مساهمة المفسرين في توحيد الأمة
مساهمة المفسرين في توحيد الأمة
السيد عباس علي الموسوي
باحث ومفكر إسلامي- لبنان
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله ربّ العالمين والصلاة والسلام على محمد وآله الطاهرين، وبعد: هذا بحث مختصر وسريع في عالم التفاسير وكيف تساهم في وحدة الأمة وبحثنا يقع في موارد وهي:
1- القرآن الكريم هو كلام الله الذي أنزله على قلب رسوله محمد(ص) وهو المتداول بين أيدينا والذي يبتدئ بسورة الفاتحة وينتهي بسورة الناس فما بين الدفتين هو القرآن المنزل على قلب محمد لا يزيد حرفاً ولا ينقص حرفاً وصلنا يداً بيد كما بلّغه النبي(ص) وهو أصدق كتب السماء، لم تعمل فيه يد التحريف ـ كما عملت بغيره من الكتب الأخرى ـ فإن الله سبحانه تولّى حفظه {إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون} كما تولّى جمعه {إن علينا جمعه وقرآنه} رتبه النبي(ص) في حياته ووضع كل آية في موقعها كما أمره الله فجاء كما هو في حليته التي نراها لم تعمل فيه يد البشر من قريب أو بعيد أو قليل أو كثير ومن ذهب إلى غير ذلك فقد أخطأ ولم يذهب إلى ذلك أحد من المسلمين فإن المسلمين قاطبة وعلى امتداد عصورهم وأزمانهم ورغم الحروب والنزاعات والتهجير والتبعيد لم يجدوا قرآناً ـ ولو نسخة يتيمة ـ غير هذا القرآن الذي بين أيدينا ولو بزيادة حرف أو نقصان حرف ـ وهذا وحده يكفي ليدفع التهم التي توجّه إلى بعض المسلمين بأنهم يقولون بتحريف القرآن مع أن ذلك البعض ليس عندهم قرآن آخر غير الذي بين أيدينا وهم ينكرون التهمة ويدفعونها بواقع إيمانهم أنه ليس هناك قرآن آخر وليس لدوافع أخرى فإن الحرية التي يتمتع بها المجتمع والتي سمحت للملاحدة أن يجهروا بإنكار الربوبية تسمح لغيرهم أن يظهروا عقائدهم وإن خالفوا فيها غيرهم لو كان عندهم مثل ذلك ولكنها الحقيقة الصادقة أنه لا قرآن غير هذا القرآن الذي بين أيدينا.
وعليه فيجب أن نؤمن بالحقيقة التي تقول قولاً واحداً >لا قرآن إلا القرآن الذي بين أيدينا< فإذا تمّ ذلك كان هذا القرآن هو الجامع للأمة كلها تلتقي على الإيمان به والعمل بمضمونه فإن فيه الهدى والخير وفيه عزّ الدنيا وسعادة الآخرة وقد صنع هذا القرآن أُمَّةً تبوأت صدارة الأمم، هذا القرآن يجمع المسلمين ويوحِّد صفوفهم ويرشدهم إلى طريق كمالهم ويدلّهم على أهدافهم وغاياتهم ويسرد عليهم معايير الوحدة وقيم هذا الإسلام.
2- عالم التفاسير: النص القرآني ثابت لا يتغيّر وهذه عقيدة إيمانية وحقيقة لا يمكن تبديلها أو تغييرها وأما التفاسير فهي القابلة للتغيير والتطوير والاجتهاد ـ ولكل زمنٍ مستجداته في التفسير وللعلماء في كل عصر استفادات رائعة لم يكن للقدماء من علماء التفسير معرفة بها وقد اكتشفها العلماء بوسائل العلم والمعرفة الحديثة وكتبوا فيها كتباً فضلاً عن الأبحاث والمقالات وقد بيّنوا من خلال دراساتهم حقائق قرآنية كانت خافية قديماً لبساطة المعرفة عند المتقدّمين حيث اقتصروا في الإعجاز القرآني على بعض الحقول من المعرفة البلاغية والنحوية وأضافوا إليها بعض ما أخبر به القرآن من الغيب وهذا جزء يسير من الإعجاز القرآني وسيبقى القرآن معجزة خالدة يستكشف العلم الحديث وجوهاً جديدة لهذا الاعجاز في الكون والخلق والسنن التاريخية وغيرها.
وحّدنا القرآن حيث نؤمن به جميعاً كتاب الله وخطابه المنزل على رسوله وآمنا أن هناك ثوابت يتضمنها هذا النص ـ وحدانية الله ـ {قل هو الله أحد} الإيمان بجميع الرسل ـ {قولوا آمنا بالله وما أنزل إلينا وما أنزل على إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط وما أوتي موسى وعيسى وما أوتي النبيون من ربهم لا نفرق بين أحد منهم ونحن له مسملون} [البقرة: 13]. الإيمان بالملائكة وكتب السماء {آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه والمؤمنون كلٌّ آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله...} [البقرة: 285]. الإيمان باليوم الآخر {وبالآخرة هم يوقنون} [البقرة: 4]. {كتب على نفسه الرحمة ليجمعنكم إلى يوم القيامة ولا ريب فيه..} [الأنعام: 12.. إلى آخره..
ثوابت القرآن لا تتغيّر يجب أن يلتقي المسلمون عليها وهذه الثوابت يجب تثبيتها في قلوب الناس وفي المجتمع وتتحول إلى ثقافة إيمانية من خلال البرامج المعدّة خصيصاً لهذا الغرض.. يجب أن تتوجه الجهود إلى هدف اللقاء حول هذه الثوابت. وهذا يستدعي منا عدة أمور:
الأول: الابتعاد عن التفسيرات المذهبية الحادة للقرآن فإن هذا المنهج المذهبي ينحرف بالنص الجامع الموحّد ليصبح التفسير عامل فرقة وتمزيق للأمة بدل أن يكون التفسير عاملاً مساعداً للنص الثابت في وحدة الأمة وأنقل إليكم عيّنات قليلة ـ من كثير أمثالها ـ موجودة في كتب التفاسير..
نعم هناك من يفسر القرآن بما يخدم مصالحه فيقطع الآية الواحدة ويقف عند حدود معينة على حد قوله ـ ويل للمصلين ـ ويقف دون أن يكمل الآية هذا فضلاً عن فصل الآيات بعضها عن بعض وإن كانت في موضوع واحد وهدف واحد وقبل أن يتم الكلام الواحد.
إن غاية المفسر في بعض الأحيان أن يستخدم النص لصالحه العقدي وهذا يسيئ لكتاب الله ويخالف الحقيقة التي يجب أن يتبعها كمفسر لكلام الله.. ليس مهمة المفسر أن يحمل كلام الله على اعتقاده ويلوي النصوص أو ينحرف بها عن مقصدها إلى ما يذهب إليه بل العكس هو الصحيح على المفسّر أن يدرس النصوص بشكل موضوعي حيادي فما يتوصل إليه من نتائج يجب عليه أن يتبناها ويعتقد بها وقد وقعت معركة حامية بين المفسرين أدت إلى التشنيع من بعضهم على بعض بل قد أدت ببعضهم أن يوجب الحد على الآخر ويصفه باللصوصية وأنه من السراق وقطاع الطرق وأنا أنقل نموذجاً من ذلك وعيّنات من تلك الحروب القاسية..
ذكر الكشاف في تفسير قوله تعالى: «وما تشاءون إلا أن يشاء الله إلخ...» «وما تشاؤن» الطاعة «إلا أن يشاء الله» بقسرهم عليها وردّ صاحب الانصاف فيما تضمنه الكشاف من الاعتزال. الإمام ناصر الدين أحمد بن محمد بن منير الاسكندري المالكي ـ ما نصه «وهذا من تحريفاته للنصوص وتسوره على خزائن الكتاب العزيز كدأب الشطار واللصوص فلنقطع حجّته التي أعدّها وذلك حكم هذه السرقة وحدّها.
ويقول الزمخشري في قوله تعالى: >قتل الإنسان ما أكفره.. إلى قوله ثم شققنا الأرض شقاً» دعاء عليه وهو من أشنع دعائهم.. إلخ... ويرد عليه صاحب الانصاف المتقدّم بقوله: ما رأيت كاليوم قط عبداً ينازع ربه، الله تعالى يقول: ثم «شققنا» فيضيف فعله إلى ذاته حقيقة كما أضاف بقية أفعاله من عند قوله ـ من نطفة خلقه ـ وهلم جرا، والزمخشري يجعل الإضافة مجازية من باب إسناد الفعل إلى سببه فيجعل إضافة الفعل إلى الله تعالى من باب أضافة الشق إلى الحراث لأنه السبب قُتل القدري ما أكفره على قول وما أضله على آخر.
ويقول الرازي في تفسيره في قوله تعالى: «قائماً بالقسط»([1]) في ردّه على الزمخشري صاحب الكشاف ولقد خاض صاحب الكشاف ههنا في التعصب للاعتزال وزعم أن الآية دالة على أن الإسلام هو العدل والتوحيد وكان ذلك المسكين بعيداً عن معرفة هذه الأشياء إلا أنه فضولي كثير الخوض فيما لا يعرف وزعم أن الآية دلّت على أن من أجاز الرؤية أو ذهب إلى الجبر لم يكن على دين الله الذي هو الإسلام. إلى أن يقول عن صاحب الكشاف «فهذا المسكين الذي ما شمّ رائحة العلم من أين وجد ذلك، وأما حديث الجبر فالخوض فيه من ذلك المسكين خوض فيما لا يعنيه» إلى آخره.
ويقول الزمخشري في تفسير قوله تعالى «قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني»([2])
ما نصه: «وإذا رأيت من يذكر محبة الله ويصفق بيديه مع ذكره ويطرب وينعر ويصعق فلا شك في أنه لا يعرف ما الله، ولا يدري ما محبة الله وما تصفيقه وطربه ونعرته وصعقته إلا لأنه تصوّر في نفسه الخبيثة صورة مستملحة معشقة فسمّاها الله وربما رأيت المنى قد ملأ إزار ذلك المحب عند صعقته وحمقى العامة حواليه قد ملاؤا أردانهم بالدموع لما رقّقهم من حاله.
وكان رد الفخر الرازي في تفسيره على كلام الزمخشري ما نصه: >خاض صاحب الكشاف في هذا المقام في الطعن في أولياء الله تعالى وكتب ههنا ما لا يليق بالعاقل أن يكتب مثله في كتب الفحش فهب أنه اجترأ على الطعن في أولياء الله تعالى فكيف اجترأ على كَتْبه مثل ذلك الكلام الفاحش في تفسير كلام الله تعالى؟ نسأل الله العصمة والهداية.. انتهى..
ولو نظرت إلى الجبر والاختيار وهي مسألة شغلت فكر العلماء فقد اعتمدت نظرية الجبر على بعض الآيات كقوله تعالى {من يهدي الله فهو المهتدي ومن يضلل فلن تجد له ولياً مرشداً} [الكهف: 17] كما اعتمد من ذهب إلى التفويض وأن الله فوض إلى العبد جميع أعماله على مثل قوله تعالى: {فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر}([3]).
وهناك استخدام للقرآن لمصلحة الحكّام القائمين فيعطيهم من خلال بعض الآيات غطاءً شرعياً لتبرير أفعالهم ومواقفهم وما يذهبون إليه فقد استغل القرآن فيما يسمّى «محنة خلق القرآن» للتنكيل بالخصوم واعتمدوا على قوله تعالى: {ما يأتيهم من ذكر من ربهم محدث...} ونكّلوا بخصومهم ومنهم أئمة كبار كأبي حنيفة وأحمد بن حنبل ومالك بن أنس وغيرهم.
وحديثاً صدرت فتاوى السلام بين المسلمين والصهاينة الذين اغتصبوا فلسطين وشرّدوا أهلها وصدّروا تلك الفتاوى بقوله تعالى: {وإن جنحوا للسلم فاجنح لها وتوكل على الله إنه هو السميع العليم} [الأنفال: 1].
وبقوله: {يا أيها الذين آمنوا ادخلوا في السلم كافة ولا تتبعوا خطوات الشيطان إنه لكم عدو مبين} البقرة: 209] وقد كانت هذه الفتاوى استجابة لأمر الحكّام الذين يريدون تمرير صلحهم مع عدوٍّ احتلَّ الأرض واغتصبها وشرَّد أهلها غافلاً عن آيات الجهاد والدفاع عن المظلومين وردّ المعتدين وسيرة سيد المرسلين وما عليه المسلمون..
إن ما تقدم من الحديث عن اختلاف في التفسير لم يكن أبداً اجتهاداً معتمداً على أدلة ظاهرة قاطعة ولم يكن خاضعاً لحكم العقل الذي يحتّم على المفسِّر أن يكون ملّماً بجميع الآيات التي لها علاقة بالموضوع المطروح للبحث حتى لا يرى الأمور بعين واحدة ومن ناحية واحدة غافلاً أو متغافلاً عن الجهات الأخرى التي لها علاقة بالموضوع كما أننا قد وقفنا بشكل واضح كيف يُلوى النص القرآني ليخدم العقيدة التي يؤمن بها المفسر فيندفع للدفاع عنها بكل ما أُوتي من قوة ولو بالسباب والاتهامات بل بإخراج الآخر من الدين..
الثاني: التكامل في التفسير من خلال عرض الأقوال والآراء وعدم الاقتصار على المذهب الذي ينتمي إليه المفسّر فإن عرض الأقوال خصوصاً إذا كانت مدعومة بأدلتها فإن هذا يفتح العقول للمقارنة والموازنة وبالنهاية إلى اختيار أصوب الآراء وقد كان الطبرسي في مجمعه (مجمع البيان) قدوة صالحة في هذا المجال فقد عرض الآراء المختلفة مما استدعى من جماعة التقريب بين المذاهب الإسلامية إلى الوصية بطبعه والاستفادة منه.
الثالث: التركيز على الآيات الجامعة وخصوصاً على آيات الوحدة كما في قوله تعالى {واعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرقوا..} [آل عمران: 103] وقوله تعالى {إن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاعبدون...} [الأنبياء: 92] وفي آية أخرى {إن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاتقون...} [المؤمنون: 52] وقوله تعالى {إنما المؤمنون أخوة..} فإن هذه الآيات من عيون آيات الوحدة التي يجب أن ترفع في وجوه أصحاب التفرقة وأهل الشقاق والنفاق الذين يمزقون جسد الأمة ويفرّقون وحدتها ويشتّتون كلمتها ويبقى صوت الله يقرع آذان هؤلاء القوم محذراً ومنذراً قائلاً لهم {إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعاً لست منهم في شيء...} [آل عمران: 159] وقوله تعالى: {ولا تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا من بعدما جاءهم البيّنات ولهم عذاب عظيم} [آل عمران: 105].
بالإضافة إلى الآيات تدرس حياة رسول الله في كيفية توحيد المسلمين من خلال حديثه الشريف وما أكثر الروايات الواردة عنه في الحضّ على الوحدة وأن المؤمنين كالجسد الواحد وكيف استجاب المسلمون إلى هذا النداء فكان الواحد منهم يقدّم الآخر على نفسه ويفديه بالغالي والنفيس ويحافظ على الآخرين أكثر مما يحافظ على نفسه وأيضاً تدرس سيرة رسول الله العملية من خلال المؤاخاة بين المهاجرين والأنصار وما تركت هذه المؤاخاة من شعور بالوحدة حتى تقاسم المتآخيان ما عندهما من مال وعقار وغير ذلك من ممتلكات مما شكّل ذلك قوة مضاعفة وقفت في وجوه المشركين واليهود وكل الأعداء الذين يريدون النيل من الإسلام ونبيه ودينه.. نعم لو تتبعنا سيرة رسول الله العملية ـ فضلاً عن سيرته القولية ـ لجئنا بشواهد لا حصر لها ولا عدّ إذ في كل خطوة من خطوات رسول الله وكل حركة من حركاته قراءة واضحة في الوحدة الإسلامية.
يجب أن يكون التركيز على الثوابت الإسلامية الجامعة والموحدة ولا نترك هذه الثوابت تهتز أو تسقط أمام المتغيّرات العابرة سواء كانت تلك المتغيرات من الداخل أو وافدة علينا من الخارج وأخصّ بالذكر الحالات السياسية التي تنتهجها السلطات الحاكمة التي إن اختلفت فيما بينها صدّرت خلافها إلى شعوبها خلافاً عقدياً لما للعقيدة من تأثير فعال في حركة الفرد وحركة الجماعة ونحن نرى بأُمّ العين ما يجري في بلادنا الإسلامية حيث أثيرت النعرات المذهبية ـ لدوافع سياسية ومصالح خاصة للحكام ـ حتى أخذت هذه السياسات الرعناء بعض الناس إلى الذبح على الهوية والانتقام من الطرف الآخر لمجرد خلافه معه في بعض الاعتقادات الجانبية التي لا تخرجه من الدين ولا تلحقه بالكافرين..
الرابع: إن التفسير الموضوعي ـ تفسير القرآن بالقرآن ـ من أهم عوامل الوحدة لأن القرآن لا يناقض بعضه بعضاً ولا ينقض بعضه بعضاً بل الآيات تتكامل وتفسر بعضها البعض لتتكون الفكرة الصافية والمراد الواضح وهذا المنهج في التفسير يدفع الكثير من الخلافات خصوصاً إذا أخذ طابعه العلمي البحت بعيداً عن المذهبية والانتماء المذهبي للمفسر ولعل «الميزان في تفسير القرآن» للعلامة الطباطبائي أصدق مصداق لهذا المنهج وهذه الفكرة ويأتي بعده التفسير الكبير للفخر الرازي..
هذه لمحة سريعة ومختصرة لبحثنا سائلين الله تعالى أن يجعله خطوة في طريق الألف ميل للوصول إلى وحدة الأمة الإسلامية وما ذلك على الله بعزيز إنه سميع مجيب.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته
[1]- تفسير الرازي ج7، ص 206.
[2]- آل عمران، الآية 31.
[3]- الإسراء، الآية 84.