المسلمون في الاقطار غير الاسلامية
المسلمون في الاقطار غير الاسلامية
المبحث: زاد المسلم المهاجر من فقه الدنيا والدين
تاج الدين الهلالي
المفتي العام لاستراليا
بسم الله الرحمن الرحيم
مقدمة
الحمد لله ذي العظمة والجلال، ارتضى الاسلام دينا صالحاً لجميع العهود والاجيال وميزة بشريعة متصفة بالشمول والكمال، وشرف الأمة المحمدية بالوسطية واليسر والاعتدال.
وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله محمد الذي رفع الله به عن الامة الاصر والاغلال. وعلى آله الطيبين الاطهار. وصحبه الميامين الابرار. وسلم تسليما كثيرا.
ثم أما بعد..
فإن النزوح من البيئات الاسلامية التي يسمع فيها نداء التوحيد للصلاة كل يوم خمس مرات. إلى مجتمعات تدين بالحرية المطلقة بلا ضوابط دينية. ولا روابط اجتماعية، ولا اعتبارات اخلاقية. تكفل للاغلبية حق الحصول على ما يحلو لها من متع شخصية، وشهوات إباحية حتى لو كانت مروقا على الطبيعة البشرية، وتمردا على الفطرة الانسانية يعتبر مغامرة صعبة محفوفة بالمخاطر. ذلك ان المسلم المهاجر يصارع امواجا عاتية في محيط لجي هائج ثائر. لا ينجو من أهواله إلا من استقل سفينة، بناؤها الايمان، وشراعها اليقين، وزادها التوكل، والتفقه في الدين. ولعله ينجو. وإن نجا فإن ضياع الأبناء وفقدانهم واقع لا محالة إلا من رحم ربك.
مما يوجب على كافة المؤسسات والهيئات الاسلامية في البلاد العربية. أن توجه عناية ورعاية خاصة بالاقليات الإسلامية المهددة في عقيدتها. وذوبان فلذات أكبادها. هذه الاقليات التي أضحت شريحة هامة لها حضورها في المجتمعات الغربية. ومن أهم هذه المتطلبات أو المقترحات المفروضة على هذه الهيئات الاسلاميةجميعها ما يلي:
1 ـ الاهتمام بالعمل الدعوي بإعداد الداعية الذي يتقن لغة اهل البلاد وعلى بصيرة بشئونها وشجونها. ومن أهم العوامل التي تحقق هذا الهدف. إنشاء المعاهد الشرعية التي تؤهل وتخرج دعاة من أبناء المسلمين المهاجرين. يحملون لواءالدعوة ويعملون على استمراريتها.
2 ـ أن يكون الداعية على قدر من فهم أولويات الفقة المهجري متسلحاً بالزاد العلمي المناسب لبيئة المهجر وعواملها المستجدة.
3 ـ أن يكون الداعية ذا اطلاع على آراء الفقهاء وتعدد اقوالهم في المسائل الفرعية. ليختار منها الأنسب والأيسر دون تحجر أو تعصب لرأي فريق أو مذهب معين.
4 ـ أن نجنب الأقليات الاسلامية مرض الصراعات المذهبية، وأن لا نلوث أو نشوش أفكارهم بالخلافات الكلامية وأن لا نصدر الى الساحات المهجرية معارك وصراعات جدلية وهمية غير عملية.
ومن ذلك الحرب العالمية (بين السلفية والصوفية) أو معركة النقاب أو إرسال آلاف النسخ من الكتب المشبوهة المسيسة لتأجيج نيران العداوة والبغضاء بين السنة والشيعة لأن ما تحمله هذه الكتب من سموم ومطاعن يشوه صورة المسلمين جميعا فضلا عن أنها مادة دسمة يستعين بها أعداء الإسلام للطعن في القرآن. وللنيل من تاريخ الاسلام.
فلكل مقام مقال. ولكل زمان حال. وتشخيص المرض نصف العلاج.
فما أفتى به الفقهاء من فتاوى اجتهادية في بعض المسائل الفرعية قد يكون صالحا لبيئة دون بيئة. ومكان دون مكان. فهذا امامنا الشافعي.
وقد وضع مذهبه القديم بالعراق. في ظروف واحوال خاصة. فلما جاء الى مصر وواجه ظروفا واحوالاً أخرى وضع مذهبه الجديد. باجتهادات جديدة. وكلاهما صواب. كلاهما مستمد من الكتاب والسنة.
فاذا تباينت وتعددت اقوال الائمة والعلماء الثقات في المسألة الواحدة ولكل حجته ودليله. فإن المسلم مختار شرعاً فيما ورد فيه القولان والدليلان أن يختار لنفسه احد القولين دون تسفيه أو إلغاء للرأي الآخر. فإذا ما قال علماؤنا المعاصرون أن فقه الأقليات يقوم على الرخص وإن شئت فقل على اعطاء جرعة زائدة في التيسير مراعاة للأوضاع التي تقتضي ذلك. فلا يجوز لنا أن نقع في عقائد ورثة الانبياء ونأكل لحومهم ونسفه آراءهم؛ لأن هؤلاء العلماء لم يأتوا بهذه الفتاوى من عندياتهم أو أهوائهم وانما باعتمادهم على قواعد اصولية، واستنباطا من احكام شرعية ومن ذلك قول الاصوليين:
ـ الامر اذا ضاق اتسع.
ـ الحاجة تــُنزل منزلة الضرورة.
ـ الضرورات تبيح المحظورات.
ـ ولكن هذه القواعد تضبطها أو تصادمها أخرى مثل:
ـ الضرورات تقدر بقدرها.
ـ درء المفاسد مقدم على جلب المصالح.
ـ لا مصلحة مع تصادم النص المحكم.
وغير ذلك من القواعد التي تفتح أمام العلماء أبواباً واسعة ومساحة شاسعة للأخذ بالرخص والتيسير. ومن ذلك قول فقهاء الحنفية إن المكان يؤثر في فقه المعاملات. فأجازوا للمسلم المقيم في مجتمعات غير إسلامية أن يتعامل بالعقود الفاسدة من الناحية الشرعية في المعاملات البنكية، وشراء المنازل للسكن، والتأمين. ولايجوز ان نتهم الأقوال المعتمدة على التيسير أو الرخص أنها وسيلة المفرطين. ومنهج المتساهلين المقصرين. ذلك أن التيسير لا يعني رفع التكليف، وأن الرخص لا تعني إلغاء العزائم. والرخصة وإن كانت رحمة من الله تعالى. إلا أن العلماء قد وضعوا لها موازين وضوابط شرعية. فالرخصة لا تتعدى صاحبها ولا تتجاوز مكانها. ([1])
كما ينبغي علينا أن نعلم أن الله تعالى الذي قال: (يا ايها الذين ءامنوا اتقوا الله حق تقاته)([2]) هو الذي قال: (يريد الله بكم اليسر ولايريد بكم العسر) ([3]) وقال: (وما جعل عليكم في الدين من حرج).([4])
وبعد أخي الكريم..
مشاركة متواضعة بجهد المقلّ، قمت بإعداد هذا الدليل الفقهي ليعين المسلم المهاجر على تطبيق احكام دينه في معترك حياته المتشابكة من واقع مشاهدتي، ومعايشتي، ومواكبتي للحياة المهجرية لما يزيد على الثلاثين عاماً. منها عشرون عاماً في القارة الاسترالية. حتى إعداد هذا الدليل الذي أسميته (زاد المسلم المهاجر من فقه الدنيا والدين) مراعيا هذه القواعد الاصولية. ومتوخيا مبدأ التيسير المناسب لمتطبات الحياة المهجرية كما قرره الثقات من علمائنا الحكماء ذوى الفكر الراجح والفهم الثاقب للنصوص الشرعية. ولقد حرصت على اختيار السهل من الكلمات والواضح من العبارات حتى تكون النسخة الانجليزية مطابقة للنسخة العربية قدر المستطاع.
والله من وراء القصد وهو يهدي السبيل وآخر دعوانا الحمد لله رب العالمين سيدني – استراليا
مفتي استراليا
تاج الدين الهلالي
المناخ الدعوي في استراليا
يتبنى القانون الاسترالي مبدأ التعدد الحضاري الثقافي الذي يكفل لكل فرد من أفراد المجتمع حريةالمعتقد والتعبير في مناخ ديمقراطي حر قد لا يوجد له مثيل في كثير من دول العالم أجمع.
كما أن الحكومة الاسترالية تشجع الجاليات الاثنية على المحافظة على لغتها وعقيدتها وعاداتها. وتعتبر هذا إثراء للمجتمع الاسترالي المتعدد الحضارات. وتخصص المنح والمعونات لهذا الغرض.
ويخول قانون التعليم الاسترالي للمسلمين وغيرهم تدريس مادة الدين بواقع ساعة كل اسبوع في المدارس الرسمية.
والحكومة الاسترالية تدعم المدارس الاسلامية ذات الدوام الكامل وتمنحها إعانات سنوية تعينها على أداء مهمتها ورسالتها.
واللغة العربية تعتبر لغة ثانية بعد الإنجليزية لمن يرغب في دراستها في المرحلة الثانوية وتضاف (علاماتها) درجاتها الى المجموع الكلي للثانوية العامة المؤهلة للدراسات الجامعية.
وعموماً فإن الشعب الاسترالي شعب طيب بفطرته مسالم بطبيعته ولكن الإعلام الصهيوني المشوّه الحاقد يزيف له الحقائق ويحاول أن يوغر صدر المواطنين ويخوفهم من الإسلام والمسلمين. مستغلا ما يحدث في البلاد العربية الإسلامية من سلبيات وتجاوزات فيقدمها إلى الشعب الأسترالي على أن هذا هو الإسلام، وهؤلاء هم المسلمون.
ولو وضعت خطة علمية وعملية وعملية مدروسة وهادفة لعرض الإسلام بسماحته وعالميته ومافيه من قيم و مبادىء فيها الدواء الناجع والحل الأمثل لكثير من العلل التي تعاني منها المجتمعات البشرية لاستطاع الاسلام أن يعرف طريقه الى غوائل النفوس ولحقّقت الدعوة من النجاح والتوفيق ما لا يمكن أن تحققه في أي مجتمع غربي آخر.
شرعية الهجرة واللجوء الى البلاد الغربية
القرآن يدعو الى الهجرة الواعية:
يتحدث القرآن الكريم عن الهجرة ويعتبرها حلا ووسيلة لمواجهة ظروف القمع والارهاب والظلم والبطش الذي يتعرض له المسلمون على أيدي الانظمة الجائرة لبلادهم.
هجرة بالدين وليست هجرة من الدين. هجرة دعوية إلى الله ورسوله يعتبر المسلم نفسه سفيرا لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وممثلا لإسلامه لا من اجل هدف دنيوي زائل لدنيا يصيبها أو امرأة ينكحها.
فلابد من تصحيح النية وتهديف الغاية، لتبقى الهدفية من الهجرة أساسا يبرر شرعيتها.
1 ـ يقول الله تعالى: (ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هَاجَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا فُتِنُوا ثُمَّ جَاهَدُوا وَصَبَرُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ) ([5])
هذه الآية تربط بين الهجرة وأسبابها ونتائجها، فالهجرة نتيجة للفتنة. والجهاد يرافق الهجرة: وقد يكون بالجهاد الاكبر. بالجهاد الدعوى القرآني (وجاهدهم به جهادا كبيرا) ([6])
أي بالقرآن. فهي هجرة تغيير لمواقع العمل، وليست هجرة للراحة أو الاستجمام أو الاسترخاء أو الكسل. هجرة بناء متواصل للنفس وهجرة نهوض بتبعات الدعوة الملقاة على كل مسلم تبليغا للأمانة التي كلف بها من رحمة الله للعالمين صلى الله عليه وسلم (قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ) ([7]).
2 ـ ويقول الله تعالى: (وَمَنْ يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الْأَرْضِ مُرَاغَماً كَثِيراً وَسَعَةً وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِراً إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً) ([8]).
فالله سبحانه يعد المهاجرين بهذه النية بظروف أفضل من بيئتهم وسعة وحرية في العمل والدعوة إلى الله. فيذلل الله له العقوبات والموانع ويهيىء له أسباب العمل والحركة والعزة.
والهجرة طريق الانبياء حين ضاقت الارض بهم في بقعة معينة. فتركوها وهاجروا الى مكان آخر. للقيام بمهمتهم. فيعوضهم الله خيرا ويكتب لدعوتهم النجاح والاستمرار. هجرة إبراهيم، وهجرة موسى، وعيسى، ومحمد صلوات الله عليهم اجمعين.
3 ـ يقول الله تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيراً، إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ لا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلا يَهْتَدُونَ سَبِيلاً، فَأُولَئِكَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكَانَ اللَّهُ عَفُوّاً غَفُوراً) (النساء:97- 99).
وإذا كانت الآية تصور هذا الحوار بين الملائكة، والمسلمين المستضعفين في بلاد الشرك. فحال المشركون بينهم وبين إقامة شعائرهم وتطبيق أحكام دينهم. فلا يمنع ذلك من بقاء الدوافع والأسباب التي يتعرض لها المسلم المعاصر التي تقيد حريته، ويطرد من وظيفته، ويمنع من تبليغ دعوته، ويحارب في معيشته. فالأصل تقييد حرية المسلم في ممارسة عقيدته فكراً وسلوكاً. وعبادات ومعاملات.
فلو كانت تعاليم الاسلام محددة بأداء العبادات فقط. فلما كان هناك من داع او مبرر للهجرة من مكة الى المدينة. والآية المذكورة لا تقيد ممارسة الاستضعاف وصدوره عن (المشركين أو الكافرين) بل إن جانب المستضعف (بفتح العين) يقول لسان حالهم (كنا مستضعفين في الارض) ولم يذكر طبيعة وماهية وهوية السلطة الغاشمة التي تستضعفهم (مسلمة أو كافرة) والعبرة كما يقول الفقهاء. بعموم اللفظ لا بخصوص السبب. وهذا ما يراه بعض الفقهاء المعاصرين حيث يقول السيد محمد حسين فضل الله (إن الاسلام لا يمنع من حيث المبدأ من أن يسافر إلى أي بلد في العالم. بل ربما يوجب عليه في بعض الحالات الخروج من بلده إذا كان بقاؤه فيه يجعله خاضعا للمستكبرين المسيطرين على الناس في هذا البلد، بحيث قد يؤدي به ذلك الى الانحراف الفكري والعملي ليكون بوقا لهم وأداة من أدواتهم التي يركزون فيها سلطتهم ويظلمون من خلالها الناس فلا يجيز له البقاء في هذا البلد وهذا ما توحي به الآيتان المذكورتان) (97، 98 النساء).
اذاً فما يتعرض له المسلمون من ضغوط وذل وقهر وقمع حريتهم في بلدانهم يجعل حالة الهجرة ومغادرة تلك البلدان الى بلدان اكثر امنا، وتمنح حريات العقيدة وحق التعبير الفكري والسياسي، وتحترم عرضهم وكرامتهم وأموالهم، سواء كانت مسلمة أم كتابية أو كافرة، طالما إنها ملتزمة باحترام مبادئها وقوانينها. وإن الهجرة من هذا البلد الإسلامي شعبا، الكافر حكومة قد تصبح واجبة في بعض الاحيان يقول السيد فضل الله: (إن البقاء في بلد الكفر الضاغط على العقول والنفوس أمر محرم إلا لمن لا يستطيع حيلة، ولا يهتدي سبيلا، بحيث لايملك الخروج من بلده الى أي مكان أخر. وفي ضوء ذلك فان الهجرة من المسائل التي لايقف الاسلام منها موقفا سلبيا. بل ربما يقف موقفاً إيجابياً، وهذا قوله سبحانه وتعالى: (وَمَنْ يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الْأَرْضِ مُرَاغَماً كَثِيراً وَسَعَةً )
ويعطي المهاجر في سبيل الله الفار بدينه المنفتح على مواقع القوة في الارض الأخرى ويمنحه أجراً كبيراً ويعطيه ثوابا عظيماً فيما إذا قدرت له الوفاة وهو في هجرته (وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِراً إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ)
حديث «أنا بريء من كل مسلم يقيم بين أظهر المشركين» وبيان معناه
ولم تسلم الهجرة من الخلاف الفقهي بين علماء ينهون عنها ويحرمونها، وآخرين يبيحونها ويعللونها.
ومما استدل به المانعون: حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم القائل: «أنا بريء من كل مسلم يقيم بين أظهر المشركين لا تتراءى نارهم»([9]) إن ظاهر هذا الحديث يوحي بحرمة إقامة المسلم في بلاد غير إسلامية بصفة عامة مع تعدد الحاجة الى ذلك في عصرنا: من دوافع سياسية وأمنية، والدراسات العلمية التخصصية في الجامعات، والعلاج، والعمل والتجارة.. الخ وخصوصا بعد ان تقارب العالم حتى غدا كأنه (قرية كبيرة).
وفهم الحديث: يستوجب معرفة أسبابه وملابساته ومقصده، وبصرف النظر عن سند الحديث. وانه لم يخرجه الشيخان. وعلى فرضية صحته فإن لفظ الحديث: بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم سرية إلى خثعم، فاعتصم به ناس منهم بالسجود فاسرع فيهم القتل فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فأمر لهم بنصف العقل (أي الدية) وقال: «أنا بريء من كل مسلم يقيم بين أظهر المشركين، قالوا: يا رسول الله لم؟ قال: لا تتراءى نارهما» فجعل لهم نصف الدية وهم مسلمون، لأنهم أعانوا على أنفسهم، وأسقطوا نصف حقهم بإقامتهم بين المشركين المحاربين لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم، وشدد في مثل هذه الإقامة التي يترتب عليها مثل ذلك من القعود عن نصر الله ورسوله، والله تعالى يقول في امثال هؤلاء: (وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهَاجِرُوا مَا لَكُمْ مِنْ وَلَايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُوا وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ إِلَّا عَلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ) ([10])
فنفى تعالى ولاية المسلمين غير المهاجرين اذا كانت الهجرة واجبة فمعنى قوله عليه الصلاة والسلام: «أنا بريء من كل مسلم يقيم بين أظهر المشركين» أي بريء من دمه إذا قتل، لأنه عرض نفسه لذلك بإقامته بين هؤلاء المحاربين لدولة الاسلام.
ومعنى هذا: إنه إذا تغيرت الظروف التي قيل فيها النص، وانتفت العلة الملحوظة من ورائه من مصلحة تجلب، أو مفسدة تدفع فالمفهوم أن ينتفي الحكم الذي ثبت من قبل هذا النص، فالحكم يدور مع علته وجودا أو عدما.
الوصف الشرعي للدول الغربية
ـ قسم الفقهاء البلاد إلى قسمين:
1 ـ دار إسلام. 2 ـ دار حرب.
ومن خلاصة أقوال الفقهاء يمكن أن نلخص الشروط التي لو توفرت في البلد أصبحت دار إسلام وهي:
1 ـ أن تكون أكثرية الشعب من المسلمين.
2 ـ أن يمارس الشعب الشعائر الاسلامية.
3 ـ أن تكون قوانين الدولة اسلامية. وإذا انعدمت هذه الشروط فإنها لا تكون (دار اسلام) ورغم أن هذا التقسيم لم يرد في القرآن الكريم ولا في السنة النبوية بل هو مجرد تقسيم وصفي افترضه فقهاء العصر العباسي لتميز الدولة الاسلامية عن غيرها ويعتبره الفقهاء المعاصرون صحيحا، الا ان هذه التعاريف والمصطلحات مازالت تثير الاشكالات والتساؤلات حول مصداقيتها وتطبيقاتها في العصر الحالي.
ومن هذه الأسئلة:
ـ أي الدول الإسلامية تعتبر دار إسلام وفق التعريف الفقهي؟ يتساءل الشيخ فيصل المولوي: ما هو المعيار لسلطان الإسلام وتنفيذ احكامه و إقامة شعائره؟
ـ هل هو اقامة احكام الاسلام بشكل كامل؟ هذا معناه إن اكثر بلاد المسلمين لم تعد اليوم دار إسلام.
ـ هل يكفي أن تطبق احكام الأحوال الشخصية الإسلامية دون سائر القوانين؟
هذا معناه أيضا أن تخرج بلاد إسلامية عريقة من دار الإسلام كتركيا، وتونس. (يطبق في تركيا القانون السويسري الخاص بالأحوال الشخصية). هل يكفي أن يقيم المسلمون شعائر الإسلام بحرية كالصلاة والصوم والحج و الزكاة لتعتبر دار إسلام بناء على استمرار الماضي، هذا معناه أن أكثر بلاد المسلمين تعتبر اليوم دار إسلام، ولكن ما الحكم في كثير من البلاد غير الاسلامية التي يأمن فيها المسلمون و يقيمون شعائرهم بحرية اكثر من بعض بلاد المسلمين؟ بالطبع لايمكن اعتبارها دار إسلام. والإنصاف ألا نعتبرها ايضا دار حرب خصوصا اذا كان بينها وبين المسلمين معاهدات ومعاملات والتزامات دولية وقوانين عالمية. تعتبر بمثابة العهود والمواثيق والشروط المتفق عليها ـ والمؤمنون عند شروطهم إلا شرطاً أحلَّ حراماً أو حَرَّم حلالاً ـ ومثل هذه الدول تحدد التعامل معها آية من كتاب الله تعالى و هي (لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ) (الممتحنة:8).
والآية التي تليها تبين الموقف الشرعي من (دار الحرب): (إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ) (الممتحنة:9).
إذاً دار الحرب هي الدار التي أعلن كفارها الحرب على المسلمين وظاهروا على إخراج المسلمين من ديارهم. فاغتصبوا البلاد وقتلوا العباد.
وخلاصة الاقوال في هذه المسألة أن الدور ثلاث:
1 ـ دار إسلام 2 ـ دار حرب 3 ـ دار عهد.
من أي الأقسام تَعُد استراليا؟
إن استراليا تعرف بدار العهد والدعوة. فهي دار عهد؛ لأن المسلم قد دخلها بموجب وثيقة سفر وحصل على تأشيرة الدخول والإقامة بعد أن ملأ طلباً تحددت فيه الحقوق والواجبات. ثم إنه مختاراً حصل على جنسية البلاد فدخل بهذه الاتفاقيات في دائرة العهود والمواثيق التي أمر الله تعالى بوفائها والمحافظة على شروطها (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعَامِ إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ) (المائدة:1) (وَلا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْؤُولاً) (الاسراء:34).
وعلى هذا فإن المسلم مطالب باحترام الدولة، والالتزام بقوانينها العامة، والمحافظة على النفس، والمال، والعرض، وأن يكون صادقاً في أقواله، مخلصاً في أعماله، أمينا في تعامله، متصفاً بكل خلق كريم وسلوك حسن، يعطي القدوة والمثل الاعلى، فيكون بمثابة النافذة التي يطل الناس من خلالها على واحة الإسلام الحنيف. ويكون خير داعية بهذا السلوك فلسان الحال أنفع من ألف مقال. (وهي دار الدعوة) لأن هذه الأرض الطيبة: نعيش على ترابها ونأكل من خيراتها. و نشرب ماءها. ونستنشق هواءها. وبحصولي على جنسيتها تمتعت بكافة حقوق المواطنة، ونعمت بكافة الخدمات الاجتماعية، والصحية، والتعليمية والسياسية.
وقد علَّمنا إسلامنا أن نكافىء المعروف بالمعروف. وإذا حيِّينا بتحية أن نحي بأحسن منها. وهل جزاء الإحسان إلا الإحسان. لذلك فإن الوفاء والعرفان يفرض على كل مسلم إتخذ من استراليا وطنا أن يَردَّ الجميل لأهلها. محبّاً مشفقا متودّدا متلطفاً يدلهم على المنهج الأقوم والطريق الأسلم الذي يحقق للإنسان ثواب الدنيا والآخرة، المنهج الذي يحقق للفرد سعادة القلب والوجدان، ويحمي الأسر من التفسخ والانحلال، ويضع حداً لجرائم السرقات والقتل والمخدرات التي تهدد امن البلاد وسلامة العباد. بأن نقدم لشعبنا الأسترالي الكريم الإسلام بالدعوة السلوكية المنظورة حتى يقول الناس: لا إله إلا الله محمد رسول الله. ومن يشرح الله صدره للإسلام فقد اهتدى. ومن اهتدى فقد فاز فوزاً عظيماً.
التجنس بجنسية غربية
إن الحصول على جنسية البلد التي يقيم فيها المسلم فائدة كبيرة ومكسب هام ووسيلة ضرورية تعينه على الاستقرار ليسهل عليه مسئولية الدعوة. وأن يتمكن من القيام بواجباته نحو ربه ونحو نفسه، وأسرته، ومجتمعه، وأمته. علماً أن القانون الأسترالي يوفر لك كامل الحرية في أن يكون زواجك وطلاقك وميراثك ومعاملاتك على الطريقة الشرعية الاسلامية وذلك بتسجيل ذلك في المسجد أو لدى احد المحامين الرسميين.
حكم الانتساب للأحزاب السياسية
ولما كانت الأنظمة السياسية للبلاد الغربية تعتمد الديمقراطية، والانتخابات الحرة، وتحترم إرادة شعوبها في اختيار حكوماتها والمشاركة في صنع القرار. لذلك فان الاحزاب السياسية تعتبر أقوى في التأثير على القرارات، والمواقف السياسية، والشؤون الداخلية الخارجية. فالمسلم الذي استوطن دولةً غربية وتجنس بجنسيتها لا يجوز له أن يعيش هملا مهمشا بعيدا عن مركز القرار لاسيما وإن للاقليات الاسلامية مصالحها ومتطلباتها ومشاريعها.
وانتساب المسلم الى هذه الاحزاب، ووصوله الى المجالس البلدية والبرلمانات. أمر مهم لتحقيق هذه المصالح، اضافة الى المساهمة والمشاركة في التأثير على القرارات والقوانين.
واذا سوِّغ لبعض القيادات والجماعات الإسلامية أن تجيز للمسلمين الدخول في المعترك السياسي والانتساب للأحزاب السياسية في البلاد العربية والإسلامية المعروفة بعلمانيتها وتبعيتها. فإن المسوغ المجوّز في البلاد الغربية أشد وأقوى للحاجة الماسة إلى ذلك.
وإذا كانت قضية التجنيس قد أثارت جدل الفقهاء من حيث ارتباطها بموضوع الركون للكفار والولاء لهم، فان مسألة الانتماء للأحزاب السياسية الغربية (الكافرة) تثير الكثير من الجدل والنقاش، وتتأثر نظرة الفقهاء للقضية حسب فهمهم للواقع الحاضر والظروف التي يعيشها المسلمون في الغرب، ومدى وضوح الصورة لديهم حول طبيعة الاحزاب الغربية وأهدافها ووظيفتها. ومع ذلك فإن بعض الفقهاء المعاصرين يؤيد الانضمام إلى الأحزاب السياسية الغربية كالشيخ جاد الحق شيخ الأزهر الأسبق ـ رحمة الله عليه الذي يقول: (لما كان التعايش مع غير المسلمين، وفي بلادهم يستدعي الحفاظ على حقوق المسلمين، وكانت النظم السياسية والادارة متفاوتة، فهي في بلد غيرها في بلد آخر ـ وهي ـ بجملتها ليست من الأحكام المستمرة أو المستقرة، بمعنى إنها قابلة للتغيير، وتدخل في نطاق أحكام المعاملات التي لم ترد محاذيرها مفصلة في القرآن والسنة، إنما جاءت مجملة على نحو ما نوهت عنه هذه الآيات الكريمة: (لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ) (الممتحنة:8)، وقوله تعالى: (الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ وَلا مُتَّخِذِي أَخْدَانٍ وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْأِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ) (المائدة:5).
فقد أشارت الآيات إلى أن معايشة المسلمين لغير المسلمين في وطن واحد، والتعاون معهم في أمور الحياة مباح، غير منهي عنه، ماداموا لم يتعرضوا للمسلمين في أمر الدين أو الديار. كما أباحت للرجل المسلم التزوج من المرأة الكتابية، أي تكوين أسرة ينشأ فيها أولاد و يترتب عليها صهر بافتراض استمرارالزوجة غير المسلمة على دينها. وفي هذا إباحة التعامل في سائر أمور الحياة بين المسلم وغير المسلم، دون إضرار بالإسلام ولا بالمسلم في عقيدته ودينه.
ويتفق الشيخ الدكتور يوسف القرضاوي. مع شيخ الأزهر في هذا الرأي مجوزاً انتماء المسلم المقيم في بلاد الغرب للأحزاب السياسية. مؤكداً أن ذلك سيكون مصدر قوة لهم للدفاع عن قضاياهم وتحقيق مصالحهم. كما أن الفتوى تتغير بحسب الظروف الزمانية والمكانية؛ طلباً لتحقيق المصلحة العامة مع مراعاة القواعد والأصول الشرعية عند التصويت على أي قرار.
كما أيد هذه الفتوى جمع غفير من العلماء الأعلام.
أما الانتساب إلى الاحزاب الإلحادية العقيدية كالشيوعية وغيرها. والأحزاب الإباحية التي تقوم على مناصرة وتبني قضايا الشذوذ والإباحية فإن ذلك حرام قطعاً ومن انتمى إليها فقد باء بغضب من الله ورسوله.
واجبات المسلم الأسترالي الصالح
والمواطن المسلم الأسترالي الذي يستشعر عظم المسؤولية المنوط بها وأنه سفير لرسول الله (صلى الله عليه وسلم) وممثل لإسلامه الأمر الذي يوجب عليه أن يكون كالشامة بين الناس الذين يرون الإسلام من خلال سلوكه ومعاملاته. فيعرف تمام المعرفة واجبات هذه المسؤولية وأن عليه:
1 ـ واجبات نحو ربّه.
2 ـ واجباً نحو نفسه.
3 ـ وواجباً نحو أهله.
4 ـ وواجباً نحو إخوانه في المجتمع الذي يعيش فيه.
5 ـ وواجباً نحو أمته والقضايا الإنسانية العادلة لبني الإنسان في كل مكان.
أولاً: واجباته نحو ربه:
فيمتثل أوامره، ويجتنب نواهيه، يتخلق بأخلاق القرآن ويحرص على تطبيق سنة النبي العدنان. لا يفتقده ربه حيث أمره، ولا يجده حيث نهاه. يصلح نفسه ليكون أهلا لإصلاح غيره. يعلم أن أحب شيء الى الله هو أداء ما افترضه الله تعالى عليه من صلاة، وزكاة، وصيام، وحج.
وإذا كان نظام المرور ينظم له حركة حياته وهو يضرب في مناكب الأرض يقود سيارته. فيذعن بالسمع والطاعة لإشارات المرور عند مفترق وتقاطع الطرق. فيتنبه ويحترس للون الاصفر، ويتوقف عن السير طاعة للون الأحمر، ويواصل سيره إذا ما أضاء اللون الأخضر.
فإن الله تعالى قد نظم حركة حياة عباده المؤمنين بقوانين وأحكام تكفل للناس الحياة الآمنة المطمئنة. فحرمت وكرهت أشياء، أباحت كل طيب فيه الخير والمنفعة.
وهذه الأوامر ليست مصادرة لحرية الإنسان، وإنما هي تنظيم لهذه الحرية حماية للفرد والمجتمع.
فحريِّ بالمسلم أن يتلقى تعاليم دينه واحكام ربه بالقبول والطاعة والإذعان والتسليم. ولايليق به أن يطيع إشارات المرور ولا يطيع أوامر المولى الغفور. ولايليق به أن يحترم ألوان عمود من الحديد، ولايحترم أحكام الفعَّال لما يريد.
وعميت عين لا ترى أن الله يراها، ويعلم سرِّها ونجواها، واليه منقلبها ومأواها.
ثانياً: واجبه نحو نفسه:
فكما إن لله عليه حقاً، فإن لنفسه عليه حقاً. وأول هذه الحقوق: أن يجعلها نفساً أبية حرِّة شامخة. لا تخضع ولاتدين بالعبودية إلا الله.
فليس حراً من يعبد شهواته و نزواته، وليس حراً من يعبد هواه ورغباته، وليس حراً من تلهيه الدنيا عن الآخرة. وليس حرا من تشغله النعمة عن المنعم أو يشغله الرزق عن الرزاق أو يشغله العطاء عن المعطي.
ومن حق نفسه عليه أن يكون قويا في بنيانه فيجعل للرياضة البدنية نصيبا في وقته قويا في ايمانه وعقيدته. فيصل نفسه بمصادر الأنوار الثلاثة (الله ـ القرآن ـ الرسول) قال تعالى: (اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ) (النور:35) (فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالنُّورِ الَّذِي أَنْزَلْنَا) (التغابن:8) (قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ) (المائدة:15).
من حق نفسه عليه أن لا يوردها المهالك بإدمان الخمور أو تعاطي المخدرات أو الوقوع في الخطأ الأول والأخير فيقترف جريمةالزنا مع امرأة اجنبية لا تحل له وقد تكون مصابة بالايدز. فيصيبه هذا المرض الفتاك فيحكم على نفسه بالاعدام ويظل قلقا معذبا ينتظر موته المحتوم.
ثالثاً: واجبه نحو أهله:
لأن الرجل راعي ومسؤول عن أهله وكذلك المرأة راعية في بيت زوجها ومسئوله أمام الله تعالى عن رعيتها. فمن حق أهله عليه أن يطعمهم الحلال، ويسكنهم الحلال، ويلبسهم الحلال، وأن يتعهدهم بالنصح والتربية والتوجيه. وأن يستهبط في بيته ملائكة الرحمة كل يوم بدرس ديني أو مجلس لقراءة القرآن ولو لدقائق معدودات فهذه المجالس تنزل إليها الملائكة، وتغشي أهل البيت الرحمة والسكينة ويذكرهم الله تعالى في الملأ الأعلى ويفوزون بالرحمة والمغفرة. واذا استحضر في قلبه عظمة النداء الإلهي يهتف في أعماقه بقول الله عزوجل: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدَادٌ لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ) (التحريم:6). ارتعدت فرائصه، وخفق قلبه، وتحرك وجدانه، فشمر ساعد الجد يطفىء هذه النيران عن نفسه وعن أهله ومن يعول. فيحول بينهم وبين نار وقودها الناس والحجارة يتقونها ويجعلون بينهم وبينها حاجز بتقوى الله عزوجل.
وهو عندما يعلم إن البركة لا تدخل بيتاً فيه مسلم مكلف تارك للصلاة. يعلِّمهم الصلاة وهم أبناء سبع، ويذكر أهل بيته دائماً بضرورة المحافظة على الصلوات الخمس في اوقاتها.
واذا علم الأب الذي رزقه الله وامتحنه بالبنات أنه معان من الله تعالى. والبيت الذي فيه البنات لا تنقطع عنه الرحمات، وإنهن عنده أمانة حتى يزوجهن فإن وفقه الله لذلك كنًّ له عتقاً من النار. وهذا وعدّ لا يتخلف ورد على لسان الصادق المصدوق (صلى الله عليه وسلم) أن من ابتلى (أي امتحن) بثلاث بنات فأدبهن وأكرمهن حتى تزوجن كن له عتقاً من النار. وكذلك يكون هذا الأجر العظيم لوالد الفتاتين أو الفتاة الواحدة.
فليعلم رب الأسرة ان عمله وكدِّه في طلب القوت الحلال لأهله له من الأجر والثواب كأجر المجاهد في سبيل الله. وإن من الذنوب ذنوباً لا يكفرها إلا الكد والعرق طلبا للرزق وسعياً للعمل ليوفر الرجل الحياة الكريمة لأهله.
ولتعلم ربَّةُ الأسرة (الأم) أن حسن تبعلها لزوجها وقيامها بخدمة أبناءها داخل بيتها يجعلها مجاهدة شريكة في الأجر لزوجها. وأن لها من حملها وحتى فطاها لولدها كأجر المجاهد في سبيل الله فإن ماتت وهي كذلك كتب الله لها أجر شهيد.
رابعاً: واجبه نحو أخوته في المجتمع الذي يعيش فيه:
إن كل إنسان عليه حقوق وواجبات نحو إخوانه من بني الإنسان بحكم قانون التسخير والتعاون الذي خلق عليه نظام الحياة.
فالمسلم كما أشرنا سابقاً سفيراً لأمته ممثلاً لرسوله. وساعة يعلم أن أي تصرف سيئ أو سلوك مشين يصدر عنه سيضخم ويكبَّر ثم يوجَّه إلى المسلمين عامة وتشوه به صورة الاسلام. فإنه يزن أعماله وتصرفاته متأسيا بأخلاق نبيه (صلى الله عليه وسلم) فيصل من قطعه، ويعطي من حرمه، ويعفو عن من ظلمه، ويرحم الصغير ويوقر الكبير ولا يتردد أبداً في صنع المعروف في أهله وغير أهله فإن وافق أهله فهم أهله وإن لم يوافق أهله فهو أهله.
المسلم أينما حل وأينما كان كالشمعة تضيء لمن حولها. وكالزهرة تفوح ريحاً طيباً يشم كل من دنا منها. وهو كالشجرة المثمرة اذا رماها الناس بالحجر أعطتهم أطيب الثمر. وهو أيضا الصادق إذا تكلم، والمخلص إذا عمل، والأمين إذا أئتمن، والوفي إذا عاهد. إنه يحرص كل الحرص على المتاجرة مع الله تعالى ابتغاء مرضاته بفعل الخير مع جميع الناس فالخلق جميعا عيال الله (أي هو الذي يعولهم) وأحبهم الى الله انفعهم لعياله. يتصف دائما بالتواضع واللين والرحمة. يتأسى يقول القائل:
تواضع تكن كالنجم لاح لناظر
على صفحات الماء وهو رضيع
ولا تكن كالدخان ترفع عاليـا
إلى طبقات الجو وهو وضيع
همه دائما كسب القلوب قبل كسب المواقف يحب لأخيه الانسان ما يحب لنفسه من الفوز بكلمة التوحيد والدخول في اكمل النعم واتمها نعمة الاسلام.
ونبي الرحمة (صلى الله عليه وسلم) يوصي اتباعه قائلا: «والله لا يؤمن (ثلاث مرات) قيل من يا رسول الله؟ قال: من لا يأمن جاره بوائقه (أي غشه وأذاه) وقال (صلى الله عليه وسلم): ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يؤذي جاره».
وقال (صلى الله عليه وسلم): مازال جبريل يوصيني بالجار حتى ظننت انه سيورثه.
تعاليم نبوية هامة تضبط سلوك المسلم مع جيرانه من أي جنس او دين كانوا فليعلم المسلم أنه مطالب شرعا بالإحسان والتودد إلى جيرانه. بحسن العشرة ومشاركتهم أفراحهم وأتراحهم متجنبا المنكر إن وجد. وإن شم جيرانه رائحة طبخه (وشوائه) فليقدم لهم من هذا الطعام ما يدخل السرور عليهم وليس أخلاق الاسلام أن يؤذي المسلم جاره غير المسلم برفع صوته أو التشويش عليه. أو إزعاجه برفع صوت المسجل أو المذياع ولو كان بتلاوة القرآن الكريم فقد يكون عند الجيران من المرضى أو طلبة العلم يستذكرون دروسهم. ومن أخلد للراحه ليستريح من عناء العمل فيكون في ذلك ازعاج لهم. وهذا السلوك يتنافى مع أخلاق وتعاليم الإسلام ومن حق مجتمعه عليه أن يحرص على الممتلكات العامة في الحدائق والمتنزهات ويعلم أهله وأبناءه ورفاقه بأهمية المحافظة على نظافة الحديقة والمكان وتأمل قول رسول الله (صلى الله عليه وسلم) الذي يجعل هذا السلوك البسيط شعبة من شعب الايمان: الايمان بضع وستون. أو بضع وسبعون شعبة أعلاها قول لا إله إلا الله وأدناها إماطة الأذى عن الطريق.
حكم نقل الدم بين المسلم وغير المسلم
الدم في ذاته لا تأثير له في كفر أو إيمان. كما لا تأثير للإيمان والكفر فيه. فليس هناك دم مؤمن و دم كافر. ولامانع أن يتبرع المسلم لغير المسلم بدمه إنقاذا لحياته كما أن المسلم يمكنه أن يستشفي ويعالج بدم غير المسلم. اذا ما أكد الأطباء خلوِّه من الأمراض المعدية.
وينطبق الحكم على التبرع بالأعضاء بين الناس لا فرق بين مسلم وغير مسلم لما في ذلك من فعل الخير والمعروف وإنقاذ حياة نفس مخلوقة لله تعالى. ومثل هذه الاعمال الإنسانية يشجعها الإسلام ويحض عليها.
حكم إلقاء السلام على الكافرين والرد عليهم
اولا: حكم القاء السلام:
ذهب جمع من السلف إلى جواز إلقاء السلام على المخالفين من أهل الكتاب والمشركين، وقد فعله (ابن مسعود) وقال: إنه حق الصحبة.
وكان (أبو أمامة) لا يمر بمسلم ولاكافر إلا سلم عليه، فقيل له في ذلك فقال: أمرنا أن نفشي السلام([11]) وبمثله كان يفعل (أبو الدرداء). وكتب ابن عباس لرجل من أهل الكتاب «السلام عليك»، وكان عمر بن عبدالعزيز يقول: «لا بأس أن نبدأهم السلام».([12])
وسئل ابن عينة: هل يجوز السلام على الكافر؟ قال: نعم، قال: يقول تعالى: (لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ) (الممتحنة:8)، وقال: قد قال تعالى: (قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ) (الممتحنة:4)وقال إبراهيم لأبيه: (سلامٌ عليك) مريم: من الآية 47.
ورد الجمهور على الاستدلال بقول (إبراهيم) بأنه سلام توديع ومباركة، ولاسلام تحية. وقال القرطبي: والاظهر ما قاله ابن عيينة وهو قول لبعض الشافعية([13])
وذهب جمع آخر إلى المنع من إلقاء السلام على الكافرين مستدلين بقول النبي (صلى الله عليه وسلم): «لا تبدؤا اليهود والنصارى بالسلام» رواه مسلم.
وقالوا: في الحديث دليل على تحريم ابتداء المسلم لليهود والنصارى بالسلام، لأن ذلك أصل النهي، وهو قول جمهور أهل العلم.
وقال ابن حجر: والارجح من هذه الاقوال كلها مادل عليه الحديث ولكنه مختص بأهل الكتاب.
قلت: لكن النهي عن مبادرة أهل الكتاب بالسلام معلل بكونهم يردون بـ«وعليكم السام» يعني الموت.
يؤخذ هذا التعليل مما رواه البخاري عن عائشة أن رهطاً (جماعة) من اليهود دخلوا على النبي (صلى الله عليه وسلم) فقالوا: السام عليك. ومن هنا قال صلى الله عليه وسلم: «اذا سلم عليكم أهل الكتاب فقولوا: وعليكم» وفي رواية أخرى فإن أحدهم يقول «السام عليك([14])». وعليه، فإذا غير اهل الكتاب من أسلوب ردهم وألفاظهم الخبيثة، فلا مانع من السلام عليهم، لأن الحكم يدور مع علته وجوداً وعدماً.
فقد نهانا النبي (صلى الله عليه وسلم) عن ذلك حتى لا يكون هناك مقابل «إلقاء السلام» دعاء علينا بالموت، فإذا انتفى ذلك فلا أرى وجهاً للمنع.
وهذا ما فهمه جمع من الائمة، فقد سئل الأوزعي عن مسلم مر بكافر فسلم عليه، فقال إن سلمت فقد سلم الصالحون، وإن تركت فقد ترك الصالحون قبلك.
وذهب النخعي إلى القول: بأنه إذا كانت لك حاجة عند كافر فابدأه بالسلام.
وعلّق القرطبي على هذا قائلا: «ويكون قول النبي (صلى الله عليه وسلم) (لا تبدأوهم بالسلام) إذا كان لغير سبب يدعوكم إلى أن تبدأوهم بالسلام من قضاء ذمام، أو حاجة تعرض لكم، أو حق صحبة، أو جوار، أو سفر.([15])
قلت: إذا ثبت أنهم يردون بـ «وعليكم السام» أو بأي عبارة أخرى سيئة، فلا يبدأون بالتحية سواء كانت للمسلم عندهم حاجة، أم لم يكن.
أما اذا سلم عليهم بقوله: «السلام على من اتبع الهدى« فجائز لأن النبي (صلى الله عليه وسلم) كتب إلى هرقل كتاباً وفيه تلك التحية([16]).
كل ما تقدم من خلاف فإنه إذا كانت تحيتنا لهم «بالسلام عليكم» أما إذا كانت بعبارة أخرى (كصباح الخير ـ مساء الخير ـ ومرحباً) وما شابه ذلك، فلا أرى أن النهى يتناوله لتحققنا من عدم ردهم علينا بـ«وعليكم السام» أو أي دعاء آخر علينا. وقد قال بذلك السدى ومقاتل واحمد وغيرهم. ([17])
ثانياً: حكم رد السلام عليهم:
اتفق أهل العلم على أنه يرد على أهل الكتاب بـ(وعليكم)، لقول النبي: (إذا سلم عليكم أهل الكتاب فقولوا: (وعليكم). ([18]) ولكن هل يزاد على ذلك؟ ذهب جماعة من السلف إلى أنه يجوز الرد على الكفار بـ(وعليكم السلام) كما يرد على المسلم، وهو قول ابن عباس والأشعري والشعبي وقتادة، وحكاه الماوردي وجهاً للشافعية، ولكن لا يقول «ورحمة الله»، وقيل يجوز مطلقاً وتكون الرحمة بمعنى الهداية.
قال ابن بطال: قال قوم: رد السلام على أهل الكفر فرض، لعموم قوله تعالى: (وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَسِيباً) (النساء:86).
قال ابن عباس فيما يثبت عنه: من سلم عليك فرده ولو كان مجوسياً ذلك بأن الله يقول (وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا)، ورجحه أبوزهرة فيؤخذ منه وجوب الرد مع العلم بأن لكل صيغة تحية رد مناسب. ([19])
قال عطاء: إن الآية التي استدل بها ابن عباس مخصوصة بالمسلمين، فلا يرد السلام على الكافرين مطلقاً([20]) ولم يأتوا بدليل على ما ذهبوا إليه إلا بالحديث السابق.
قلت: ولكنه مقيد بسبب فإذا زال فلا مانع من الرد بـ(وعليكم السلام) فيترجح قول القائلين بفرضية الرد كاملا بالصيغة التي تصلح ردا للتحية.
قال «ابن القيم» فإذا تحقق السامع إن الكافر قال له (السلام عليكم) فالذي تقتضيه الأدلة الشرعية، وقواعد الشريعة أن يقال له: (وعليك السلام)، فإن هذا من باب العدل والإحسان، وقد قال تعالى: (وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَسِيباً) (النساء:86).
(فندب إلى الفضل، وأوجب العدل، ولاينافي أمر النبي (صلى الله عليه وسلم) بالاقتصار على (وعليكم) بناء على السبب المذكور الذي كانوا يعتمدونه في تحيتهم، فإذا زال هنا السبب فالعدل في التحية أن يرد عليه نظير سلامه.([21])
حكم إعطاء الجار غير المسلم من الأضحية
الأصل في ذلك ما رواه «البخاري» في الأدب المفرد عن «مجاهد» إنه قال: كنت عند عبدالله بن عمر «وغلامه يسلخ شاة، فقال: يا غلام إذا فرغت فابدأ بجارنا اليهودي فقال رجل من القوم: اليهودي؟ اصلحك الله، قال ابن عمر: إني سمعت النبي (صلى الله عليه وسلم) يوصي بالجار حتى خشيت أو رؤينا أنه سيورثه. ([22])
وحول هذا الموضوع أفتت جماعة من العلماء، فقالت: «يجوز للمسلم أن يواسي جاره غير المسلم لحم الاضحية ويوسع عليه تأليفاً لقلبه وأداء لحق الجوار، ولعدم وجود ما يمنع من ذلك من الأدلة، ولعموم قوله تعالى: (لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ) ([23]) (الممتحنة:8).
نعم يجوز إطعام غير المسلم منها ويجوز إعطاءه منها لفقرة أو قرابته أو تأليف قلبه، ولا يعطى منهاحربيا. ومثل الأضحية (العقيقة والوليمة، والوكيرة، وسائرالسنن التي تستحب إطعام الطعام).
فيقوم بدعوة جاره غير المسلم. لما في ذلك من آداب وعلاقة الدعوة وحسن الجوار وإظهار مكارم الاخلاق الإسلامية.
حكم عيادة مرضى غير المسلمين
الأصل في جواز ذلك ما رواه البخاري وغيره: أنه كان للنبي (صلى الله عليه وسلم) غلام يهودي يخدمه. فمرض فأتاه فعاده.. الحديث([24]) . قال ابن حجر: وفي الحديث جواز عيادة المشرك إذا مرض([25]) . وقد تعددت الأدلة على فعل النبي (صلى الله عليه وسلم) وسلفنا الصالح: وكلها تدل على جواز عيادة مرضى المشركين لانها نوع من البر وإبراز محاسن المسلمين واذا عاده يقول له. كيف أصبحت؟ كيف أمسيت؟ وأقول لا بأس أن يدعو له بالشفاء من جميع السقام الظاهرة والباطنة.
حكم تشيع جنائزهم
لم يرد نص ينهي عن ذلك فيما أعلم. وتشييع الجنازة: بقصد مواساة الأحياء وتودد قلوبهم. ومشاركتهم أحزانهم. وأفراحهم.
الفارق ما بين الحكم الشرعي والفتوى
ميز الله تبارك وتعالى الشريعة الاسلامية السمحة بميزات تكفل لها الدوام والصلاحية لكل زمان ومكان. مع احتفاظها بأصولها العقيدية الثابتة التي لا تحول ولا تزول ولا تتغير ولا تتبدل إلى يوم القيامة.
أما الأحكام التي شرعت لتحقق مصالح العباد والتي يسوغ فيها الاجتهاد وإعمال الرأي لتحقيق هذا الهدف وهي ما تعرف بالفروع فإن الزمان والمكان يلعبان دوراً رئيساً في الفتاوى والأحكام التي يحتاجها المسلمون.
* ومن أهم ما ميزت به الشريعة الاسلامية:
1ـ الشمول؛ والكمال؛ والتمام.
2- الوسطية؛ واليسر؛ ودفع الحرج.
3- ثابتة الأصول مرنة الفروع.
فما الفرق بين الحكم الشرعي والفتوى الاجتهادية؟
الحكم الشرعي: هو الأمر الصادر عن الله تعالى أو عن رسول الله(ص) بطريق صحيح بافعل أو لا تفعل.
والفتوى الشرعية: فهي أن يعمل المجتهد أو الفقيه رأيه لاستنباط حكم شرعي لتحقيق مصلحة أو دفع مضرة.
وهذه الفتوى قد تتغير باختلاف الزمان أو المكان أو الأشخاص أو الظروف والأحوال المحيطة بوقت الفتوى.
* أمثلة على الفتاوى الاضطرارية:
1ـ حياة الأم مقدمة على حياة الجنين في بطنها:
س – نحن الأطباء المتخصصين نعلن أن بقاء الجنين فيه خطر على حياة الأم لأسباب صحية. فماذا نصنع؟
ج: يجوز إنزال الجنين ولو نزل (ميتاً) حفاظاً على حياة الأم مع أن قتل النفس حرام. ولأن حياة الأم متحققة، وحياة الجنين مظنونة.
2- درء للمفاسد: أصدر قراراً بتحريم الزواج من الكتابيات مع حل ذلك في القرآن الكريم.
فهل يمكن استعمال هذه الفتوى في درء المفاسد وما أكثرها في بعض المجتمعات لاسيما في مثل ظاهرة زواج الشباب المصري من اسرائيليات؟
3- تعطيل (سهم المؤلفة قلوبهم): باجتهاد من الخليفة الثاني عمر بأن الله تعالى قد أعز الاسلام وليس بحاجة الى زيادة عددية عن طريق تأليف قلوب الناس بمال.
فهل ثمة مانع من استمرارية سهم التأليف خدمة للدعوة الاسلامية في الدول الأفريقية والأسيوية التي يصول فيها التبشير ويجول مستغلاً عوز الناس وفقرهم؟
4- في مجتمع تكثر فيه حوادث السرقة، وقيادة المخمورين، وتفرض الحكومة تأميناً إجباريا.
لذا فإن تحريم التأمين على المسلمين المهاجرين في تلك البلاد قد يوقعهم في كثير من الحرج ويحرمهم من حقوقهم وتعطيل مصالحهم وتجارتهم.
5- تأمين الشركات والمؤسسات على (موظفيها) بمعاش شهري يدفع له مدى الحياة، أو تعويض إجمالي. وقد أصدرت مشيخة الأزهر الشريف فتوى تبيح ذلك. سنوردها فيما بعد.
6- جاء في الحديث الشريف: «تناكحوا تناسلوا فإني مباه بكم الأمم يوم القيامة» فما الظن بأولئك القوم الذين ينجبون مواليد يكثرون بها سواد الكفر ويزيدون بها عدد المجرمين والمدمنين. وهل أمثال هؤلاء يباهي بهم رسول الله(ص) الأمم يوم القيامة.
لا شك أن الأمر في مثل هذه الحالات والمجتمعات أن تكون لفتوى تنظيم أو تحديد النسل شأن عظيم.
7- إذا تأكد أن رجلاً مصاباً بالإيدز أو امرأة مصابة بالإيدز فالفتوى الشرعية تحرم الزواج من الرجل أو المرأة المصابين بهذا الداء الوبيل. فإذا ربط الحب والغرام بين اثنين. وأصرا على الزواج بعد علم الزوج بمرض الزوجة أو العكس. أن مثل هذا الرضا ينقل الحكم من الحرمة إلى الحل وعلى أن تتم المعاشرة بينهما (بعازل مطاطي). لأن احتمال انتقال عدوى المرض إلى الأبناء مرجحة.
8- إذا تعرض شباب الصحوة الإسلامية إلى مطاردات ومضايقات واضطهاد بسب (اللحية) في أي مكان. فإن الفتوى تبيح له حلق لحيته حتى يأذن الله تعالى بالفرج القريب. والأوامر الإلهية والسنن النبوية في مجالات التعبير كثيرة وليست وقفاً على اللحية. ومثل هذا ما تشترطه (وزارة الصحة) لبعض الوظائف. ولا سبيل له غيرها لمعيشته من يعول. وكذلك أوامر (القيادات في الجيش) أثناء تأدية الخدمة العسكرية. تَصْدر في مثل هذه الحالات فتاوى تبيح حلق اللحية بلا تأثم.
9- هل ينطبق مثل هذا الحكم على حجاب المرآة المسلمة في بلاد الغرب وفي بلد شبه مسلم كتركيا؟ إن الديمقراطية الغربية تكفل غالباً الحرية الشخصية ولكن إذا بلغ الأمر درجة الخطر والخوف على المال أو النفس في منطقة أو مدينة بسبب الحجاب الشرعي. تخلت عنه المرأة المسلمة وعليها أن تبحث عن مكان آمن يوفر لها حرية تطبيق أحكام دينها.
10- رجل انقطعت به السبل ونفذ ما معه من طعام وأشرف على الهلاك جاز له أن يأكل من الميتة. وفي ذلك نصٌ قرآني يبيح ) فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلا عَادٍ فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ( (الأنعام:145) الفتوى تجيز ذلك.
11- أثناء ركوب الطائرة غصَّ مسلم أثناء الأكل وليس أمامه شيء من الماء فمد يده إلى كوب خمر أمام الراكب المجاور له فأزال بهذا الخمر غصته. الفتوى تجيز ذلك.
12- مسلم أشرف على الهلاك أو خاف على نفسه أو أهله الضياع. أو الحاجة الماسة إلى عملية جراحية له أو لأحد أفراد أسرته. ولم يجد من يقرضه قرضاّ حسناً. فاضطر الى قرض ربوي، جاز له ذلك والحرمة حينئذ على المقرض.
13- ومن ذلك حديث: نهى رسول الله(ص) عن بيع وشرط.
الفتوى المعاصرة ترى تطبيق هذا المفهوم في عصرنا. نوع من الحرج والتضييق ففي مثل هذه الأيام نبيع ونشتري الأجهزة والسيارات بضمان (سنة مثلاً) (أو كذا من الكيلومترات) للتأكد من عدم وجود أي عيب او خلل. إن العرب بخبرتهم كانوا يعرفون (عمر الشاة ونوعها) ويميزون بين البقرة الحلوب من غيرها. وأنواع الخيول والجمال. كل هذه الأشياء ليست بحاجة إلى تجريب واختبار مدة طويلة.
لذلك أضطر علماء الحنفية الى تخصص هذا الحديث بالعرف. ومع ذلك طعن علماء الحديث في سنده. ولم يخرجه أصحاب السنن ومع ذلك يعتمد عليه الفقهاء الأقدمون وينتشر في كتبهم.
قال العلامة ابن القيم: إن هذا الحديث مخالف للصحيح.
وروى أن جابر بن عبدالله. باع بعيره واشترط ركوبه إلى المدينة.
وإن رسول الله(ص) قال: «من باع عبداً وله مال فماله للبائع إلا أن يشترط المبتاع».
الرخصة وضوابطها الشرعية
في مقال نشرته مجلة الدعوة (الهيئة الدينية) في المملكة العربية السعودية العدد (1789) 2/صفر/ 1422هـ - 26/4/2001م. أجرته مع العلامة الدكتور/ عبدالله ولد بيه من فقهاء العصر. وهو عضو المجمع الفقهي في مكة المكرمة. وعضو المجلس الأوربي للإفتاء، وهو أستاذ الدراسات الإسلامية في جامعة الملك عبدالعزيز. ومما ورد على لسان هذا العالم الفذ البحاثة الفهامة.
س- كيف نحسن فهم العزائم والرخص؟
ـ هذا سؤال مهم جداً وهو السؤال الذي يجعلنا نحترم جناحى التيسير والعزيمة، أي يجب أن لا نخل بالعزائم، لأنها أساس التكليف ويجب كذلك ألا نفرط في الرخص؛ لأنها رحمة من الله سبحانه وتعالى لعباده. لكن الرخص لها ضوابطها الشرعية التي وضعها الشارع وشرطها علماء الأمة على مر العصور، فالرخصة هي تصيير صعوبة حكم إلى سهولة لعذر مع قيام العلة الأصلية وهذا هو تعريف الرخصة اصطلاحا وإن كانت الرخصة قد تطلق على كل تسهيل سواء كان مسبوقاً بحكم شرعي غُير أو لم يسبق به وسواء كان هذا التيسير لا تزال عِلُته العلة الأصلية لمنعه قائمة أو لم تكن، ولأجل هذا رخص الشارع في السَّلَم، والسلم من نوع الرخص التي لا تسمى رخصة بالمعنى الاصطلاحي المحدد كما يقول أبو أسحق الشاطبي وإنما جاز السلم للحاجة لكنه يجوز لكل محتاج ولغير المحتاج بخلاف الرخص فإنها لا تتعدى محلها ولا تجوز إلا للمترخصين ولا تتعلق بالموضوع وإنما تتعلق بالشخص المترخص الذي يصبح بإمكانه أن يقدم على ذلك الأمر دون الدخول معك في تفاصيل القواعد التي بنيت عليها فلابد أن نشير هنا إلى قاعدة ذكرها الشافعي رحمه الله تعالى وأجاب بها عن أسئلة تكررت في أوقات متعددة مختلفة وهي أن الأمر إذا ضاق أتسع.
ـ وبعد الضرورات هناك مرتبة أخرى من مراتب المشقة وهي مرتبة الحاجة، ويروي العلماء أن العلاقة بالشيء لابد أن تكون أو تنحصر في خمسة أمور وهي أن تكون هذه العلاقة ضرورة أو حاجة. والحاجة هي الأمر الذي يشق على صاحبه وفي حصوله تنعم وراحة وفي فقدانه مشقة ونصب، وشيء ثالث فيه منفعة وشيء فيه زينة، والخامس الفضول هذا حسب تعبير السيوطي في (الأشباه والنظائر).
ـ وهذه الأشياء لا تبيح محرما ولا تسقط واجباً ما عدا الضرورات لكن هذا يستدرك عليه بقاعدة أخرى ذكرها السيوطي وهي أن (الحاجة تنزل منزلة الضرورة) وهي قاعدة أدت أيضا إلى عمى كثير من الناس أو أدت إلى سقوط كثير من الناس في إباحة كثير من الأمور بدعوى أن الحاجة تنزل منزلة الضرورة بدون ضوابط محددة.
([1]) انظر الفارق مابين الفتوى والحكم الشرعي في ابواب هذا الكتاب.
([2]) سورة آل عمران، الآية: 102.
([3]) سورةالبقرة، الآية 185.
([4]) سورة الحج، الآية 78.
([5]) النحل: 110.
([6]) الفرقان: من الآية 52.
([7]) يوسف: 108.
([8]) النساء: 100.
([9]) رواه أبو داود. في (الجهاد) رقم 1645، والترمذي. في (السير) رقم 1604.
([10]) الانفال/ 72.
([11]) البخاري 7/128.
([12]) الآداب الشرعية 1/412 ـ مصنف ابن أبي شيبة 8/628 ـ أحكام أهل الذمة 2/770.
([13]) فتح الباري13/283.
([14]) صحيح البخاري 7/133.
([15]) القرطبي 11/112.
([16]) البخاري 7/135.
([17]) الآداب الشرعية 1/412 ـ 413.
([18]) موسوعة الاجماع 1/154.
([19]) عمدة القارىء 22/248، فتح الباري 13/283، القرطبي 5/303.
([20]) فتح الباري 13/283، القرطبي 5/303.
([21]) أحكام اهل الذمة 1/199، 200.
([22]) الأدب المفرد ص 39.
([23]) الفتاوى الاسلامية 1/117.
([24]) البخاري كتاب المرضى 7/6.
([25]) فتح الباري 3/262.