جهودنا لتعميق مفهوم الأمة الواحدة، ولترسيخ قواعد التضامن والتآزر بين المسلمين قاطبة.

 

دواعي بحث أوضاع الأقليات والجاليات الإسلامية :

إنَّ الحاجة إلى دعم الأقليات والجاليات الإسلامية حتى تقوم بواجبها في تمثيل الأمة الإسلامية وثقافتها وحضارتها، وفي إبراز حقائق الإسلام بالمنهج الصحيح وبالأسلوب السليم، ودحض الأباطيل التي يروّجها خصومه، تَتَزايَدُ بقدرما يتسع نطاق الحملات العدائية الموجَّهة ضد الإسلام والمسلمين التي ينتهك القائمون عليها أحكام القانون الدولي وقواعد العدالة والإنصاف، ويسعون من خلالها في تأجيج نار الصراع بين الأديان والصدام بين الحضارات والعراك بين الثقافات، مما يهدّد استقرار المجتمعات الإنسانية، ويخلق حالاتٍ دائمةً من القلق والاضطراب تشيع جوّاً من الشك وسوء الظن وعدم الثقة بين الأمم والشعوب.

ومنذ أحداث الحادي عشر من سبتمبر عام 2001، التي هزَّت العالم كلَّه، والتي يرفضها ويشجبها كلُّ ذي دين وعقل وضمير حيّ، والعالمُ الإسلاميُّ يتعرض لحملات ظالمة مغرضة، توجّه الاتهام جزافاً إلى الإسلام والمسلمين، وتحرّض المجتمع الدولي ضد الشعوب والحكومات الإسلامية، وتعمل على إثارة روح العداء والكراهية، وتأليب الرأي العام العالمي ضد العالم الإسلامي كلِّه.

وإن الموقف الذي تتخذه بعض الدوائر في الغرب إزاء الإسلام ديناً وثقافةً وحضارةً، وتجاه المسلمين شعوباً ودولاً وحكومات، يَتَفاقَمُ خطره بصورة مطَّردة، ليس على العالم الإسلامي فحسب، وإنما على العالم كلِّه، لأنه موقفٌ عدائيٌّ، عنصريٌّ، مخالفٌ للقانون الدولي، ومناهضٌ لروح الحوار والتعايش بين الحضارات والثقافات والمؤمنين بالأديان السماوية جميعاً، ومن شأنه أن يهدّد الأمن والسلام الدوليين، ويزعزع استقرار المجتمع الدولي، ويتسبَّب في إيجاد التوتّر في العلاقات الدولية، في الوقت الذي تمرّ فيه الإنسانية بمرحلة حرجة، تبحث فيها عن ملاذٍ أمين، وتتطلَّع إلى الخلاص من الهيمنة التي يفرضها النظام الدولي الجديد الذي يقوده القطب الأوحد المسيطر على السياسة الدولية، بغير سندٍ من القانون الدولي، وتحدّياً للشرعية الدولية.

وإزاء هذه المواقف المنطوية على تهديد الحضارة الإنسانية في الصميم، يتحمَّل العالمُ الإسلاميُّ مسؤوليةً كبرى في التصدّي لهذه الحملات، بالمنهج الإسلامي القويم، الذي يدعو إلى السلام والتعايش والإخاء الإنساني، وينبذ العنف والإكراه، ويرفض الإرهاب بكل صوره وأشكاله، ويدينه ويُعدّه إفساداً في الأرض وعدواناً على الإنسانية وعلى الحضارة.

إن النهوض بهذه المسؤولية ينطلق من منطلقات عديدة، من أهمّها في رأينا، تقويةُ الذات بما يعني ذلك من تصحيح الأوضاع العامة في البلدان الإسلامية تصحيحاً سليماً يقوم على العلم والدراسة والتخطيط والاستفادة من تجارب الأمم وخبرات الدول المتقدمة صناعياً وعلمياً وتقانياً، وتقويم المعوج من هذه الأوضاع، وترشيد السياسات المتبعة في المجالات جميعاً، خصوصاً في ميادين التربية والتعليم والعلوم والثقافة والاتصال، وتعزيز التضامن والتكامل والتعاون بين دول العالم الإسلامي، لاكتساب القوة والمناعة والقدرة على الدفاع عن الوجود وحماية المصالح والحفاظ على القيم والمقوّمات التي تشكّل الأساس المتين للشخصية الإسلامية، وحجر الزاوية للكيان الإسلامي الكبير.

إن الأمة التي لا تمتلك شروط النهوض وأسباب التقدم وإمكانات التغيير من حال إلى آخر أفضل وأحسن وأرقى، تقصر وسائلُها عن الدفاع عن حقوقها. ولذلك فإن صورة الإسلام تتمثّل في الأمة الإسلامية، لأن العالم كلَّه، ينظر إلى الإسلام من خلال واقع العالم الإسلامي.

وبناء على ذلك، فإن تصحيح صورة الإسلام، يبدأ من تصحيح صورة الأمة الإسلامية، ولا يتم ذلك، ولا يستقيم هذا التصحيح، إلاَّ بتغيير حال الأمة وفقاً للمنهج الرشيد، وبالأسلوب القويم، وبالعلم والحكمة وسداد الرأي ومضاء العزيمة.

و على هذا الأساس، فإن إبراز صورة الإسلام للعالم، يجب أن ينطلق من تصحيح صورة الإسلام من الداخل. وتَتَفاوَت درجات المسؤولية لإنجاز هذا المشروع الحضاري الإسلامي، من فئة إلى أخرى، ومن وسط إلى آخر، ولكننا في هذا العرض، سنحصر الحديث عن دور الأقليات والجاليات الإسلامية، ثم دور المؤسسات الإسلامية في إبراز صورة الإسلام، وسنمهد لذلك بتناول مفهوم الأقليات والجاليات الإسلامية، ثم نعرض لأوضاعها، قبل أن نبحث سبل الاستفادة مما لديها من رصيد ثقافي يتمثّل في الإمكانات والوسائل والفرص المتاحة لها، وننظر على ضوء ذلك، في علاقاتها بالمحيط المحلي، ثم نخلص إلى تحليل أبعاد الدور الذي يمكن للأقليات والجاليات الإسلامية القيام به لإبراز صورة الإسلام في المجتمعات التي تعيش فيها بما يخدم المصلحة الإسلامية في المقام الأول، ورسالة المؤسسات الإسلامية في هذا المجال في المحيط الذي تعمل فيه.

 

مفهوم الأقليات والجاليات الإسلامية :

نشأت ظاهرة الأقليات الإسلامية في العصر الحديث، مع تصاعد الهجرة من البلدان الإسلامية إلى مختلف أقطار الأرض، خلال العقد الأول من القرن العشرين في مستواها الأول، بينما برزت هذه الظاهرةُ في مستواها الثاني، مع نشوء الدول الحديثة في العديد من المناطق التي كانت تقع تحت حكم المسلمين، إلى أن قررت القوى الاستعمارية الأوروبية إعادة رسم الخريطة السياسية والجغرافية لهذه المناطق، بحيث يتضاءل نفوذ المسلمين ويتقلّص حضورهم، ليصبحوا أقليةً في المجتمعات التي كانوا يحكمونها إلى عهود قريبة.

فمع نموّ حركة انسياب الهجرة من العالم الإسلامي إلى شتى الأصقاع، وبخاصة إلى أوروبا والولايات المتحدة الأمريكية، في أول العهد، ثم إلى أمريكا الجنوبية وكندا واستراليا، نشأت ظاهرة الأقليات الإسلامية لأول مرة تقريباً في تاريخ الإسلام، حيث وصل المسلمون إلى هذه الأقطار يحملون ثقافتهم وحضارتهم وعاداتهم وتقاليدهم، ليجدوا أنفسهم وسط مجتمعات لها أديانُها ولغاتها وثقافاتها، ولها أنماط العيش وأساليب الحياة الخاصة بها والتي تختلف عما ألفوه ونشأوا عليه وعاشوا في كنفه في بلدانهم الأصلية.

ولقد كانت الأفواج الأولى من المهاجرين من العالم الإسلامي إلى البلدان غير الإسلامية، ذاتَ خصائصَ متقاربةٍ يغلب عليها الطابعُ الشعبيُّ العام ؛ إذ لم يكونوا من ذوي المستويات الثقافية العالية، في حين كان البحثُ عن موارد الرزق، هو أكبر دافع على هذه الهجرات الأولى التي نتج عنها ظهور تجمعات إسلامية تتوزّع على رقعة جغرافية مترامية الأطراف، وهو الأمر الذي أدّى إلى ذوبان معظم هؤلاء المهاجرين في المجتمعات الجديدة عليهم، بحيث لم يشعر بهم أحد، خاصة في العالم الإسلامي الذي كان في وضعٍ بالغ الضعف من جراء عوامل عديدة، يكفي أن نذكر منها، أن معظم الأقطار الإسلامية، كان خاضعاً عهدئذٍ، للاستعمار الغربي.

وبالتحوّل الذي حدث في العالم الإسلامي، وبخاصة مع انتهاء الحرب العالمية الثانية، حصل تَغَيُّرٌ رئيسٌ في تركيبة المهاجرين من البلدان الإسلامية إلى الغرب على وجه الخصوص، حيث أخذت أفواج المتعلمين والدارسين من ذوي الكفاءات الثقافية والعلمية والمهارات المهنية المتميزة، تغلب على ظاهرة الهجرة المتصاعدة في اتجاه البلدان الأوروبية والأمريكية، مما أدَّى إلى ظهور أوضاع جديدة طبعت حياةَ التجمعات الإسلامية التي أخذت في البروز بصورة واضحة في العديد من الأقطار، فنشأت عنها مشكلات متنوعة، شعر المسلمون في المهجر بوطأتها الشديدة عليهم، فصاروا يتطلعون إلى إيجاد حلولٍ لها، حتى تستقيم حياتُهم، وينتهوا إلى التوافق والانسجام بين ثقافتهم وهويتهم، وبين المحيط الاجتماعي والبيئة الثقافية والمناخ الفكريِّ العام الذي وجدوا أنفسهم يعيشون في خضمه.

وعلى مستوى آخر، فإن تأسيس الدولة الحديثة في بعض الأقطار التي كانت تحت هيمنة الاستعمار الأوروبي، تسبّب في نشوء أوضاع سياسية فُرضت على المسلمين في العديد من المناطق، نتجت عنها حالة شديدة التعقيد تتمثَّل في أن مجتمعات إسلامية كثيرة انقلب وضعها من النفوذ والسيادة والأخذ بزمام الأمور، إلى الانعزال والتقوقع والانكماش وزوال السلطة، وبذلك نشأت أقليات إسلامية بقوة الأمر الواقع الذي فرضه المستعمرُ الأوروبيُّ، فيما فرض من أوضاع أراد بها تحقيقَ مصالحه بعد رحيله من البلدان التي كان يحتلها احتلالاً عسكرياً مباشراً.

وبانتشار الإسلام في بقاع واسعة، سواء أكان ذلك بإقبال أهل الأديان والعقائد الأخرى على اعتناقه والدخول في دين الله أفواجاً أو أفراداً، أم بوصول المسلمين إلى تلك البقاع واختلاطهم بشعوبها واندماجهم فيها، نشأت أقليات إسلامية ذاتُ خاصيتين ثقافيتين اثنتين ؛ أُولاهما أن هذه الأقليات جماعات بشرية متجانسة نابعة من مجتمعاتها الأصلية، فهي بذلك تكتسب صفة الانتماء إلى الأوطان التي تعيش فيها، وثانيتُهما أن المعيار العددي لم يُفقد هذه الأقليات حقوقَها السياسية والمدنية في أوطانها، يسري هذا على المسلم من أهل البلد غير الإسلامي الذي اعتنق الإسلام حديثاً، كما يسري على المسلم الذي وفد على بلد الهجرة من الخارج، فاندمج في محيطه، واكتسب صفةَ المواطنة بحكم القانون. فهاتان الخاصيتان اللتان تمتاز بهما هذه الفئة من الأقليات الإسلامية، تجعلان الأوضاع التي يعيشها المسلمون في بعض الأقطار غير الإسلامية، ذاتَ طبيعةٍ مختلفةٍ عن سائر الأوضاع التي تسود مجتمعات الأقليات الإسلامية في مختلف أنحاء الأرض.

وتتوزَّع الأقليات والجاليات الإسلامية اليوم على 130 دولة، فإذا أضفنا هذا العدد من الدول إلى الدول الأعضاء في منظمة المؤتمر الإسلامي وعددها سبع وخمسون دولة، سنجد أن المسلمين ينتشرون في جميع دول العالم دون استثناء. وهذه ظاهرة فريدة.

ونستطيع أن نخلص من هذا التحليل، وبالاستناد إلى المعيار العددي، وبالاحتكام إلى المقتضيات القانونية والدستورية المتعارف عليها دولياً، إلى أن الأقليات الإسلامية، هي إحدى الفئات الثلاث التالية :

أولاً: رعايا دولة غير إسلامية، ينتسبون إلى هذه الدولة بالأصل والمواطنة، عليهم ما على مواطني تلك الدولة من حقوق وواجبات. وتمثّل هذه الفئة النسبة العالية من الأقليات الإسلامية. (مثال مسلمي الهند، والصين، والفليبين، وروسيا الاتحادية، المقيمين في أوطانهم الأصلية). ويندرج تحت هذه الفئة أيضاً، مواطنو الدول غير الإسلامية الذين اعتنقوا الإسلام في أوطانهم، فهم جزءٌ لا يتجزأ من شعوبهم، ولا ينقص دخولُهم في الإسلام شيئاً من مواطنتهم.

ثانياً : رعايا دولة إسلامية يقيمون في دولة غير إسلامية ويخضعون لمقتضيات القانون الدولي ولأحكام القانون المحلي. وتأتي هذه الفئة في الدرجة الثانية من حيث التعداد. (مثال المسلمين من دول منظمة المؤتمر الإسلامي المقيمين في شتى بلدان العالم).

ثالثاً : رعايا دولة غير إسلامية يقيمون في دولة أجنبية غير إسلامية، وتمثّل هذه الفئة نسبةً كبيرة من الجماعات والأقليات الإسلامية المقيمة في دول غربية وشرقية عديدة. ومن الواضح الجليّ أن هذه الفروق التي نشير إليها هنا، إنما تخضع لمفهوم القانون الدولي، ولكن حينما يتعلق الأمر بالمفهوم الإسلامي للقضية في عمقها، فإن هذه الفروق تتلاشى بصورة تلقائية، إِعمالاً لمبدأ الأخوة الإسلامية، طبقاً لقوله تعالى : {إنما المؤمنون إخوة}([1]).

أوضاع الأقليات والجاليات الإسلامية :

ومن الطبيعي أن تختلف الأوضاع العامة للأقليات الإسلامية، من بلد إلى آخر، ومن قارة إلى أخرى.ولكن، وعلى الرغم من هذا الاختلاف القانوني والدستوري، فإن هناك قدراً مشتركاً من التشابه فيما يجب القيامُ به تجاه هذه المجتمعات الإسلامية، من حيث العناية بشؤونها، والاهتمام بأحوالها، وتقديم الدعم الثقافي والتربوي والعلمي لها، ومساندتها في حماية هويتها وصون ذاتيتها الحضارية، ومن حيث المشكلات التي تعاني منها هذه الأقليات في الغالب الأعم، وما تستدعيه هذه المشكلات من حلولٍ موضوعية، ومعالجةٍ سليمة لها.

لقد كان التنبّه إلى وجوب الاهتمام بالأوضاع العامة للأقليات الإسلامية في العالم، جزءاً من حركة اليقظة الشاملة التي سادت العالم الإسلامي منذ أن أخذت الشعوب الإسلامية تتحرّر من قيود الاستعمار الأوروبي. ولقد تفاوتت درجة هذا الاهتمام من مرحلة إلى أخرى، تبعاً لخط تصاعد الاتجاهات العامة في العالم الإسلامي ونموّها في مستوياتها السياسية والثقافية والفكرية، إلى أن صار الاهتمام بالأقليات الإسلامية، من صميم العمل الإسلامي المشترك في قنواته الرسمية والشعبية، من وجوه شتى، وتحت تأثير ضغوط المشكلات المتعددة التي بدأت تحاصر هذه الأقليات، لاسيما في العقود الأخيرة التي تَصَاعَدَ فيها مدّ الموجات العنصرية والفكرية والثقافية والمذهبية والسياسية المعادية للإسلام عقيدةً وثقافةً وحضارةً.

 ولقد اكتسبت الأقليات الإسلامية في معظم البلدان الأوروبية والأمريكية بصفة خاصة، كياناً قانونياً يوفّر لها إمكانات الاندماج في المجتمعات التي تعيش في وسطها على النحو الذي لا يُفقدها خصوصياتها، ولا يؤثّر في تركيبتها الاجتماعية التي تستند إلى الهوية الثقافية الحضارية التي تتميّز بها، بحيث صار اندماجُ هذه الأقليات في الحياة العامة للمجتمعات التي تعيش فيها، لا يتعارض مع صفة التمايز الحضاري الذي يطبع المجتمعَ الإسلاميَّ في أية بقعة من الأرض ينشأ ويتكوّن هذا المجتمع. وهو الأمر الذي يجعل هذه الأقليات في موقع القدرة على الحوار والتعايش مع جميع الفئات في مجتمعاتها، ويمكّنها في الوقت نفسه، من التعامل المتكافىء مع الظروف المحيطة بها، وبقدر كبير من الاستقلالية في القرار، والحرية في التصرّف.

إن العلاقات التي تُقيمها الأقليات الإسلامية مع غير المسلمين في البيئات التي تعيش فيها، تنبع أولاً من خصوصية الثقافة الإسلامية التي تنفتح على الغير، وتتميّز بالتسامح مع جميع أهل الأديان والعقائد والثقافات والحضارات، وتنزع نحو التعاون في إطار الأخوة الإنسانية التي تجمع بين البشر كافة، من دون اعتبار للاختلاف في المعتقد والمذهب، أو في العرق والجنس، وتقتضيها ثانياً، ضرورات التعايش الذي أصبح سمة العالم الجديد، وتُمليها متطلبات الحياة في المجتمعات المعاصرة، وتفرضها المصلحة المؤكدة لهذه الجماعات الإسلامية الناشئة في غير البلاد الإسلامية. بل إن هذه العلاقات ترتقي إلى مستوى أعلى من مجرد كونها ضرورات، لأن استمرار حياة الأقليات الإسلامية على النحو الذي يضمن لها الاستقرار ويكفل لها المناخ الطبيعي السليم للرقيّ والتقدم، يتطلب إقامة أوثق علاقات التعاون مع جميع مكوّنات المجتمع الذي تعيش فيه هذه الأقليات، وعلى مختلف المستويات، وبما يحقق اندماجَها الفاعل والمؤثّر في المحيط العام على النطاق الواسع، وبالقدر الذي يجعلها طرفاً مشاركاً في الحياة العامة.

وأيّاً كانت الظروف التي تكتنف كلَّ فئة من الفئات التي تتكوّن منها الأقليات الإسلامية، فإنه مما لاشك فيه، أن العلاقات التي تُقيمها هذه الأقليات مع غير المسلمين، هي المحك الذي يمحص سلامةَ الكيان الحضاري للمسلمين في غير ديار الإسلام ؛ فبقدر ما تنتظم هذه العلاقات وتستقيم على النهج الصحيح وتقوم على القواعد السليمة، يتقوى استقرار الأقليات الإسلامية، ويتعاظم الدور الذي تؤدّيه في الحياة العامة، وتَتَزَايَدُ المكاسب التي تحققها والمنافع التي تجنيها.

 

سبل الاستفادة من الرصيد الثقافي للأقليات والجاليات الإسلامية :

إن الرصيد الثقافي والحضاري الذي تمتلكه الأقليات الإسلامية في كل مكان، يمدّها بأسباب التواصل مع المجتمعات غير الإسلامية التي تتعايش معها، على شتى المستويات ؛ فعلى المستوى الإنساني، يعتبر التسامحُ الحضاريُّ القاعدة العامة التي يبني عليها المسلمون علاقاتهم بغير المسلمين، وهو تسامح ينطلق من الإيمان بوحدة الأصل الإنساني، وبالقيم والمثل العليا التي يدين بها البشر في كل عصر من عصور التاريخ، وهي قيمُ الخير والعدل والفضيلة والعفة والصدق والأمانة والاستقامة والشجاعة والمروءة والنجدة. وعلى مستوى تبادل المصالح والمنافع والتعايش بمفهومه الشامل العميق، فإن المسلمين المتشبثين بتعاليم دينهم الحق، يعلمون جيداً أن العمل وجهٌ من وجوه العبادة، وأن السعي في الأرض تكليفٌ ربّانيٌّ للإنسان، وأن نفع العباد مقصدٌ شريفٌ من مقاصد الشريعة الإسلامية، وأن درء المفاسد مقدَّمٌ على جلب المنافع، وأن التعاون على البر والتقوى والخير والمصلحة العامة، فريضةٌ دينية، وأن اكتساب القوة وتحقيق الرقيّ وصنع التقدم والتفوّق في العلم والتعمّق في المعرفة، من مقتضيات الحياة الكريمة التي ينشدها الإنسانُ السويُّ في كل مكان وزمان.

أما على المستوى الثقافي العام، وعلى الصعيد الحضاري، فإن المسلمين حيثما كانوا، يسعون دائماً إلى التقارب مع أتباع الديانات والثقافات والحضارات، والتحاور معهم، ويجعلون هذا التقاربَ والتحاورَ  في مقام الدَّعوة إلى اللَّه التي أمر، سبحانه وتعالى، أن تكون بالحكمة وبالموعظة الحسنة وبالتي هي أحسن، ويصدرون في سلوكهم هذا عن إيمانٍ بالرسالة التي يحملونها، وبواجب تبليغها إلى الناس كافة، وبأنهم دعاةُ هداية ربّانية، وحضارة بانية، وثقافة هادفة.

 وحيثما تجمّع المسلمون خارج دول العالم الإسلامي، سواء أكانوا جالية تقيم بصفة مؤقتة، أم أقلية مستوطنة، أم أقلية مواطنة، فإن القيم والمبادىء التي يؤمنون بها تشع من حولهم، وتترك أثرها في تعاملهم مع من يعيشون معهم، لأن هذه القيم بانيةٌ للعلاقات الإنسانية السليمة، ومؤسِّسةٌ لمبادىء التعايش الحضاريّ الراقيّ.

 بيد أن تأثير القيم الإسلامية في المحيط الاجتماعي الذي يشكّل المسلمون فيه نسيجاً متناسقاً ومترابطاً، لا يأتي مفعولُه الإيجابي، إلا إذا توفرت شروطٌ موضوعية تتمثَّل في الإيمان والوعي بهذه القيم، وتشرّبها، وتمثّلها، والعمل بمقتضاها، وهو الأمر الذي يقتضي القيام بمجهود مستمر في التوعية، والتربية، والتوجيه، على أكثر من مستوى، مما له علاقةٌ بالرعاية المتكاملة في إطار الحرص على حماية الهوية الثقافية والذاتية الحضارية.

ولا شك أن الأقليات الإسلامية المقيمة في مختلف الأقطار، هي أحوج ما  تكون إلى أن نتعهدها بهذه الرعاية المتكاملة، تربوياً وثقافياً وأخلاقياً وفكرياً، حتى تبقى هذه الأقليات في منأى عن المؤثّرات الضاغطة التي تهدّد الوجودَ المعنويَّ في الصميم، وتضعف في الإنسان المناعةَ الثقافية والأخلاقية، فيصبح فريسةَ الضياع والانحراف والتيه.

ولذلك فإن تأثير الأقليات الإسلامية في المجتمعات التي تعيش في محيطها،  يتوقف على مدى سلامة الكيان الفكري والثقافي، وعلى المناعة الأخلاقية لهذه الأقليات ؛ فكلما كانت الجماعات الإسلامية خارج بلدان العالم الإسلامي، متماسكةً عقائدياً وأخلاقياً، وواعيةً برسالتها الحضارية، كان ذلك أقرب إلى التأثير الإيجابيّ المتحضّر في البيئة والمحيط.

أما إذا ضَعُفَ هذا الكيانُ وتَرَاخَى بسبب غياب الوعي الديني الصحيح وانعدام التضامن القوي والعمل  المنظم المتقن في إطار احترام القوانين السائدة والاستفادة منها، وغير ذلك من الأسباب، انعزل المسلمون عن مجرى الحياة، وانسحبوا من ميدان التدافع الحضاري، وانتهى أمرُهم إلى التلاشي، فالانهيار، حيث تصبح الأقلية الإسلامية في هذه الحالة، عبئاً ثقيلاً على المجتمع الإسلامي الكبير، تُسيء إلى الإسلام من حيث تدري أو لا تدري.

 

علاقة الأقليات والجاليات الإسلامية

المحيط المحلي :

من هذا المنظور، فإن علاقة الأقليات الإسلامية بغير المسلمين، ينبغي أن تقوم على أساسٍ من القيم الإسلامية التي تصنع الفرد والجماعة، وتجعل من المسلم عضواً فاعلاً ومؤثّراً في دائرته القريبة، وفي محيطه الأشمل، وفي أي بيئة يعيش فيها، يتجاوب مع ما تعجُّ به الحياة من أحوال وأحداث، ويتفاعل مع ما يسود المجتمع من أفكار وآراء ومواقف، ويستوعب كلَّ ما يجري من حوله بعين فاحصة، وعقل مدبّر، وفكر حصيف.

فإذا ارتقت الأقليات الإسلامية إلى هذا المستوى من التعامل والتجاوب والتحاور مع المجتمعات التي تعيش فيها، كان لها حضورٌ متميّزٌ في ميادين العمل العام، وكان لها تأثيرها الفاعل في مَاجَرَيات الأمور، وكان لها بعد ذلك كلِّه، صوتُها المسموع وذكرُها المحمود.

وليست الأقليات الإسلامية سواء في مدى تعاملها مع غير المسلمين، وإنما هناك تفاوتٌ في درجة هذا التعامل، وفي تأثيره، نتيجة اختلاف ظروف كل فئة من فئات الأقليات الإسلامية. ويترتَّب على هذا التفاوت، تعدّدٌ في مستويات تجاوب الأقليات الإسلامية مع مختلف طبقات المجتمع الذي تعيش فيه، مما ينعكس على العلاقة التي تُقيمها هذه الأقليات مع غير المسلمين، سواء على المستوى السياسي، أو على المستوى الثقافي والإنساني العام.

وليس من شك أن العلاقات الثقافية لا تثمر النتائج المرغوب فيها، إلا إذا استندت إلى قاعدةٍ راسخةٍ من الاحترام المتبادل، ومن الثقة في دوافع كلِّ طرفٍ من الأطراف المُنْشِئة لهذه العلاقات، ومن الإيمان بالأهداف المشتركة، والالتقاء حولها، والاقتناع بها، وجعلها محطَّ كل اهتمام وموضعَ كل عناية، حتى تتحقق في الواقع المعيش.

ومن المؤكد أن الأقليات الإسلامية ستحقّق لذاتها منافع جمّة وفوائد كثيرة، إذا ما وفقت في إقامة علاقاتٍ ثقافيةٍ غنية ومثمرة مع جميع شرائح المجتمعات التي تندمج فيها وتتعايش معها، فمن شأن تقوية العلاقات الثقافية بين الأقليات الإسلامية، وبين غير المسلمين، أن تـُنشىء روابط إنسانية متينة ترسخ الوجودَ الإسلاميَّ في الديار غير الإسلامية، وتساهم في إبراز الصورة الحقيقية للإسلام، وفي تصحيح ما يروج من مغالطات وافتراءات وأخطاء، عن الإسلام، من حيث هو عقيدة ودين وثقافة وحضارة.

 إن إقامة علاقات ثقافية نشيطة وذات فعالية ومردود واقعي، على أي مستوى من المستويات، تتطلب انتهاج الطرق القانونية، وسلوك المنهج العلمي الذي يُفضي إلى أقوم السبل المؤدّية دائماً إلى تحقيق الأهداف المتفق عليها.

 ويقتضي هذا أن يُرجَع في إقامة هذه العلاقات، إلى القوانين المحلية، والتقيّد بمقتضياتها، والالتزام بروحها ونصّها، وذلك تجنباً لأي لبس أو غموض، وابتعاداً عن أية شبهة أو مظنة، وتوخياً لبلوغ الغايات الشريفة في قصدٍ واعتدال.

إن الأقليات الإسلامية في العديد من المناطق والأقطار، تتوفّر لها فرصٌ كثيرة للعمل في هذا الميدان، خاصة الأقليات الإسلامية التي تعيش في الدول الأوروبية، وفي الولايات المتحدة الأمريكية، وفي كندا، واستراليا، واليابان، وفي بعض دول أمريكا الجنوبية، حيث تُتيح القوانين المحلية، الفرص المتعددة لإنشاء الجمعيات والهيئات والروابط التي تنظم علاقات الأقليات فيما بينها من جهة، وفيما بينها وبين جميع فئات المجتمع ومختلف شرائحه، من جهة ثانية، وحيث تكفل هذه القوانين للأقليات، الحقَّ في ممارسة الشعائر الدينية، والقيام بالأنشطة الثقافية التي تخدم الأهداف التي ترغب في تحقيقها، وتمهد أمامها السبل نحو تنمية علاقات التعاون مع مكوّنات المجتمع الذي تعيش فيه، بالقدر الذي يكفل لها حظوظاً كبيرة لتطوير قدراتها، ولتقوية كيانها، ولإِحكام علاقتها بمن تشاء من الفئات والطوائف، من مختلف المشارب والمذاهب والاتجاهات.

أما الأقليات الإسلامية التي تعيش في أوطانها، كحالات مسلمي الهند والصين والاِتحاد الروسي، على سبيل المثال لا الحصر، فإنها في حاجة ماسّة إلى تنظيم نفسها بالشكل القانوني الذي يضمن لها العمل على تنمية ذاتيتها، وإقامة علاقات ثقافية مع المحيط الذي تعيش فيه، من أجل أن تحافظ على هويتها الثقافية التي من أقوى مقوّماتها وأهمّها على الإطلاق، عقيدتُها الدينية. وبالنسبة لمسلمي روسيا، فإنَّ انضمام هذه الدولة إلى منظمة المؤتمر الإسلامي بصفة ملاحظ ، قد يفتح الباب أمام معالجة المشاكل التي يعاني منها المسلمون هناك بالأسلوب المناسب، وفي إطار المواطنة الروسية. أما بالنسبة لمسلمي الهند الذين يزيد تعدادهم عن مائتي مليون، فلربما كانت مسألة كشمير عائقاً في الوقت الحاضر عن انضمام الهند بصفة ملاحظ إلى منظمة المؤتمر الإسلامي.

وليس بخافٍ أن الأقليات الإسلامية في هذه البلدان، لا تجد المناخ المناسب في معظم الأحوال، للتحرّك في هذا الاتجاه. وهنا يتعيّن على المنظمات والهيئات الإسلامية الرسمية والشعبية، أن تقوم بواجبها تجاه الأقليات الإسلامية التي تعيش في أوطانها محرومةً، أو مضطهدةً، أو واقعةً تحت ضغوط مختلفة المصادر. ومن أوجب واجبات البلدان الإسلامية أن تتضافر جهودُها في تقديم الدعم المادي والأدبي لهذه الأقليات، وأن تقوي صلاتها بها، وأن تُشعرها دائماً بأنها جزءٌ لا يتجزأ من الأمة الإسلامية، تتجاوب معها، وتساندها وتدعمها.

 

دور العلاقات الثقافية في تفعيل حضور الأقليات والجاليات الإسلامية :

العلاقات الثقافية التي تنظمها الأقليات والجاليات الإسلامية في البلدان التي تعيش فيها، تشكّل في جوهرها، رصيداً للأمة الإسلامية، يمكن استثماره في التعامل الذكي مع حكومات هذه الدول ومع منظماتها الرسمية والشعبية، من أجل تحسين أوضاع المسلمين فيها، في إطار العلاقات الديبلوماسية القائمة بينها وبين بلدان العالم الإسلامي.

وفي كل الأحوال، فإن العلاقات الثقافية التي تُقيمها الأقليات الإسلامية في مختلف المهاجر، سواء في الشرق أو الغرب، في الشمال  أو في الجنوب، يمكن استثمارها لدعم الوجود الإسلاميّ في هذه الأقطار، بشتى الأساليب والطرق التي يكفلها القانون الدولي، وذلك من أجل تصحيح صورة الإسلام التي تتعرّض للتشويه، وتبليغ الرسالة الإسلامية إلى العالم، بلغة مفهومة، وبمنطق مقنع، وبأسلوب جذاب، من دون إخلال بجوهر العقيدة، أو بأصل من أصول الدين الحنيف، ومن دون بخس حقٍّ من حقوق المسلمين. ويتطلب هذا الأمر حسن التصرّف، والفهم الرشيد لمقتضيات العمل الثقافي في قنواته الدولية، مع الوعي المتفتّح بمتطلبات التحرك في هذه الميادين الحيّوية.

وتتسع القنوات التي يوفّرها العملُ الدوليُّ في المجال الثقافي، للعلاقات الثقافية بين الجاليات والأقليات الإسلامية وبين غير المسلمين على العديد من الأصعدة ؛ فعن طريق هذه القنوات، يمكن أن يُقيم المسلمون، خاصة في المهجر، علاقاتِ تعاونٍ نشيطة إذا عرفوا كيف يستثمرونها ويوظّفونها التوظيف الجيّد المدروس والمتقن، أمكن لهم أن يحققوا مكاسب كثيرة تنفعهم في حياتهم حيث هم، وتنفع العالم الإسلامي بأسره والمسلمين كافة في كل مكان، ذلك أن الحضور الفاعل والمؤثّر للمسلمين في البلدان غير الإسلامية، يوفّر فرصاً كثيرة لهم لخدمة قضايا العالم الإسلامي، وللعمل الجدّي الهادف من أجل إبراز صورة الإسلام والتعريف بحقائقه ودحض الشبهات وتصحيح الأخطاء والمغالطات التي تنشر وتذاع ويتقبلها الناس في المجتمعات الغربية باعتبارها حقائق، وذلك على مستويين اثنين :

أولهما : المستوى الفردي الذي يتجسَّد في السلوك الشخصي الملتزم بأخلاقيات الإسلام التي تحثّ على حسن المعاشرة، والتعايش مع الناس جميعاً، والاندماج في المحيط الاجتماعي، والسعي في نفع المجتمع والإخلاص في خدمته، بحيث يُعطي الفرد المسلم في المحيط الذي يعيش فيه، القدوة والمثال للشخصية الإسلامية النافعة للمجتمع، بتصرفاته، وبأنماط سلوكه، وبمعاملاته، بالأنشطة التي يقوم بها.

ثانيهما : المستوى الجماعي الذي يتمثَّل في إقامة علاقة تعاون جماعي في إطار القوانين والأنظمة المحلية لخدمة أهداف سامية، في المقدمة منها الدعوة إلى الإسلام بالحكمة والموعظة الحسنة بكل ما في ذلك من معانٍ ودلالات، ودون إخلال بواجب الانضباط في السلوك واحترام القوانين والأنظمة، وذلك في شكل تأسيس الجمعيات، والأندية، والروابط، والهيئات، والمراكز الثقافية، وإصدار النشرات الإعلامية، وربط الصلة بوسائل الإعلام وبالدوائر ذات التأثير في الرأي العام المحلي والعالمي، وبمشاركة المجتمع الذي يعيش فيه، في كل شأن من شؤونه العامة، بحيث يندمج المسلمون، سواء أكانوا من المهاجرين أم من المقيمين أم من السكان الأصليين ممن اهتدوا إلى الإسلام، في المحيط العام سياسياً واجتماعياً واقتصادياً وثقافياً وفكرياً.

إنَّ الدور الذي يمكن أن تقوم به الجاليات والأقليات الإسلامية في خدمة الأهداف العليا للعالم الإسلامي، وفي المقدمة منها، إبرازُ صورة الإسلام، وتصحيح الأخطاء ودحض الشبهات التي تنشر عن الإسلام والمسلمين، من الأهمية بمكان. وتَتَعاظَمُ أهمية هذا الدور، إذا تعزَّز بدعم المؤسسات الإسلامية له، خاصة تلك التي تعمل في إطار العمل الإسلامي المشترك.

ومن أجل بيان تأثير هذا الدور وأهميته في دعم أهداف العمل الإسلامي المشترك، نعرض فيما يلي لمفهوم المؤسسة الإسلامية، ثم لواقع المؤسسات الإسلامية، قبل أن نتناول العلاقة بين الجاليات والأقليات وبين مؤسسات العمل الإسلامي المشترك.

مفهوم المؤسسة الإسلامية :

يندرج تحت مفهوم (المؤسسة الإسلامية)، كلُّ جهاز يقوم على قواعد إدارية وهيكلية تنظيمية، يهدف إلى خدمة القضايا والشؤون الإسلامية في أحد حقول العمل الإسلامي، سواء أكان هذا الجهاز منظمة، أم مؤسسة، أم جمعية، أم وكالة، أم هيئة. ويشمل مفهوم (المؤسسة الإسلامية)، على مستوى ثانٍ، الجامعات، والمعاهدَ، والمدارس التي تختص بالدراسات الإسلامية وتجعل من خدمة الثقافة الإسلامية المهمة الرئيسة لها.

والمؤسسات الإسلامية التي تندرج تحت المستوى الأول، تجربةٌ حديثة العهد نسبياً في العالم الإسلامي، بحكم أن تأسيس منظمة المؤتمر الإسلامي، قد تم في عام 1969 م،  وأن معظم المؤسسات التي تعمل في إطار هذه المنظمة، قد أنشئت بعد ذلك. أما المؤسسات التي أُنشئت قبل سنة 1969 م، فهي على قسمين ؛ قسم حكومي، وقسم أهلي، فمن القسم الأول على سبيل المثال، مجمع البحوث الإسلامية التابع للأزهر الشريف في القاهرة، ومن القسم الثاني رابطة العالم الإسلامي في مكة المكرمة.

وهذا المفهوم وظيفيٌّ أكثر منه وصفيّ ومنطقيّ، لأن في الأصل، ومن حيث المبدأ، كلّ ما يُؤسَّس في المجتمع الإسلامي، يجب أن يقوم على قواعد إسلامية، ويرمي إلى أهداف إسلامية، فيكون إسلامي المنطلق والمحتوى والمقصد. وبالتالي، فإن المؤسسات التي تُنشأ في البلدان الإسلامية، يجب ــ شرعاً وعقلاً ــ أن تصطبغ بالصبغة الإسلامية، فتكون تبعاً لذلك مؤسساتٍ إسلاميةً.

هذا من حيث المبدأ وأصل الأشياء وجوهر الأمور، غير أن لظروف ولعوامل ولأسباب يطول شرحها، أصبح من المعتاد، ومن المصطلح عليه، بل من المتعارف عليه، أن تحمل اسمَ (المؤسسة الإسلامية) تلك المؤسسةُ التي تُعنى بالشؤون الإسلامية، وتهتم بالقضايا الإسلامية، وتختصّ بكل ما له صلةٌ بالعمل للإسلام عقيدةً ودعوةً وثقافةً وحضارةً وتراثاً. وبذلك صارت كلّ مؤسسة لا تعمل في هذه الدائرة، هي مؤسسة إسلامية، وفقاً لهذا المفهوم الذي على أساسه نتعامل مع المؤسسات الإسلامية بصفتها المبدئية والوظيفية معاً.

وعلى كل حال، فإن المفهوم الوظيفي للمؤسسات الإسلامية يجعل منها الهيئات التي تنهض بمسؤوليات العمل الإسلامي، كلٌّ في حقل تخصّصه، وفي الإطار الذي وُضع له، وطبقاً للمبادئ والأسس والأهداف التي حدّدت له ([2]).

ولكننا قبل أن نعرض لواقع المؤسسات الإسلامية، نتوقف عند منظمة المؤتمر الإسلامي (O.C.I.) لنتعرّف على أهدافها والمبادئ التي تقوم بها، وعلى الأجهزة المتخصّصة التي تعمل في إطارها المعنية بالأقليات والجاليات الإسلامية.

منظمة المؤتمر الإسلامي :

تأسّست منظمة المؤتمر الإسلامي في الرباط في الثاني عشر من رجب 1389 هـ الموافق لـ 25 ديسمبر 1969 م، بمناسبة مؤتمر القمة الإسلامي الأول. وبعد ستة أشهر من هذا الحدث التاريخي، عقد في جدة المؤتمر الإسلامي الأول لوزراء الخارجية في شهر مارس 1970، الذي تمَّ خلاله إنشاء الأمانة العامة للمنظمة.

ويحدّد ميثاق منظمة المؤتمر الإسلامي أهدافها كما يلي : تعزيز التضامن الإسلامي بين الدول الأعضاء، التعاون بين الدول الأعضاء في المجالات السياسية والاِقتصادية والاِجتماعية والثقافية والعلمية، ودعم كفاح جميع الشعوب الإسلامية في سبيل المحافظة على كرامتها واستقلالها وحقوقها الوطنية، وحماية الأماكن المقدسة، ودعم كفاح الشعب الفلسطيني ومساعدته على استرداد حقوقه وتحرير أراضيه، وإيجاد الحلّ الملائم لتنمية التعاون والتفاهم بين الدول الأعضاء وبقية دول العالم.

أما مبادئ المنظمة، فهي كالتالي: المساواة التامة بين الدول الأعضاء، احترام حقّ تقرير المصير وعدم التدخل في الشؤون الداخلية للدول الأعضاء، احترام سيادة كلّ دولة واستقلالها وسلامة أراضيها، تسوية أيّ نزاع قد ينشأ بين الدول الأعضاء بالطرق السلمية كالمفاوضات والوساطات والمصالحة والتحكيم، الاِلتزام بعدم اللجوء إلى القوّة والتهديد باستخدامها ضدّ وحدة أو سلامة الأراضي أو الاِستقلال السياسي لأيّ دولة عضو.

ومن ضمن الأجهزة المتفرعة عن منظمة المؤتمر الإسلامي، (صندوق التضامن الإسلامي ووقفيته) الذي من أهدافه (تقديم المعونات المادية للأقليات والجاليات الإسلامية بغية رفع مستواها الديني الثقافي والاِجتماعي… )

 ومن بين المؤسسات والأجهزة المتخصّصة التي تعمل في إطار منظمة المؤتمر الإسلامي، (البنك الإسلامي للتنمية)، ومن بين أهدافه : (دعم التنمية الاِقتصادية والتقدّم الاِقتصادي للدول الأعضاء والمجتمعات الإسلامية مجتمعةً ومنفردةً وفقاً لمبادئ الشريعة الإسلامية).

في حين تهتم المنظمة الإسلامية للتربية والعلوم والثقافة ــ إيسيسكو ــ التي هي من الأجهزة المتخصّصة العاملة في إطار منظمة المؤتمر الإسلامي، اهتماماً واسعاً بالأقليات والجاليات الإسلامية، كما يبيّن ذلك الهدف الخامس من أهدافها الواردة في ميثاقها، ونصُّه : (حماية الشخصية الإسلامية للمسلمين في البلدان غير الإسلامية). وسنعرض لجهود الإيسيسكو في هذا المجال فيما بعد.

واقع المؤسسات الإسلامية :

إن من مقتضيات المنهج السليم في دراسة حالةٍ ما، أو تحليل وضع من الأوضاع، ربط تلك الحالة وذلك الوضع بالمحيط العام في جوانبه المتعدّدة. ولذلك فإن المؤسسات الإسلامية يندر أن تخرج عن هذه القاعدة المطّردة، فهذه المؤسسات جزء لا يتجزأ من الأوضاع العامة، وهي من صميم الواقع في العالم الإسلامي، متأثّرة به، وخاضعة له، ومتجاوبة معه، لا سبيل لها إلى أن تنفصل عنه، فهي تقوي ويشتدّ عودُها بقدرما تسرى القوة والصحة والحيوية في الكيان الإسلامي كلِّه، والعكس صحيح. فهذه المؤسسات إذن، تعبّر تعبيراً يَتَفَاوَتُ من مؤسسة إلى أخرى، عن طبيعة المجتمع الذي تعيش فيه، كما تعبّر عن محصلة الأوضاع التي يعيشها العالم الإسلامي.

ولكن لهذه القاعدة استثناءً نجده ملموساً في طائفة من المؤسسات الإسلامية التي استطاعت أن تتغلّب على الظروف المحيطة بها، وأن تتجاوز الصعوبات، وأن ترتقي إلى مستوًى من النجاح يشهد لها بالإدارة الجيّدة، وبالأداء الراقي، وبالتأثير الإيجابي والفاعل الذي تُحدثه في المحيط الذي تعمل فيه. فليست كل المؤسسات الإسلامية على شاكلة واحدة، ولكنها تختلف من محيط إلى آخر، ومن ظرف إلى آخر، ويَتَفَاوَتُ أداؤها من إدارة إلى أخرى.

ومن هذه الزاوية، ننظر إلى المؤسسات الإسلامية، فنراها على مستويين اثنين:

     ــ المستوى الأول: مؤسسات إسلامية ذات الطابع العام، سواء أكانت تعمل في إطار منظمة المؤتمر الإسلامي، أم تدخل في إطار المؤسسات الحكومية المرتبطة بالسياسات التي تضعها الدول وتتبنّاها، على تنوُّع هذه المؤسسات وتعدُّدها، بحيث تشمل المنظمات، والهيئات، والوكالات، والجامعات، والمعاهد، والجمعيات، والمجامع. ويكاد يكون القاسم المشترك بين هذه المؤسسات هو ضعف الموارد المالية الذي يؤدّي إلى ضعفٍ في الموارد البشرية، كما يؤدّي إلى محدودية التأثير في المحيطين المحلي والإقليمي، والإسلامي العام، وهو الأمر الذي يترتَّب عليه قصورٌ ملحوظٌ في تحقيق الأهداف المرسومة، سواء عند التأسيس، أو تلك الأهداف التي ترسمها الهيئات العليا المشرفة على هذه المؤسسات، في اجتماعاتها الدورية، كالمؤتمرات العامة، والمجالس التنفيذية، ومجالس الأُمناء، ... الخ، مما يتسبَّب في خلق حالةٍ من عدم الثقة الكاملة في قدرة العديد من هذه المؤسسات على الوفاء بالمهام المناطة بها.

ــ  المستوى الثاني : المؤسسات الإسلامية الأهلية، وهي التي يعبّر عنها (بالمؤسسات الإسلامية الشعبية)، على ما في هذا التعبير من خلل منهجي ؛ لأنه في الواقع، كل مؤسسة إسلامية شعبيةٌ، باعتبار أن النشاط الذي تقوم به موجَّه إلى الشعب، إن لم يكن موجَّهاً في الأساس، إلى الشعوب الإسلامية كافة. وتخضع هذه المؤسسات في الجملة لعدّة ضغوط، يأتي في مقدّمتها شحٌّ متزايدٌ في الموارد المالية، ووقوع بعضها تحت تأثير الجهات المانحة التي قد لا تكون دائماً متجاوبةً تجاوباً كاملاً، مع الأهداف التي أُنشئت هذه المؤسسات للعمل من أجلها، مما يؤدّي في بعض الأحيان، إلى الاِنحراف ــ الذي يكبر أو يصغر ــ عن الخط المرسوم، ويتم ذلك على حساب مصداقية العمل الإسلامي، مما يؤدّي بالتالي، إلى نتائج سلبية تؤثّر في مسار العمل الإسلامي، بصورة عامة، بدرجةٍ أو بأخرى.

وهناك في بعض الحالات، قدرٌ من التداخل بين المستويين، بحيث تنعدم الفوارق بينهما، بمعنى أن العوامل التي تؤثّر في المؤسسات الإسلامية في المستوى الأول، تكون هي العوامل ذاتها التي تؤثّر في مؤسسات المستوى الثاني.

 ولكن على الرغم من ذلك، فإنَّ لكل مستوى ظروفاً تكتنفه، ومناخاً يسود فيه، ومواصفات تختصّ به.

ولقد تضافرت عوامل كثيرة على صعيد العالم الإسلامي، أدَّت إلى نشوء الوضع الراهن الذي تعيشه المؤسسات الإسلامية، منها الظروف التي مرَّت بها البلدان الإسلامية طوال العقود الأخيرة، سياسياً واقتصادياً، اجتماعياً وثقافياً، مما كان له التأثير القويّ  ــ  إيجابياً وسلبياً  ــ  على مجمل أنشطة العمل الإسلامي المشترك، وهو الأمر الذي انعكس على هذه المؤسسات، فَنَالَ من مصداقية بعضها، وأَضْعَفَ مردودية بعضها الآخر، وحتى المؤسسات التي استطاعت أن تتغلَّب على هذه العوامل وتتجاوزها، لحقت بها آثارٌ من المناخ السائد في المحيط الذي تتحرك داخله.

ومن العوامل التي تسبَّب في إضعاف المؤسسات الإسلامية في غالبيتها، إضافةً إلى ما سبقت الإشارة إليه، تَكَالُبُ القُوى المناهضة للإسلام وللأمة الإسلامية، وتآمرُها، وكيدُها، وإجماعُها على النيل من هذا الدين القيّم، وتمزيق صف المسلمين، وتشتيت جهودهم، وعرقلة كلّ مسعى يرمي إلى تضامنهم ووحدتهم واجتماع أمرهم على ما ينفع الأمة ويمكث في الأرض.

ولكننا لا نردّ قصور بعض المؤسسات الإسلامية وضعفها إلى العوامل الخارجية على وجه الإطلاق، وإنما نقول بوجود قدرٍ من التأثير الخارجي في نشوء هذه الظاهرة، وإن المسلمين يتحمّلون نصيبهم من المسؤولية في كل الأحوال.

ويمكن القول إنَّ نجاح بعض المؤسسات الإسلامية في القيام بدورها المرسوم لها، هو في حدّ ذاته، ظاهرةٌ من الظواهر الصحية التي تسود العالم الإسلامي، إذ أنه ليس من المنهج السّديد الحكم بصورة إجمالية، على المؤسسات الإسلامية جميعاً، لأن من بينها المؤسسة الناجحة في أداء رسالتها، والمتعثّرة في إنجاز مهمتها، ومن بينها أيضاً، المؤسسات التي يتراوح عملها بين النجاح والإخفاق، لسببٍ من الأسباب.

 ولكن، وبصورة عامة، يمكن لنا أن نسجّل في هذا المقام، أن نسبة النجاح في أداء المؤسسات الإسلامية لوظائفها، لا تَتَنَاسَبُ مع مستوى الأهداف المخطّط لها، ولا تستجيب للآمال المعلّقة عليها منذ إنشائها وإلى اليوم([3]).

 

العلاقة بين الجاليات الإسلامية ومؤسسات العمل الإسلامي المشترك :

تعدّ العلاقات الثقافية في إطار المنظمات الدولية والإقليمية، من أقوى الوسائل للتعاون فيما فيه المصالح المشتركة للشعوب. ويتوجّب على الأقليات الإسلامية حيثما كانت، أن تشارك مؤسساتها الثقافية والتربوية والاجتماعية في أعمال هذه المنظمات والهيئات الدولية، وأن تستفيد من الفرص التي تُتيحها في إقامة شبكةٍ من العلاقات الثقافية المنتجة التي تصبّ في اتجاه خدمة مصالحها.

وتقع على منظمات العالم الإسلامي ومؤسساته المعنية بالعمل الثقافي العام، مسؤوليةٌ كبيرة في هذا المجال الهام، إذ أن الأقليات الإسلامية في حاجة شديدة إلى أن تقف هذه المنظمات إلى جانبها، وتدعمها، وتقدم لها الخدمات التربوية والعلمية والثقافية، وتوفّر لها المساندة والمؤازرة في كل الأحوال، لأن نجاح هذه الأقليات في حماية هويتها، وفي الدفاع عن حقوقها ومصالحها، يخدم في نهاية المطاف، المصالح العليا للعالم الإسلامي.

وسأعرض في هذا المقام، تجربةً متميّزةً للعمل الإسلامي المشترك في إطار المنظمات والمؤسسات الإسلامية الموجَّه للجاليات والأقليات الإسلامية، تتمثّل في الإنجاز الذي حققته المنظمة الإسلامية للتربية والعلوم والثقافة ــ إيسيسكو ــ  في مجال الاهتمام المخطَّط والمدروس بشأن الحضور الإسلامي في الغرب.

لقد تأسست المنظمة الإسلامية للتربية والعلوم والثقافة في عام 1982، وأولت اهتماماً مركزاً بقضايا الجاليات والأقليات الإسلامية في الغرب منذ انطلاقتها الأولى.

ويتمثّل هذا الإنجاز في (استراتيجية العمل الثقافي الإسلامي في الغرب) التي اعتمدها مؤتمر القمة الإسلامي التاسع المنعقد في الدوحة في شهر نوفمبر عام 2000.

ولقد حرصت المنظمة الإسلامية على وضع هذه الاستراتيجية للعمل الثقافي الإسلامي للجاليات الإسلامية في الغرب، ساعيةً إلى تحقيق الأهداف الرئيسَة التالية:

أ ) تأكيد دور الثقافة في حماية الهوية الحضارية للجاليات والأقليات  الإسلامية.

 ب) تقريب الرؤى وتوحيد مناهج العمل وتوطيد جسور التعاون بين  العاملين في حقل العمل الثقافي الإسلامي في الغرب .

 ج ) تصحيح المفاهيم وتحديد المصطلحات.

 د) إيجاد مرجعية قيمية إسلامية توجيهية تهدي الأعمال وتحميها من الاستلاب والانغلاق معاً.

وتستمد هذه الاستراتيجية مبادئها ومنطلقاتها من القواعد التالية :

أولاً : القاعدة الإيمانية : تستند الاستراتيجية في تصوراتها إلى المرجعية   القيمية الإسلامية التي تنظر إلى العمل الثقافي على أنه فعل تعبّدي، وليس مجرد مهارات وتقنيات، مؤكدة بذلك البعدَ الروحيَّ والقيميَّ للتنمية الشاملة المنشودة للمسلمين .

ثانياً : القاعـــدة التــوازنـية : تقـوم على التلاحـم بين مبـدأي الأصالة والمعاصرة، حيث تعمد إلى ترسيخ قيم الانتماء العقدي والحضاري من جهة، وإلى الانفتاح على مستجدات العصر من جهة أخرى، لكي لا تنقطع صلة هذه الأجيال بماضيها، وفي الوقت نفسه، لا تتقاعس عن مواكبة زمانها.

ثالثاً : القاعدة الشمولية : تنطلق من أن البناء الحضاري السويّ لأي مجتمع من المجتمعات، يجب أن يقوم على العناية بمختلف الجوانب الثقافية والاجتماعية والتربوية، مؤكدةً بذلك تعدّد الأبعاد للنموذج الحضاري السليم([4]).

 إنَّ هذه الاستراتيجية، كما هو واضح، تعدُّ فتحاً في تعامل العالم الإسلامي مع أبنائه وبناته المهاجرين على مختلف فئاتهم وفي جميع مواقعهم. ولقد حرصت المنظمة الإسلامية للتربية والعلوم والثقافة، على تفعيل استراتيجية العمل الثقافي الإسلامي في الغرب، فأنشأت المجلس الأعلى للتربية والثقافة في الغرب الذي باشر عمله بعقد سلسلة من الاجتماعات في بعض العواصم الأوروبية، كما عينت المنظمة أحد الكفاءات الثقافية العاملة في الغرب للقيام بالتنسيق والمتابعة تحت إشراف الإدارة العامة.

 وتقوم المنظمة الإسلامية بتنفيذ عدد من الأنشطة التربوية والثقافية لفائدة الجاليات والأقليات الإسلامية بالتعاون مع المراكز والجمعيات الإسلامية في الغرب ([5]).

وتوسَّع العمل الذي تقوم به المنظمة الإسلامية في هذا المجال، بحيث امتدَّ إلى أمريكا اللاتينية، وعقدت اجتماعين للمراكز الثقافية والجمعيات الإسلامية العاملة في دول المنطقة، في بوينس إيريس عاصمة الأرجنتين. وستواصل المنظمة الإسلامية العمل في هذا المجال، إيماناً منها برسالة الجاليات والأقليات الإسلامية في خدمة قضايا الأمة من خلال تنظيم عملها وتنسيق جهودها والعمل من أجل حشدها وتضافرها.

 

أوضاع الجاليات الإسلامية بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر :

انعكست تداعيات أحداث الحادي عشر من سبتمبر عام 2001، على أوضاع الجاليات والأقليات الإسلامية في الغرب بصورة عامة، كما أثرت مضاعفات هذه الأحداث، على الدور الذي تقوم به المؤسسات الإسلامية في أوساط التجمعات الإسلامية في بلاد المهجر، في خدمة الإسلام والمسلمين والعمل على إبراز صورة الإسلام، وذلك على النحو الذي أساء إلى سمعة العمل الإسلامي التربوي والثقافي في الغرب، وأضرّ بمصالح العالم الإسلامي إضراراً كبيراً

لقد كان لأحداث الحادي عشر من سبتمبر، أسوأ التأثير على صورة الإسلام في الغرب؛ فقد تحركت دوائر كثيرة، من أعلى المستويات إلى ما دونها، لشن حملات مغرضة ضد الوجود الإسلامي في الغرب، وضد كل ما يمتُّ إلى الإسلام بصلة في كل مكان، وعلى نحو لا يقارن بما كان عليه الوضع قبل وقوع تلك الأحداث.

ولا تزال هذه الحملات تَتَصاعَدُ على نحو خطير، مما يدعونا إلى إعادة النظر في تطوير أساليب العمل لفائدة الأقليات والجاليات الإسلامية، لحمايتها والدفاع عن مصالحها، ولمساعدتها على إبراز صورة الإسلام الحقيقية.

إن المسألة تتعلق أولاً بتصحيح صورة الإسلام في العالم الإسلامي قبل التفكير في إبراز هذه الصورة للمجتمعات غير الإسلامية. ويتعيّن علينا أن ننطلق من الاقتناع بالحقيقة التالية، وهي أن تصحيح أوضاع الأمة الإسلامية وترشيد أحوالها، وتكييفها وفق المبادئ الإسلامية الحق التي تقوم على العدل والشورى والمساواة واحترام حقوق الإنسان والعدالة الاجتماعية وتقوية التضامن الإسلامي وتعزيز التعاون والتنسيق بين البلدان الإسلامية، وإعلاء شأن العلم وتطوير البحث العلمي، والحثّ على العمل وإتقانه إلى أبعد الحدود.  إن ذلك كلَّه يمثّل الوسائل الكفيلة بتقويم أوضاع العالم الإسلامي تقويماً رشيداً، وبتقوية المجتمع الإسلامي والرفع من شأنه، وبتحصين الذات، وبالارتقاء إلى مستوى التعامل مع المتغيّرات الدولية، بما يلزم من رشد سياسي، ونضج فكري، ورؤية إنسانية متفتحة، وقدرات ذاتية تساعد البلدان الإسلامية على حماية مصالحها والدفاع عن حقوقها، والحفاظ على مقدراتها ومواردها وسيادتها واستقلالها وسلامة أراضيها([6]).

في هذه الحالة، تنعكس صورة العالم الإسلامي على الجاليات الإسلامية في الغرب، وتمتلك المؤسسات الإسلامية الوسائل الفعالة للعمل مع هذه الجاليات، على إبراز صورة الإسلام في نقائها وسماحتها، والوقوف في وجه الحملات المغرضة التي تسعى إلى تشويه هذه الصورة وتضليل الرأي العام في الغرب ووضع الحواجز بينه وبين شعوب العالم الإسلامي.

 

خلاصة :

إنَّ الدور الذي يتعيَّن على منظمة المؤتمر الإسلامي والمؤسسات والأجهزة الإسلامية الأخرى، القيام به في دعم الأقليات والجاليات الإسلامية، هو من الأهمية بمكان؛ فالمسلمون خارج مجموعة الدول الأعضاء في منظمة المؤتمر الإسلامي، يحتاجون إلى هذا الدعم متعدّد الأوجه، ليحافظوا على مقوماتهم الدينية وخصوصياتهم الثقافية والحضارية، لا ليَتَقَوْقَعوا وينكفئوا على ذواتهم في المحيط الذي يعيشون فيه، ولكن ليظلوا على صلة وثيقة بجذورهم وأصولهم، باعتبارهم جزءاً لا يتجزأ من الأمة الإسلامية، وليكونوا على الدوام سفراء يمثلون بلدانهم الأصلية خير تمثيل ويقدمون الصورة الحقيقية للإسلام، فضلاً عن إنهاء عزلتهم الاِجتماعية والثقافية، ودفعهم إلى التفاعل الاِجتماعي والإسهام في بناء أوطانهم الجديدة. أما بالنسبة للمسلمين الذين هم من المواطنين الأصلاء في بلدانهم، والذين يدخلون تحت مسمَّى الأقليات، فإنَّ الدعم الذي يحتاجونه، يتمثّل في تقديم الخدمات التربوية والتعليمية والثقافية لهم، وفي الوقوف إلى جانبهم كلّما تعرضوا للحيف أو للتمييز من طرف جهات محلية أو دولية، ولتمكينهم من إقامة علاقات أخوية مع إخوانهم في الدين من مختلف أنحاء العالم، تأكيداً وترسيخاً للأخوة الإسلامية، وتعزيزاً وتفعيلاً للتضامن الإسلامي، واستفادةً من الخبرات العلمية والعملية التي تَتَوافَرُ لديهم، واستثماراً للقدرات والإمكانات التي يملكونها في تنمية العالم الإسلامي وإرساء قواعد بنائه الحضاري.

وتتسع في هذا الإطار مجالات التعاون والتنسيق بين منظمة المؤتمر الإسلامي والمؤسسات الإسلامية الأخرى، بقدر حجم القضايا والمشكلات التي تعاني منها الأقليات والجاليات الإسلامية، والتي تختلف من منطقة إلى أخرى، بحسب الظروف والمناخ السياسي العام.

وتَتَضاعَفُ المسؤوليات في هذا الصدد بقدر درجة التحدّيات التي تواجه الأمة الإسلامية بصورة إجمالية، وبقدر الاِحتياجات التي تفرضها الظروف الخاصة بالمسلمين خارج إطار دول منظمة المؤتمر الإسلامي، وكلما جدَّت أسباب تدعو إلى مزيد من الاِهتمام بالأقليات والجاليات الإسلامية، ودعمها دعماً يقوم على أساس متين من التعاون والتنسيق والتكامل والتضامن.

 

[1] _ الحجرات، الأية:10..

[2] _ تأملات في قضايا معاصرة، فصل (الدراسات المستقبلية في مجال تطوير المؤسسات الإسلامية: أهميتها وفائدتها)، ص: 193، الدكتور عبد العزيز بن عثمان التويجري، دار الشروق، القاهرة، 2002م..

[3] _ تأملات في قضايا معاصرة، الدكتور عبد العزيز بن عثمان التويجري، ص 197، دار الشروق،  القاهرة، 2002م.

[4] _ تأملات في قضايا معاصرة، فصل (الدراسات المستقبلية في مجال تطوير المؤسسات الإسلامية: أهميتها وفائدتها)، ص: 193، الدكتور عبد العزيز بن عثمان التويجري، دار الشروق، القاهرة، 2002م.

[5] _ د. عبد العزيز بن عثمان التويجري، الجاليات والمؤسسات الإسلامية ودورها في إبراز صورة الإسلام، ص 35، نشر المنظمة الإسلامية للتربية والعلوم والثقافة-إيسيسكو-، الرباط، 2000م.

[6] _ المصدر السابق، ص: 37..