حقوق اهل الذمة في الاسلام
حقوق اهل الذمة في الاسلام
محمد عبدو
أستاذ بجامعة محمد الخامس بالرباط-المغرب
يسعى هذا البحث إلى بيان حقوق غير المسلمين في دار الإسلام بمختلف أصنافهم و دياناتهم، من أهل الكتاب و غيرهم، و ذلك من خلال الوقوف على هدي القرآن و السنة في ذلك.
فأقول متوكلا على الله و مصليا و مسلما على الرسول الأكرم و آله الأطهار.
لم يحظ الإنسان – أنى كان جنسه أو مكانه أو مكانته أو زمان عيشه – بمنزلة أرفع من تلك التي ينالها في ظلال الدين الإسلامي الحنيف، و ما ذلك إلا لأن الإسلام دين عالمي، و رسوله صلى الله عليه و آله و سلم أرسل للعالمين كافة، و لم يكن كإخوانه الأنبياء و الرسل عليهم السلام الذين أرسلوا لأقوامهم خاصة.
و حين يوازن أي باحث مبادئ حقـوق الإنسان التي حـواها الإعلان العالمي لحقوق الإنسان بـ( حقوق الإنسان في الإسلام ) ([1])، يلاحظ التميز الواضح الذي سبق به الإسلام ما تفتقت عنه أفكار البشر في مبادئ حقوقه، من حيث الشمول و السعة و العمق و مراعاة حاجات الإنسـان الحقيقية التي تجلب له المنافع و المصالح و تدرء عنه المضار و المفاسد، و يتضح من الدراسة المنصفة أنه " ليس هناك دين من الأديان أو شريعـة من الشرائـع على ظهر هـذه الأرض أفاضـت فـي تقرير هذه الحقوق، و تفصيلها و تبيينها و إظهارها في صورة صادقة مثلما فعل الإسلام "([2]).
و لم تقتصر الشريعة الإسلامية على إصباغ الحقوق على أهلها، بل إن مما يميز الشريعة عن غيرها أنها أشركت غير المسلمين في الكثير من الحقوق العامة، و هو ما لم ينله الإنسان في دين آخر و لا في نظم أخرى.
و الحقوق التي كفلها التشريع الإسلامي لأهل الذمة كثيرة، لكن سوف نقتصر في هذه العجالة على ما يتضح به المقصود إن شاء الله. فأقول مستعينا بالله، من أهم هذه الحقوق :
أولا : حفظ كرامتهم الإنسانية
كرم الله تعالى الإنسان بعامة سواء كان مسلما أو غير مسلم، و رفع منزلته على كثير من خلقه فقال تعالى : ( و لقد كرمنا بني آدم و حملناهم في البر و البحر و رزقناهم من الطيبات و فضلناهم على كثير ممن خلقنا تفضيلا ) ([3]).
و انطلاقا من هذه المكانة السامقة التي خص الله عز و جل بها البشر كان لا بد إذا من مراعاة الإنسانية للإنسان، كيفما كان دينه، و لا نعرف أن هناك دينا يوازي الإسلام في حفظ كرامة الإنسان حتى و إن كان من غير أهله، فهو يؤكد على أن أصل البشر واحد، و أنهم متساوون في الإنسانية و في الحقوق، و إلى هذا المعنى الإشارة بقوله جل جلاله : ( يـا أيها الناس إنا خلقنـاكم من ذكـر و أنثى و جعلناكم شعوبا و قبائل لتعارفوا إن أكرمكم عنـد الله أتقاكم إن اللـه عليـم خبير ) ([4]).
و من المحافظة على كرامة غير المسلمين؛ حقهم في مراعاة مشاعرهم عند مجادلتهم امتثالا لقول الحق سبحانه : ( و لا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن إلا الذين ظلموا منهم و قولوا آمنا بالذي أنزل إلينا و أنزل إليكم و إلهنا و إلهكم واحد و نحن له مسلمون([5])).
و آية أن الأمر كذلك ما روي عن النبي صلى الله عليه و آله و سلم أنه قال : ( إذا حدثكم أهل الكتاب فلا تصدقوهم و لا تكذبوهـم، و قولوا : آمنـا بالله و كتبه و رسله، فإن كان حقا، لم تكذبوهم و إن كان باطلا لم تصدقوهم ) ([6]).
و قد بلغ تكريم الحق سبحانه للإنسان أنه حرم على المسلمين أن ينالوا من الآلهة التي يعبدها المشركون بالسب حتى لا يفضي ذلك بهم إلى سب الله تعالى. و إلى هذا المعنى الإشارة بقوله عز و جل : ( و لا تسبوا الذين يدعون من دون الله فيسبوا الله عدوا بغير علم كذلك زينا لكل أمة عملهم ثم إلى ربهم مرجعهم فينبئهم بما كانوا يعملون ) ([7]).
و من ها هنا جاء العلامة القرطبي و قال في كتاب " الجامع " تصنيفه ما نصه :" لا يحل لمسلم أن يسب صلبانهم، و لا دينهم، و لا كنائسهـم، و لا يتعـرض إلى ما يؤدي إلى ذلك؛ لأنه بمنزلة البعث على المعصية "([8]).
ثانيا : حقهم في التزام شرعهم
أن من تسامح الإسلام مع مخالفيه من أهل الذمة أنه لم يفرض عليهم الالتزام بأحكامه الشرعية، فأعفاههم من دفع الزكاة التي هي ركن من أركان الإسلام، يكفر المسلم إن لم يقم به جاحدا لوجوبه و يقاتل عليه، و لم يفرض عليهم الجهاد مع المسلمين، مع أن منفعته تعود على أمن المسلمين و غيرهم من سكان دولة الإسلام.
ثالثا : حقهم في العدل
و الإسلام دين العدل و قد جعل الله الموازين الدقيقة ليقوم الناس بالقسط قال جل جلاله : ( لقد أرسلنا رسلنا بالبينات و أنزلنا معهم الكتاب و الميزان ليقوم الناس بالقسط و أنزلنا الحديد فيه بأس شديد و منافع للناس و ليعلم الله من ينصره و رسله بالغيب إن الله قوي عزيز ) ([9]).
و من تمام العناية بغير المسلمين أن الإسلام أكد على المساواة بين أهل الذمة و بين المسلمين في حق الحصول على العدل إذا تحاكموا إلى شريعة الإسلام، و إلى هذا المعنى الإشارة بقوله تعالى : ( فإن جاؤوك فاحكم بينهم أو اعرض عنهم و إن تعرض عنهم فلن يضروك شيئا و إن حكمت فاحكم بينهم بالقسط إن الله يحب المقسطين ) ([10]).
فإن سرق مسلم مال ذمي قطعت يد السـارق، مثله مثل الذمي لو سرق مـال مسلم، و كذا يقام على المسلم حد القذف لو قذف رجلا أو امرأة من أهل الذمة بغير حق، قال رسول الله صلى الله عليه و آله و سلم : " من قذف ذميا حد له يوم القيامة بسياط من نار ".
رابعا : حقهم في حفظ دمائهم و أموالهم و أعراضهم
الإسلام يحفظ للإنسان المقاصد الضرورية التي لا تقوم حياته إلا بها، و هي : حفظ الدين، و حفظ النفس، و حفظ العقل، و حفظ النسل، و حفظ المال([11])، و يستوي في هذه المقاصد الكلية المسلم و غير المسلم، فهي حقوق و حرمات معصومة، لا تنتهك إلا بسبب شرعي، كالمسلمين سواء بسواء، فلا يجوز إزهاق أرواحهم إلا قصاصا أو حدا على عقوبة؛ و إلى هذا المعنى يشير قوله جل جلاله : ( قل تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم ألا تشركوا به شيئا و بالوالدين إحسانـا و لا تقتلوا أولادكم من إملاق نحن نرزقكم و إياهم و لا تقربوا الفواحش ما ظهر منها و ما بطن و لا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق ذلكم وصاكم به لعلكم تعقلون ) ([12]).
و قال صلى الله عليه و آله و سلم : " من قتل نفس معاهد لم يرح رائحة الجنة، و إن ريحها ليوجد من مسيرة أربعين عاما "([13]).
و كذلك لأهل الذمة حق حفظ أموالهم فتقطع يد سارقها، و يعزر مغتصبها، و من استدان منهم شيئا وجب عليه رده، و يؤكد هذا المعنى و يقرره قول الصادق المصدوق صلى الله عليه و آله وسلم : " ألا لا تحل أموال المعاهدين إلا بحقها "([14]).
خامسا : حقهم من الحماية من العدوان الخارجي
يوجب الإسلام على المسلمين أن يؤمنوا لمن قبـل بعقد الذمـة ضوابط الحماية لنفسه و عرضه ... و ذلك ضد أي نوع من أنواع العدوان الخارجي.
و من أوضح ما يستدل بـه على ذلك قول الفقيه بن حزم : " إن من كان في الذمة و جـاء أهـل الحـرب إلى بلادنـا يقصـدونه، وجـب علينـا أن نخـرج لقتالهم بالكراع و السلاح، و نموت دون ذلك، صونا لمن هو في ذمة الله تعالى، و ذمة رسوله صلى الله عليه وسلم، فإن تسليمه دون ذلك إهمال لعقد الذمة "([15]).
و إذا كانت حماية أهل الذمة من المعتدين الخارجين لازمة، فحمايته من الاعتداء الداخلي ألزم، و قد جاء الماوردي بهذا المعنى مصرحا به في كتابه الأحكام السلطانية حيث قال ما نصه : " و يلتزم لهم ببدل الجزية حقان : أحدهما الكف عنهم. و الثاني : الحماية لهم ليكونوا بالكف آمنين، و بالحماية محروسين "([16]).
سادسا : حقهم في المعاملة الحسنة
هناك قاعدة عظيمة في كتاب الله عز وجل هي المرجع في التعامل مع غير المسلمين، و قد بينت هذه القاعدة أن الأصل في معاملة أهل الذمة أن تكون حسنة، ما لم يظهر منهم ما يمنع من ذلك. و قد عبر التنزيل عن هذا المعنى، حيث قال تعالى : ( لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين و لم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم و تقسطوا إليهم إن الله يحب المقسطين. إنما ينهاكم الله عن الذين قاتلوكم في الدين و أخرجوكم من دياركم أن تولوهم و من يتولهم فأولئك هم الظالمون ) ([17]).
و قد جاء العلامة القرطبي في تفسير كلمة البـر في هـذه الآية بكـلام في غاية الحسن و السداد حيث قال ما لفظه : " الرفق بضعيفهـم، وسد خلة فقيرهم، و إطعام جائعهـم و كساء عاريهم، و لين القول لهم، على سبيل التلطف لهـم و الرحمـة، لا على سبيل الخوف و الذلة، و احتمال أذيتهـم في الحـوار مع القدرة على إزالته، لطفـا منا بهم لا خوفا و لا طمعا "([18]).
و أكتفي بهذا القدر في بيان الحقوق التي كفلها الإسلام لأهل الذمة، و هو كاف بحسب غرضنا. و الله تعـالى ولي التوفيق بلطفـه ومنـه و الحمد لله رب العالمين و الصلاة و السلام على سيد المرسلين و على آله المعصومين الطاهرين.
([1]) حقوق الإنسان بين تعاليم الإسلام و إعلان الأمم المتحدة لمحمد الغزالي، و حقوق الإنسان بين الشريعة الإسلامية و الفكر القانوني الغربي للدكتور محمد فتحي عثمان.
([2]) الحريات و الحقوق في الإسلام لمحمد رجاء حنفي عبد المتجلي : ص 22-23.
([3]) سورة الإسراء : الآية 70.
([4]) سورة الحجرات : الآية 13.
([5]) سورة العنكبوت : الآية 46.
([6]) مسند الإمام أحمد : مسند الشاميين، أول حديث أبي نملة الأنصاري رضي الله عنه، ح 16592.
([7]) سورة الأنعام : الآية 108.
([8]) الجامع لأحكام القرآن : 7/61.
([9]) سورة الحديد : الآية 25.
([10]) سورة المائدة: الآية 42.
([11]) المعجم الكبير للطبراني : حديث 16886.
([12]) المستصفى للغزالي : 1/286.
([13]) صحيح البخاري، كتاب الجزية و الموادعة، ب 5 حديث 3166 ( فتح الباري الطبعة الثانية دار الكتب العلمية بيروت 1997.
([14]) مسند الإمام أحمد حديث 16213، مؤسسة قرطبة، مصر.
([15]) الفروق للقرافي: ج 3/14، الفرق 119: مؤسسة قرطبة، مصر.
([16]) الأحكام السلطانية: 142، تحقيق خالد عبداللطيف السبع العلمي، الطبعة الأولى دار الكتاب العربي 1990.
([17]) سورة الممتحنة: الآيتان 8-9.
([18]) الفروق للقرافي : ج3/15.