المسلمون في الأقطار غير الإسلامية
المسلمون في الأقطار غير الإسلامية
د. الشيخ إحسان بعدراني
باحث ومفكر إسلامي من سوريا
ملخص البحث
تحديد المصطلحات وتعريفها وتعيين معانيها ودلالاتها لئلا تحمل غير أسمائها ، ولئلا تفرغ من مضامينها ، ولنصل إلى وضع حلول لها ، وحتى لا تصبح الثوابت متغيرات والمتغيرات ثوابت . مثالها : المشاكل - المسلمون - الأقطار غير الإسلامية .
- في مجال المشاكل :
1ـ الاختلاف بين الخلق من حيث التكوين البشري ، ومن حيث التكوين الاجتماعي ، أليس مشكلةً ؟
2- الاختلاف في الرؤى بين الخلق ، أليس مشكلةً ؟
3- العلاج والحل في ترياقين : الأول هو التعارف ، والثاني هو العمل الصالح النافع .
- في مجال المسلمين :
1ـ لا بُدَّ من التمييز بين مسلمين وافدين مهاجرين ، ومسلمين مواطنين اعتنقوا الإسلام ، ومسلمين وُلِدُوا في المَهْجَر من أبوين مسلمين بعد الهجرة .
2- لا بُدَّ من التمييز بين الولاء الوطني والانتماء القومي والمعتقد الديني والاتِّباع النبوي .
- في مجال الأقطار غير الإسلامية :
1ـ لا بُدَّ من التمييز بين مَنِ اختار في دستوره العلمانية كفرنسا وتركيا ، وبين مَنِ اختار الإسلامية كإيران ومَنِ اختار القومية كمصر وسورية ، ومَنْ سكت عن بوذيته كالصين واليابان ، وغير هذا .
2- ما هي الأقطار غير الإسلامية ؟ أهي دار الحرب والكفر ؟ أم التي لا يُسْمَحُ فيها بممارسة شعائر الإسلام؟ أم الأقطار التي ليس فيها غالبية مسلمة ؟ وهل يعاني المسلمون في الأقطار التي نسميها إسلامية مِنْ مشاكل ؟
- الثوابت التي يمكن الارتكاز عليها لحل المشاكل :
أـ ثوابت أصلية :
1- التعارف ، 2- العمل الصالح النافع ، 3- الهجرة وأنواعها ، 4- العلاقة مع الآخرين في أرض المهجر (أهي بيعةٌ أم عقد اجتماعي ).
ب - ثوابت فرعية :
1- الرحمة ، 2- الأُخُوَّة ، 3- اللِّين ، 4- المحبَّة .
- بعض المشاكل :
1- خطر الحجاب بقوة القانون ، وكيف تمَّ توصيفها ومعالجتها في فرنسا ، 2- العمل ، 3- الجنسية ، 4- التجنيد الإجباري ، 5- الانطواء والانعزال .
المسـلمون في الأقطار غير الإسلامية » مشـــــاكلهم «
M..
فُوجِئْتُ وأنا أهم بالكتابة في المحور الثالث عن مشاكل المسلمين في الأقطار غير الإسلامية ، أن المسألة ليست بالبساطة والسهولة التي يتوهمها المرء ، لعدد من الأسباب يرى باحث بعضها ويغيب عن بعضها باحث آخر ، فإن استويا في رؤيتها جميعاً لم يستويا في تقدير أهميتها ، وعلاقتها بالبحث ، وتأثيرها في وعلى ما سيخلص إليه من نتائج .
لا بُدَّ بادئ ذي بدء من تحديد المصطلحات وتعريفها ، وتعيين معانيها ودلالالتها . وهذا ما نفعله عند جمع الكسور العادية في الرياضيات ، حين نبدأ أولاً بتوحيد المخارج ، إذ لا يمكن الجمع بين النصف والثلث دون تحويلهما إلى أسداس لا يمس من قيمتهما الأصلية . وهذا يعني أننا لا يمكن أن نكتب في مشاكل المسلمين في الأقطار غير الإسلامية ، ثم نتصدى لوضع حلول لها ، قبل توضيح المقصود بالمشكلة ومتى تصبح المشكلة مشكلة ، وقبل تعريف المقصود بالمسلمين ، وقبل تحديد المقصود بالأقطار غير الإسلامية ، فبدون هذا التحديد وذلك التعريف تضيع أرضية المنطلقات الموحدة بين المتحاورين كُتَّاباً وقُرَّاءً ، محاضرين ومستمعين ، وتتحول الثوابت إلى متغيرات والمتغيرات إلى ثوابت ، وتحمل الأشياء غير أسمائها ، وتفرغ الأسماء من مضامينها ودلالالتها ، ويصبح الخروج على الثوابت شائعاً ومسوغاً .
في مجال تعريف المشكلة ـ مثلاً ـ لا بُدَّ من سؤالٍ يقول : هل اختلاف الرؤى ، الثقافي منها والأخلاقي والسياسي والاقتصادي والاجتماعي والقانوني ، مشكلة بحد ذاته ؟ أم أن المشكلة تنشأ من نظرة الآخر لهذا الاختلاف وموقفه منه ؟ والجواب الصحيح عن هذا السؤال يعتبر الخطوة الأولى الصحيحة على طريق تحديد وتوصيف المشكلة وصولاً إلى وضع أو اقتراح أو رؤية الحلول لها .
الاختلاف بين الخلق نوعان :
الأول : اختلاف بشري تكويني أشار إليه تعالى بقوله: } ومن آياته خلق السموات والأرض واختلاف ألسنتكم وألوانكم إن في ذلك لآيات للعالمين {([1]) ويشمل هذا الاختلاف لون البشرة ، وشكل الجمجمة ، وبصمات الأصابع ، وأحماض (DNA) وغيرها .
هذا النوع من الاختلافات سُنَّةٌ من سُنَنِ الله في الكون لا تقبل تبديلاً ولا تحويلاً ، من جهة أولى، ولا خيار لصاحبها فيها لكونها قانوناً قهرياً من جهة ثانية ، ولأنها كذلك فصاحبها لا يُسألُ عنها من جهة ثالثة . أما النوع الثاني : فهو اختلاف إنساني اجتماعي أشار إليه تعالى في قوله : }يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم { ([2]) ويشمل هذا الاختلاف العقائد والتقاليد والأعراف والثقافة ونمط السلوك والمعايير الأخلاقية والمقاييس القانونية .
هذا النوع من الاختلافات هو أيضاً سُنَّةٌ من سُنَنِ الله في الكون أرساها سبحانه استكمالاً لقاعدة التدافع في قوله تعالى: } .. ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض ولكن الله ذو فضــل على العالمين { ([3]).
هناك إذن اختلافات قائمة موجودة بين الناس شاؤوا أم أبوا ، لا يستطيعون لها تبديلاً أو تحويلاً أو تجاهلاً ، كشأن الجاذبية الأرضية وتعاقب النهار والليل ، وجودها يتسبب لزوماً بحصول دفع وتدافع يؤدي بدوره إلى تمييز عنصري يتجلَّى عند أحد الطرفين المتدافعين في صور شتى ، أبرزها إنكار حق الآخر في الحياة الكريمة ، وإقصاؤه عن المشاركة في بناء المجتمع بحصاره والتضييق عليه ووضع قوانين خاصة به تعتبره بالأساس إنساناً من الدرجة الثانية ، ويتجسَّدُ عند بعض الطرف الآخر في التدافع ـ بالمقابل ـ في صور شتى مغايرة ، أبرزها الانعزال والانزواء والتقوقع في ( غيتويات)([4])ذات أسوار لا تراها العين لكنها أقوى في الوقت ذاته من الإسمنت المسلَّح والحديد ، بانتظار فرصة مناسبة يستعيدون فيها كرامتهم وحريتهم وحقهم في الحياة .
هنا تأتي آية الحجرات 13 حاملةً العلاج والحل في ترياقين : الأول هو التعارف ، والثاني هو التقوى والعمل الصالح . فمع التعارف تترسخ أرضية قبول الآخر والتعايش معه ومع التقوى يصبح العمل والسلوك هو المعيار الوحيد لتقييم الإنسان ، وليس لون الجلد والشعر والعيون ، وليس الانتماء لأحد الأنبياء المرسلين .
وفي مجال تحديد »من هم المسلمون أصحاب المشاكل« ؟ لا بُدَّ من التمييز بين مسلمين وافدين مهاجرين ، ومسلمين مواطنين اعتنقوا الإسلام ، ومسلمين وُلِدُوا في المَهْجَر من أبوين مسلمين هم الجيل الثاني أو الثالث هناك بعد الهجرة . فالمشاكل ـ أو لنقل المصاعب والهموم ـ التي يواجهها القسم الأول تختلف تماماً عن تلك التي يتعرض لها القسم الثاني وعن تلك التي يعاني منها القسم الثالث ، سواء من حيث الكم أم من حيث الكيف ، كمسألة الجنسية ــ مثلاً ــ التي نجدها بكل ثقلها وأبعادها عند الوافدين المهاجرين ، ونجد بعضها عند الجيل الثاني والثالث المولود في المَهْجَر ، إلا أننا لا نجد لها أثراً عند أفراد القسم الثاني من مواطنين اعتنقوا الإسلام ، مثالهم محمد علي كلاي في أمريكا وروجيه غارودي في فرنسا . وقد تتفق المشاكل أو لنقل المشكلة عند الجميع في مكان وزمان وقضية واحدة ، كما حدث في فرنسا للمسلمين عند حظر الحجاب بتاريخ 10/2/2004، رغم أنهم جميعاً يواجهون مصاعب وإشكاليات يختلط فيها الانتماء الوطني بالمعتقد الديني والقومي بالنبويّ، ممزَّقين بين أنياب ولاء إثني لا يدرون في أغلب الأحيان أيُّ وجهيه يأتي أولاً إن تساويا عندهم ، وأيهما الثابت وأيهما المتغير إن لم يتساويا ، سواء أكان معتقدهم الديني يماثل السائد عند الأغلبية في بلد المَهْجَر ، كالمسيحي في أوروبا وأمريكا والمسلم في أندونيسيا ، أم كان غير ذلك ، كالبوذي والمسلم في بلد مسيحي . وهذا يقودنا إلى وجوب تعريف الأقطار غير الإسلامية .
لا بُدَّ ، في مجال تعريف الأقطار غير الإسلامية ، من التمييز بين قطر اختار في دستوره العلمانية كفرنسا وتركيا ، وقطر أعلن في دستوره مسيحيته كالفاتيكان أو إسلاميته كإيران وقطر قدَّم في دستوره الانتماء القومي على المعتقد الديني كجمهورية مصر العربية والجماهيرية العربية الليبية وغيرهما ، وقطر سكت على بوذيته كالصين واليابان وعن براهميته كالهند . هذا التمييز يكشف لنا من جهة أولى عن مصاعب وإشكاليات موجودة في بلد بعينه غير موجودة في بلد آخر ، ويساعدنا من جهة ثانية على فهم هذه المصاعب والإشكاليات ورؤيتها على وجهها الصحيح ، وعلى وضع أو اقتراح الحلول لها .
ما هي الأقطار غير الإسلامية التي نبحث عن حلول لمشاكل المسلمين فيها ؟
1- أهي دار الحرب والكفر كما عَرَّفَهَا عديدٌ من الفقهاء ؟ أهي أرض الكفار التي دعا عديدٌ من الفقهاء ـ وما زالوا يدعون ـ إلى وجوب غزوهم في عقر دارهم وعدم جواز القعود عن قتالهم ابتداءً وهجوماً كلما توفرت وسائل ذلك وأسبابه ؟
2- أم هي الأقطار التي لا تجوز الهجرة إليها والإقامة فيها ، بل لا يجوز حمل المصحف إليها خشية وقوعه في أيدي العدو ، فإن فعل مسلم ذلك كان مرتداً يستوجب القتل ؟
3- أم هي الأقطار التي لا يسمح فيها بممارسة شعائر الإسلام علناً كالصلاة والزكاة والصوم؛ فإن كان ذلك مسموحاً بطل موجب اعتبارها دار حرب وأرض كفار ؟
4- أم هي الأقطار التي ليس فيها غالبية مسلمة تضمن السيادة فيها للمسلمين ، سواء نصَّ دستورها وقوانينها المرعية على ذلك أم لا ؟
ومن الواضح أنَّ تبني التعريف الأول للأقطار غير الإسلامية ، يقطع الطريق أمام أي حوار كان ، حول أية مشكلة كانت ، وأمام كل محاولة للبحث عن حلول لها ، أو ينفي الحاجة إلى مؤتمرات تناقش مسألة التعارف والتعايش والجدال بالتي هي أحسن .
وأنَّ تبني التعريف الثاني يؤدي إلى الحكم بالكفر على ثلث المسلمين في العالم([5])، الذين ارتضوا منح ولائهم لدول غير مسلمة بهجرتهم إليها وقبولهم بقوانينها ، حين نعتبرهم خارجين عن قوله تعالى: } يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء بعضهم أولياء بعض ومن يتولهم منكم فإنه منهم .. { ([6])، وعن قوله e : »لا هجرة بعد الفتح «.
ومن الواضح أيضاً أنَّ تبني أحد التعريفين الثاني والثالث يقود إلى وضع الأقطار غير الإسلامية في سلة واحدة ، ويؤدي بالتالي إلى تصوُّر حلول وهمية لمشاكل مفترضة ، إن هي انطبقت على بلد بعينه لا تنطبق على بلد آخر . فالمسلمون في الصين يعانون من مصاعب وإشكاليات وهموم غير التي يعاني منها مسلمو الولايات المتحدة ، وقُلْ مثل ذلك في اليابان وفرنسا ، وفي الهند وبريطانيا ، رغم أن المسلمين يشكلون أقليات في هذه البلدان جميعاً .
ثَمَّةَ وهم شائع عند الكثيرين يتصور أن المعتقد الديني عند أغلبية السكان في بلد بعينه هو المعيار المعتمد لتصنيف هذا البلد في دار الإسلام أو دار الكفر . والمسألة ـ كما نراها ـ ليست مسألة أقليات أو أكثريات مسلمة ، وإلا فأين نُصَنِّفُ ألبانيا وكازاخستان وأوزباكستان ، والمسلمون فيها أكثرية بلا ريب ؟ وأين نضع تركيا وهي تعلن علمانيتها في دستورها رغم أن المسلمين فيها يشكلون 99% من عدد السكان ؟ وكيف ننظرُ أخيراً ـ بعيداً عن الشعارات البرَّاقة في الشكل وتغليباً للمضمون ـ إلى بلدان أعضاء في منظمة المؤتمر الإسلامي غالبية سكانها مسلمة ، إلا أن في دساتيرها وقوانينها نصوصاً تطبقها عملياً لا علاقة لها بقرآن ولا بسنة ؟
من هنا ـ كيلا تضيع الحدود بين الثوابت والمتغيرات فننزلق إلى تسمية الأشياء بغير أسمائها ـ جاءت الدعوة إلى ضرورة البدء بالتعاريف ، لكون التعاريف معايير من جانب ومنطلقات من جانب آخر ، لا غِنَى للباحث عنها وهو يرسم صور المشاكل والحلول . ومن هنا جاءت الدعوة إلى ألا نغفل لحظة واحدة عن الثوابت ونحن نرسم صور المشاكل في الأقطار غير الإسلامية ونحاول وضع حلول لها . ومن هنا أخيراً تظهر ضرورة أن نبدأ بما يعانيه المسلمون في الأقطار الإسلامية قبل التصدي لما يعانون منه في الأقطار غير الإسلامية لأن فاقد الشيء لا يعطيه . فمن القبيح عقلاً أن ندعو إخوتنا في مهاجرهم إلى الوقوف صفَّاً واحداً في وجه تيارات معادية عقائدياً وسياسياً وثقافياً واقتصادياً ونحن متشرذمون تطحننا رحى التعصب الطائفي والتطرف المذهبي ، وتُعمينا أضواء حب الظهور حيناً ومداهنة السلطان حيناً آخر عن رؤية الثوابت والوصول على الأقل إلى تعاريف متفق عليها ، وكأننا لم نسمع قوله تعالى: } أتأمرون الناس بالبر وتنسون أنفسكم وأنتم تتلون الكتاب أفلا تعقلون { ([7]) وقوله: e «ابدأ بنفسك ثم بأخيك ».
أما الثابت القرآني الأول فهو التعارف الذي أقامه تعالى في آية الحجرات 13 هدفاً غائياً للجماعات الإنسانية شعوباً وقبائل . والتعارف جهد ومسعى يبذله طرفان كل من جانبه هدفه معرفة الآخر والتعايش معه . ففي ضوء هذا الثابت تنهار كل الدعوات إلى التقوقع والانزواء والاختباء خلف أسوار الانعزالية والتقيّة ، وأولى بهذا الثابت الأول أعضاء الجمعية العمومية للمجمع العالمي .
وأما الثابت القرآني الثاني فهو العمل النافع الصالح الذي جعله تعالى في آية الحجرات 13 مقياساً وحيداً لمكانة الإنسان في مجتمعه من جانب ، ودرجته من الكرامة عند الله من جانب آخر . ففي ضوء هذا الثابت تتداعى جميع المعايير الأخرى ، المذهبية والطائفية والعقائدية والحزبية والقومية والعرقية والأسرية والعشائرية ، وتسقط مشروعية كل امتياز ومكسب تحقق عن غير طريق العمل النافع الصالح في ضوء قوله تعالى: } ولكلٍّ درجاتٌ مما عملوا { .
وفي ضوء هذين الثابتين تأتي ثوابت فرعية أخرى مكملة ، على رأسها قوله تعالى لنبيه الكريم: } فبما رحمة من الله لنت لهم ولو كنت فظاً غليظ القلب لانفضـــوا من حولك ...( ([8]) يليه قوله e : « الخلق كلهم عيال الله أحبهم إلى الله أنفعهم لعياله» يليهما قول الإمام علي كرم الله وجهه للمقداد بن الأسود : الناس صنفان ، أخ لك في الدين ونظير لك في الخلق . ثم يأتي قول بعضهم يَغْرِفُ من نبع هذه الثوابت العَطِرَة : الإيمان هَيِّن .. وجه بشوش وقولٌ ليِّن.
أما الثابت الثالث فهو الهجرة التي نجدها في قوله تعالى: } إن الذين توفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم قالوا فيم كنتم قالوا كنا مستضعفين في الأرض قالوا ألم تكن أرض الله واسعة فتهاجروا فيها فأولئك مأواهم جهنم وسـاءت مصيرا ، إلا المسـتضعفين من الرجال والنساء والولدان لا يستطيعون حيلة ولا يهتدون سبيلا { ([9]) إلى قوله تعالى:} ومن يهاجر في سبيل الله يجد في الأرض مُراغَماً كثيراً وسعة .. { ([10]) ففي ضوء هذا الثابت نفهم ـ كما فهم الإمام الرازي في تفسيره الكبير ج11 ص12 ـ أن الهجرة إنما هي هجرة من الوطن هرباً من الظلم وضيق العيش إلى أرض فيها عدل وسعة . فيسقط قول القائلين إنها هجرة من مكة إلى المدينة أغلق النبي e أبوابها بقوله: « لا هجرة بعد الفتح » . ناسين أن الهجرة إلى المدينة المنورة هي الثالثة في التاريخ الإسلامي ، سبقتها هجرتان إلى الحبشة كان القصد النبوي الوحيد في الأمر بهما هو أن في الحبشة سلطاناً عادلاً لا يُصَنِّفُ الناسَ بحسب عقائدهم ، وإنما بحسب قيمهم . وفي ضوء هذا الثابت أيضاً نفهم أن الهجرة تكليف يشمل كل القادرين عليها ، وأن القاعد عنه من أصحاب النار ، فيسقط بذلك قول القائلين بتحريم الإقامة والعمل والعيش في الأقطار غير الإسلامية([11]).
ويتفرع عن هذا الثابت الأصل ثابت فرعي آخر هو الهجرة في سبيل الله ، نراه في قوله تعالى: } إن الذين آمنوا والذين هاجروا وجاهدوا في سبيل الله أولئك يرجون رحمة الله والله غفور رحيم { ([12]) والسبيل في اللغة اسم مفرد يذكَّر ويؤنث جمعه سبل ، نجده في 176 موضعاً من القرآن الكريم ، معناه الطريق والطريقة وما وضح منهما والسبب والحيلة والمدخل والمخرج . وابن السبيل هو المسافر العابر الذي انقطعت به وسائل العودة إلى بلده . والسابلة هي الطريق المسلوكة وهي العابرون عليها . ولكل من هذه المعاني شاهد قرآني في التنزيل الحكيم يعرفه أهل التفكر والتدبر فلا نطيل .
ونلاحظ أن لفظ السبيل في مواضعه القرآنية يأتي مضافاً إلى مضاف إليه ، فهناك سبيل الطاغوت (النساء 76) ، وسبيل المؤمنين (النساء 115) ، وسبيل المجرمين (الأنعام 55) ، وسبيل المفسدين (الأعراف 142) ، وسبيل الرشد والغي (الأعراف 146) وسبيل الذين لا يعلمون (يونس 89) وسبيل من أناب (لقمان 15) وسبيل الرشاد (غافر 29 و 38) ، وهناك أخيراً سبيل الله في عشرات المواضع والآيات منها آية البقرة 218 التي نجد فيها أن الجهاد ـ سواء أكان جهاداً أكبر بمعناه العام الشامل أم جهاداً أصغر بمعناه المخصوص المحدد ـ وأن الهجرة ـ سواء أكان فيها سفر وانتقال إلى بلد آخر أم لم يكن ـ لا يكونان في سبيل الله إلا إن اقترنا برجاء رحمة الله ، ومن هنا فنحن نعتبر أن الحج هجرة والصلاة هجرة ، وطلب العلم هجرة ، والسعي في طلب الرزق هجرة . فهذه كلها هجرات ترجو رحمة الله : مغفرةً في الحج .. ومعرفةً في تحصيل العلم .. وتواصلاً مع الله في الصلاة .. وأموالاً تضمن رغد العيش في طلب الرزق ، ونعتبر أن الهجرة بهذا المنظور الواسع جهاداً ، كل من مات وهو يسلك أحد سبلها شهيد حسب حديثه e المشهور ، تماماً كالمقاتل في الحروب والمعارك .
وأما الثابت الرابع والأخير ، فهو العلاقة بين المسلم المهاجر ـ فرداً وجماعة ـ والسلطة الحاكمة في بلد المهجر ، فردية كانت لا انتخاب فيها ولا شورى كما في النظام الملكي أم مجلسية كما في النظام الجمهوري . هذه العلاقة التي تركها سبحانه ـ فيما نرى ـ توصيفاً وتعريفاً لمتغيرات المكان ومستجدات الزمان ، إنما ضِمْنَ خطوط عامة يَغْلِبُ عليها الطابع الأخلاقي كالأمر بالمعروف ولا يكون إلاَّ بمعروف ، وكالجدال ولا يكون إلا بالتي هي أحسن ، وكالدعوة إلى سبيل الله ولا تكون إلا بالحكمة والموعظة الحسنة ، وكاحترام حقوق الجار المخالف في دينه وعقيدته ولا تكون إلا كما يحب لنفسه ، ترسم للمسلم سلوكه في أي مجتمع يعيش فيه . وإذا كانت هذه الخطوط العامة ملزمة للفرد المسلم في مجتمع مسلم ، فإنها تصبح أكثر إلزاماً في المجتمعات غير المسلمة . ونحن ممن يرى أن قوله تعالى: } يا أيها الذين آمنوا إذا ضــربتم في سبيل الله فتبينوا ولا تقولوا لمن ألقى إليكم السلام لست مؤمناً تبتغون عرض الحياة الدنيا فَعِند الله مغانمُ كثيرة .. { ([13]) من أبرز النواظم السلوكية للمسلم في بلد المهجر ، خلافاً لرأي البعض في كتب التفسير من أن الآية موجهة للمحاربين ، وأن الضرب في سبيل الله قتال على وجه الحقيقة لا مجاز فيه .
ففي ضوء هذا الثابت لا بُدَّ من التمييز بين الأقسام الثلاثة للمسلمين في الأقطار غير الإسلامية ، لأن المسلم الوافد المهاجر ـ سواء كان حاصلاً على حق الإقامة والعمل أم غير حاصل ـ لا دور له في تسمية السلطان الحاكم في بلد المهجر ، ملكاً كان هذا الحاكم أم رئيساً للجمهورية ، أمَّا إذا حصل على الجنسية فشأنٌ آخر .
وفي ضوء هذا الثابت أيضاً لا بُدَّ من تعريف البيعة ، التي هي بدلالة اسمها عقدٌ بين طرفين ، يتعهَّدُ الطرف الأول بموجبه بأمر أو بأمور ، ويتعهد الطرف الثاني بالمقابل بأمر أو بأمور . مثاله قوله تعالى: } إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة .. { ([14]). فنحن مع الآية أمام صفقة وبيعة وعقد ، يتعهد فيه المؤمنون بتقديم أنفسهم وأموالهم لتكون كلمة الله هي العليا، ويتعهد سبحانه فيه مقابل ذلك بأن لهم الجنة . ومن هنا فنحن نرى أن العلاقة بين الحاكم ومحكوميه ، وبين الملك والأمير أو السلطان ورعاياه ، وبين رئيس الدولة ـ جمهورية كانت أم غير ذلك ـ ومواطنيه ، إنما هي علاقة تعاقدية بين طرفين ، لا دخل للمعتقد الديني فيها، تماماً كما رآها جان جاك روسو في كتابه الشهير ( العقد الاجتماعي) .
نقول هذا وأمامنا العقد الذي أبرمه رسول الله e مع يهود يثرب وما حولها ، وبايعوه فيه على خمسين بنداً ونيف دون أن يؤمنوا بأنه رسول الله . وأمامنا عقد صلح الحديبية مع مشركي قريش ، يتعهد فيه النبي e بالعودة دون الوصول إلى البيت الحرام مع أمور أخرى ، ويتعهد المشركون بالمقابل بالسماح له بدخول البيت الحرام في العام التالي مع أمور أخرى دون أن يؤمنوا بالله ورسوله .
تلك جملة ثوابت ينبغي ألا يغيب عنها الباحث المتأمل وهو يوصِّفُ مشاكل المسلمين في الأقطار غير الإسلامية ويتصدَّى لاقتراح الحلول لها ، بعد وضع التعاريف اللازمة ، واجتناب الخلط بين الولاء الوطني والانتماء القومي والمعتقد الديني . ولعلَّ من المفيد ـ كيلا يتحوَّل بحثنا هذا إلى تنظيرٍ جاف ـ أن نُطَبِّقَ عملياً ما قُلْنَاهُ نظريَّاً ، بأن نُلْقِيَ بعضَ الضوءِ على نموذج من الإشكالات التي عانى منها مؤخراً المسلمون في فرنسا ـ مواطنين ووافدين مهاجرين ـ ونعني به مشكلة حظر الحجاب بقوة القانون في المدارس الرسمية الفرنسية ، وكيف تمَّ توصيفها ومعالجتها ..
بتاريخ 10/2/2004 فجَّرَ مجلس النوَّاب الفرنسي مشكلة عند مسلمي فرنسا ــ مقيمين ومواطنين ــ حين أقرَّ قانوناً يقضي بمنع الرموز الدينية في المدارس العامة هي : الصلبان الكبيرة عند المسيحيين، وقلنسوة الرأس عند اليهود وحجاب المرأة عند المسلمين . ولعلَّ من المفيد هنا أن نشير إلى أن عدد المسلمين الإجمالي في فرنسا يبلغ خمسة ملايين بينهم مئة ألف من أصل فرنسي . وأن عدد النساء المسلمات في فرنسا يبلغ مليوني امرأة تقريباً . وهذا يعني أن الإسلام هو الدين الثاني في فرنسا بعد الكاثوليكية .
ولقد قُوبِلَ إقرارُ هذا القانون بردود فعل متباينة داخل فرنسا وخارجها ليس من المسلمين فحسب ، بل من أتباع الديانتين المسيحية واليهودية . فالبابا يوحنا بولس الثاني أعلن عن استيائه من القانون لما فيه من وضع قيود على الأديان ، والكاردينال راتزينغر من ألمانيا قال : ( قد أمنع أو لا أمنع فتاة مسلمة من ارتداء الحجاب ، لكني لا أسمح لأحد بأن يمنع ارتداء الصليب ، لاسيما وأنه يرمز بشكل عام إلى التسامح) أهـ. وما يهمنا هنا بالذات هو ردة فعل المسلمين داخل فرنسا وخارجها على مسألة منع الحجاب ، التي تباينت بدورها بين مؤيد مثاله الأول دليل أبو بكر رئيس المجلس الإسلامي في فرنسا حين قال : ( إن المسلمين جزءٌ من الجمهورية الفرنسية ويجب أن يتقيدوا بقوانينها . إني سأحترم قانوناً يمنع الحجاب في المدارس شريطة ألا يُطَبَّقَ بشكلٍ فظ ) أهـ. ومثاله الثاني شيخ الأزهر محمد طنطاوي حين قال : ( إن القرار الفرنسي بمنع الحجاب أمر يخص المواطنين الفرنسيين ، وإن من حق الدولة الفرنسية أن تعمل لصالح بلدها ، ولهذا لا يحق لأحد الاعتراض عليه ) أهـ. ثم دعا إلى اجتماع للتشاور في إصدار فتوى تعطي المرأة المسلمة رخصة رفع الحجاب إذا كانت تعيش في بلد غير إسلامي . وبين معارض معتدل مثاله الشيخ أحمد كفتارو مفتي الجمهورية العربية السورية حين قال في رسالة وجَّهها إلى الرئيس الفرنسي جاك شيراك : ( إن الأمة الإسلامية تنظر إلى الحجاب على أنه من أسس دينها وليس مجرد مظهر أو عادة .. ولهذا فإن حظر ارتداء الحجاب يعد إجراء غير مناسب أطالب الحكومة الفرنسية بإعادة النظر فيه ) أهـ. وبين معارض متشدد متطرف مثاله الدكتور محمد سعيد البوطي بن الملا رمضان حين اتهم شيخ الأزهر في إحدى خطب الجمعة بأنه ( موظف عاهد الشيطان أن يكون وليَّاً له لا وليَّاً لله عزَّ وجل ، ثم عاهد أعداء الله سراً وعلانية أن يمزق كل ما يمكن تمزيقه من مبادئ دين الله في كل مناسبة ) . ولم ينسَ سماحته ـ كعادته ـ أن يرى أن الذي منع شيخ الأزهر من بيان حقيقة موقف العلمانية من الحجاب هو عهده الذي قطعه على نفسه بين يدي الصهيونية .
وبين واصف مغالٍ مثاله الدكتور يوسف القرضاوي ، فقد اعتبر قرار حظر الحجاب في المدارس الفرنسية الرسمية حرباً على الإسلام والمسلمين ، وبين مهاجم كالشيخ أحمد الزين ممثل تجمع علماء المسلمين في لبنان ، لقد هاجم شيخَ الأزهر على فتواه ودعاه إمَّا إلى التراجع عما أفتى به أو إلى الاستقالة من منصبه . وأما الشيخ محمد الأطرش مؤسس حزب المسلمين في فرنسا ، فقد شارك في مظاهرة جابت شوارع باريس وستراسبورغ تحت لافتات كُتِبَ عليها ( الموت لليهود ) ، بينما راح ينادي بمكبر الصوت ( لقد انتخبناك يا شيراك لكنك خُنتنا).
إننا ونحن نتأمل اليوم ـ بعد مرور أكثر من عامين على ولادة المشكلة ـ ما آلت إليه الأمور ، وما توصل إليه المعارضون والمؤيدون من حلول واقتراحات ، تأخذنا الدهشة مكتشفين أن المسألة نامت كجميع المسائل الأخرى في الأدراج ، وأن جميع ردود الفعل الحماسية على المنابر أخذها الفتور ، وأن جميع من خطبوا وكتبوا حول المشكلة ، مكفرين غيرهم من الأئمة تارة ، أو داعين إلى إعلان الحرب على فرنسا ومقاطعة بضائعها تارةأخرى ، أو موظفين للمسألة في سوق الانتخابات وحوانيت السياسة ، نسوا أن يضعوا لها حلاًّ أو أن يقترحوا لها مخرجاً .
إن أهم ما يجب على من يتصدَّى لبحث مسألة حظر الحجاب في المدارس الرسمية الفرنسية ، واقتراح الحلول لها ، هو ألا يغيب عن قوله تعالى: } يا أيها الذين آمنوا كونوا قوَّامين لله شهداء بالقسط ولا يجرمنكم شنآن قوم على ألا تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوى .. { ([15]) وهذا يدعونا إلى ملاحظة جملة أمور ، إن نحن قصدنا أن نكون فعلاً وحقاً : }قوامين لله شهداء بالقسط {
أ- قرار الحظر اقتصر على المدارس الرسمية الفرنسية ولم يتجاوزها إلى المدارس والمعاهد الخاصة .
ب- واقتصر على مكان التعليم في المجتمع وهو المدرسة ، ولم يتجاوزه إلى المعمل والمكتب والشارع والسوق .
ج- وشمل رموزاً أخرى كالصلبان عند المسيحيين والقلنسوات عند اليهود ، ولم يتعمد تخصيص الحجاب بالحظر حصراً .
د- عدد المسلمين في فرنسا خمسة ملايين تقريباً ، مليونان منهم إناث والباقي ذكور لكن قرار الحظر لا يشمل كل الإناث في فرنسا ، بل يقتصر أثره على 10-20 ألفاً منهن هُنَّ المَعْنِيَّاتُ بالقرار في المدارس الرسمية الفرنسية ، ولا يمس الذكور لا من قريب ولا من بعيد . والمجتمع الفرنسي العلماني يرى في مظاهرات الذكور احتجاجاً على قرار يمس الإناث تدخلاً فيما لا يعنيهم ووصايةً للرجل على المرأة لا محل لها عندهم .
هـ- إن اتهام الآخرين بالعمالة وتكفيرهم دون بينة ـ كما فعل الدكتور البوطي وغيره ـ لا يحل مشكلة ، بل يساهم في قيام مشكلة جديدة لا يُقِرُّها أحد .
و- إذا جاز استعمال المجاز والكناية والتشبيه في خطاب عوام المسلمين لإثارة حماسهم ومشاعرهم ، فهو لا يجوز في خطاب غير المسلمين أو في خطاب خواصهم . ومن هنا كان وصف الدكتور القرضاوي لقرار حظر الحجاب بأنه حرب على الإسلام والمسلمين ، لن يفهم منه الفرنسيون سوى أنه تحريض على العنف .
ز- إن توظيف مسألة حظر الحجاب في مجال الانتخابات والمقاصد السياسية ـ كما فعل الشيخ الأطرش في باريس ـ تحريفٌ لها عن مواضعها ، سيضلل الباحثين عن الحلول ويساهم في قيام مشكلة جديدة ، تماماً كتراشق الاتهامات بالكفر والعمالة .
فإذا نحن لاحظنا ذلك كله ، وانطلقنا من الثوابت الأربعة المذكورة سالفاً بالتفصيل وخصوصاً الثابت الرابع الذي يرسم العلاقة بين الجماعة المسلمة والسلطة الحاكمة في البلد غير الإسلامي ضمن إطار بيعة وعقد اجتماعي ، نكون قد وضعنا العجلات على السكة الصحيحة تمهيداً للوصول إلى حل .
مسألة حظر الحجاب في فرنسا ليست مسألة دينية لبست ثوباً سياسياً ، كما صوَّرتها رسالة الشيخ أحمد كفتارو ـ رحمه الله ـ إلى الرئيس جاك شيراك ، لأنها لو كانت كذلك لكان على الأمة الإسلامية التصدِّي لتركيا العلمانية التي حظرت الحجاب منذ عام 1924 ، ليس فقط في المدارس الرسمية كما فعلت فرنسا بل في الجامعات والبرلمانات والدوائر العامة أيضاً . ولو أنها كذلك لوجب التصدي لتونس الإسلامية العربية التي تحظر الحجاب منذ سنين وسنين رغم عضويتها في منظمة المؤتمر الإسلامي ، ولم نسمع أن أحداً من الأئمة أعلن عليها الحرب أو اتَّهمها بالكفر أو طلب منها إلغاء ما ذهبت إليه !
لماذا اكتفى بعض العلماء في العالم الإسلامي بإعلان الويل والثبور وعظائم الأمور على ما فعلت فرنسا ، وسكت على ما فعلت تركيا وتونس ؟
ومسألة حظر الحجاب في فرنسا ليست مسألة سياسية لبست ثوباً دينياً ، كما رآها شيخ الأزهر ثم خلص بناءً على هذه الرؤية إلى فتواه الشهيرة ، لأنها لو كانت كذلك لَصَحَّتْ فتوى شيخ الأزهر بأن فرنسا حرة في إصدار ما شاءت من قوانين وليس لأحد أن يعارضها أو أن يعترض عليها .
لقد غاب الدكتور الطنطاوي عن أن المسألة ـ رغم ما فيها من خيوط دينية وسياسية ـ مسألة عقد اجتماعي لا علاقة له بالدين ولا بالسياسة .
فالمسلمون في فرنسا ـ مواطنين ووافدين ـ حين اختاروا الأرض الفرنسية وطناً لهم وبايعوا الدولة الفرنسية على الولاء وطاعة القوانين مقابل أن تضمن لهم حقوق المواطنة والمساواة والحماية وحرية الرأي والمعتقد ، إنما فعلوا ذلك في ظل مجموعة قوانين نافذة وافقوا على التقيد بها ليس من بينها حظر الحجاب . وبناءً عليه فإن فرنسا ـ كدولة ترحب بالهجرة والمهاجرين إليها لعدد من الأسباب أهمها رخص أجور العمالة الوافدة ـ ليست حرة في إصدار ما تشاء من قوانين دون موافقة الطرف الآخر في العقد الاجتماعي وإن للمهاجرين المسلمين حق الاعتراض بكل الوسائل السلمية والقانونية المتاحة إن هي فعلت ذلك .
قد يخطر لبعض المتفرنسين أمثال : فضيلة عمارة رئيسة المنظمة الفرنسية لحقوق الفتيات المسلمات ، وطارق رمضان المفكر الإسلامي السويسري ، وطاهر بن جلون الكاتب الفرنسي الشهير ، أن يزعموا أن قانون حظر الحجاب في المدارس الرسمية الفرنسية أقره مجلس النواب الفرنسي بتاريخ 10/2/2004 ، بموافقة 494 نائباً ومعارضة 36 نائباً وامتناع 31 نائباً عن التصويت ، لهؤلاء نقول : وهل في مجلس النواب الفرنسي أعضاء يمثلون المسلمين في فرنسا مواطنين ووافدين ؟ إننا نشك في وجود مثل هؤلاء الأعضاء ونحن نسمع الرئيس الفرنسي جاك شيراك في خطابه يوم 16/12/2003 يصف فرنسا بأنها ( أرض استضافت الفرنسيين المسلمين ) ، ويصف بلدان المغرب العربي بأنها ( مستعمرات فرنسية جاء مواطنوها إلى فرنسا لينضموا إلى قافلة المهاجرين الأوروبيين الآخرين).
ثمة أمر أخير بالمقابل تفيد الإشارة إليه ، هو أن حجاب المرأة في الإسلام ، رغم كونه أمراً إلهياً ورد في قوله تعالى: } يا أيها النبي قل لأزواجك وبناتك ونساء المؤمنين يدنين عليهن من جلابيبهن ذلك أدنى أن يعرفن فلا يؤذين وكان الله غفوراً رحيماً { ([16])، ثم جاءت السنة النبوية المطهرة لتبين عملياً سبل تطبيق هذا الأمر وتفاصيله إلا أنه يبقى في المرتبة الثانية من حيث الأهمية فلا يرقى إلى مرتبة الأركان الخمسة التي بُنِيَ عليها الإسلام ، حسب تعبيره e في حديث مشهور ، وآخرها » حج البيت من استطاع إليه سبيلا».
لقد لحق أداء عبادة الحج في يومنا هذا الكثير من التحسينات لم يعرفها المسلمون في العصر النبوي ، غايتها الحفاظ على سلامة الحجاج وضمان أمنهم ، وقصدها تسهيل قضاء المناسك لأكبر عدد ممكن من الناس ضمن حدود طاقة المكان على الاستيعاب . مثال هذه التحسينات الأول : بناء طوابق للطواف حول الكعبة المشرفة ؛ وبناء جسور لرمي الجمرات بعضها فوق بعض ، يتضاعف معها عدد الطائفين والراجمين دون تدافع وتزاحم . ومثالها الثاني ، تحديد أعداد الحجاج لدى كل دولة إسلامية كي يتمكن القائمون على شؤون الحج من استقبالهم وإطعامهم وإرشادهم وعلاج مرضاهم والسهر على أمنهم في غدوهم ورواحهم ، رغم ما يتوهم الناظر السطحي لهذا التحديد أن فيه صداً عن المسجد الحرام الذي ليس لأحدٍ أن يمنع أحداً ـ من حيث المبدأ ـ من قصده والتوجه إليه .
فإذا كانت السنة الحسنة جائزةً في أداء عبادة الحج ـ وهو من أركان الإسلام كما ذكرنا ـ أفلا تجوز في الحجاب وقد اختلفت الألوان والبيئات والمناخات ؟ بحيث لا يثير ولا يشير ، ولا يصف ولا يشف ، ولا يُقصي ولا يُعمي ، وبحيث يقبله ما اتفق عليه الفقهاء ودور الإفتاء ، وما تستسيغه الفطرة الغرَّاء ، وما تميل إليه طبيعة الرجال والنساء مع اختلاف أبناء البشرية جمعاء وضمن شعبة من شعب الإيمان ألا وهو ( الحياء ) ؟
هناك مسائل عديدة أخرى يعاني منها المسلمون في البلدان غير الإسلامية ، منها ما هو شائع في البلدان الإسلامية ، ومنها ما هو مُهِمٌّ كمسألة الحجاب ، وهي الهجرة والعمل والحصول على الجنسية والخضوع بعدها لقوانين التجنيد الإجباري ، وكذلك الانطواء والانزواء والانسلاخ عن المجتمع بالعيش في أحياء مغلقة ، نذكر منها على سبيل المثال مشكلة عانت منها الأقلية المسلمة الهندية في الجيش البريطاني أيام احتلاله للهند ، والأقلية المسلمة المغربية في الجيش الفرنسي أيام الحرب العالمية الثانية حين تشكلت ( الفرقة الأجنبية ) و ( جيش الشرق ) ، والأقلية المسلمة في الجيش الأمريكي في العراق وهم يرون أنفسهم غُزَاةً محتلين يجتاحون بلداً مسلماً بزعم مزيفٍ ثَبَتَ كذبُه فيما بعد.
([1]) الروم/ 22.
([2]) الحجرات: 13.
([3]) البقرة: 251.
([4]) الغيتو ghetto اسم مفرد جمعه غيتويات ghettoes ، وهو كل حي في مدينة من المدن تقطنه أقلية من عرق واحد أو قومية واحدة أو ديانة واحدة ، ترغمها على السُّكنى فيه ضغوطات اجتماعية أو اقتصادية أو سياسية . شاعت هذه المفردة في القرن السابع عشر بمعنى »الحي اليهودي« . انظر معجم ويبستر ص490.
([5])نشير هنا إلى إحصائية قام بها د. محمد محمدين عام 1986 ، وإلى محاضرة الشيخ محمد علي التسخيري في مؤتمر الأقليات الإسلامية بباريس بتاريخ 11/1/2001 ، وإلى محاضرة د. لينه الحمصي في الندوة الدولية بدمشق بتاريخ 28/12/2005 في مجمع الشيخ أحمد كفتارو ، بالتعاون مع جامعة دوشيشا اليابانية تحت عنوان »الإسلام والمسلمون في البلدان غير المسلمة « . ورد فيها أن عدد المسلمين في العالم هو مليار و 350 مليون ، منهم 450 مليون مسلم يعيشون كأقليات في بلدان غير إسلامية .
([6]) المائدة: 51.
([7]) البقرة: 44 .
([8]) آل عمران: 159.
([9]) آالنساء : 97 و98 .
([10]) النساء: 100.
([11]) يقول الدكتور محمد سعيد البوطي بن الملا رمضان على ص203 من كتابه «قضايا فقهية معاصرة» : ( من الواضح أن تجنس الإنسان بجنسية دولة من دول الكفر ومكثه في تلك الدولة من أبرز مظاهر هذه الموالاة التي شَدَّدَ الله في التحذير منها ، بل إن التجنيس يزيد على الإقامة في الإعلان عن هذا الولاء ) ثم ينتهي على ص208 إلى القول : ( والخلاصة أن انتماء المسلم إلى جنسية بلد أو دولة غير مسلمة مع الإقامة فيها مُحَرَّم حرمة ذاتية لا يعارضها ولا يغالبها أي من المبررات العارضة التي قد يسميها بعض الناس ضرورة .. ) أهـ. وهذا قولٌ عجيب أياً كان مستنده ومرجعه ، يتصدى لتعطيل ثابت من الثوابت القرآنية لا يختلف فيه مؤمنان ..
([12]) البقرة: 218.
([13]) النساء: 94.
([14]) التوبة: 111.
([15]) المائدة: 8 .
([16]) الأحزاب: 59 .