أوليات حول دراسة الدولة الإسلامية والسلطات الثلاث
أوليات حول دراسة الدولة الإسلامية والسلطات الثلاث
عبد الرزاق هادي الصالحي ـ قم
بسم الله الرحمن الرحيم
تمهيد:
ان دراسة الدولة الإسلامية المباركة بقدراتها الحضارية والرسالية تستلزم ارتكاز جملة من الأمور التي تقع في دائرة اقرب إلى اليقين منه إلى التكّهن فيما إذا اعتمد الباحث والدارس التجربة الرائدة ـ الدولة النبوية المباركة ـ كمثال يحتذي وحيث قد تم فيها وضع الأسس والصياغات الأولى لهذه الدولة وآلياتها ومنهاج تحركها وتعاملها داخليا وخارجياً، ومن ثم التجربة الإسلامية لفترة الخلافة الراشدة التي امتدت حتى الصلح الذي فرضته ظروف قاهرة على الإمام الحسن عليه السلام لتكون تلك الخلافة كرة يتلاقفها صبيان بني أمية الذين أشربوا الروح الجاهلية وملؤوا أحقادا وأضغاناً(1) على الرسالة والمسلمين على طول فترتهم التي ساموا الناس الذل فيها والتي امتدت من سنة 41 هـ ـ 132 هـ حيث قيام دولة أخرى لا تقل عتوا عنها ان لم تكن تجاوزت حدودها في كثير من مفاصل السلطة الغاشمة أو التحكم الطاغوتي في حياة الأمة الإسلامية.
___________________________
1ـ سيد قطب، العدالة الاجتماعية في الإسلام، طبع لجنة الجامعين، مصر بدون تاريخ ص 183ـ 190.
ـ(250)ـ
وفي محاولتنا هذه عمدنا إلى وضع أوليات لدراسة الدولة الإسلامية وآلية عمل السلطات فيها متبعين منهج المقارنة بين الرؤية الوضعية التي أسست وفقا لها الدولة الحديثة وبين تجربتي الحكم الإسلامي ـ الحكومة النبوية ـ وفترة الحكم الراشدي علنا في ذلك نضع أساسا لدراسات أوسع وأعمق في هذا المجال، ولم نغفل تحديد المصطلحات المتداولة في هذا المضمار مشيرين إلى التوافق فيما ذهب إليه مشرعو القانون الوضعي قديما وحديثا وما تضمنته «وثيقة المدينة» التي حدد فيها الرسول صلّى الله عليه وآله وسلم أركان الدولة ومرجعيتها الفكرية وطرق تعاملها فضلا عما أخذناه من الواقع الفعلي لتطبيق الإسلام أبان العهد النبوي المبارك وفترة الخلفاء بعده. والله ولي التوفيق.
مفهوم الدولة:
لم يتفق علماء القانون الوضعي على تعريف موحد لـ «الدولة» إذ نجد لكل منهم تعريفا خاصاً لها يختلف عن غيره.
فالفقيه «ديجي» يرى جواز إطلاق كلمة الدولة على كل تنظيم للجماعة السياسية في أي مجتمع من المجتمعات، ولو كان هذا المجتمع بدائياً، لتوافر وجود جماعة حاكمة، وأخرى محكومة خاضعة لا وأمر الجماعة الحاكمة.
ووفقا لهذا المفهوم يكنون نشأة الدولة الإسلامية بقيادة الرسول الأكرم صلّى الله عليه وآله وسلم في مكة حيث اتسع الحيز الذي يخضع ويتلقى توجيهاته وتعليماته من الرسول صلّى الله عليه وآله وسلم.
فالبعض هاجر إلى الحبشة بأمره، والآخر هاجر إلى المدينة قبل هجرة الرسول صلّى الله عليه وآله وسلم، ووزع الجماعة المؤمنة على أطراف مكة وخارج حدود الجزيرة تبشيرا بالدعوة والرسالة الجديدة.
ويعرف علماء القانون الدستوري الدولة تعريفات تختلف حسب المعايير التي يضعونها لمفهوم الدولة.
ـ(251)ـ
ـ يعرف الفقيه الفرنسي «كاريه دي مبلر» الدولة بأنها مجموعة من الافراد مستقرة على إقليم معين ولها من التنظيم ما يجعل للجماعة في مواجهة الافراد سلطة عليا آمرة وقاهرة(1).
ـ وأما الفقيه السويسري «بلنتشلي» فيرى أنها:
«جماعة مستقلة من الافراد يعيشون بصفة مستمرة على أرض معينة بينهم طبقة حاكمة وأخرى محكومة»(2).
وبملاحظة التعريفين الأخيرين ترتسم عمومية مدلول لفظ «الدولة» فتشمل التعريف الأول في المدلول والمعنى جماعة خاضعة ومطيعة لشخص أو جماعة، فهي محكومة بالأخيرة لمن تعتقد بقيادته لها.
كما ان الأستاذ «بونا» يجد أن الدولة هي: «وحدة قانونية دائمة تتضمن وجود هيئة اجتماعية لها حق ممارسة سلطات قانونية معينة في مواجهة أمة مستقرة على أقليم محدد، وتباشر الدولة حقوق السيادة بإرادتها المنفردة عن طريق استخدام القوة المادية التي تحتكرها»(3).
فوفقا لهذا التعريف يتحدد كيان الدولة بسيادة واستخدام القوة المحتكرة من قبل السلطة أو الهيئة الحاكمة، فلا يصح إطلاق دولة على جماعة تلتزم قيادة شخص أو هيئة اجتماعية داخل كيان ذا سيادة وسيطرة وعلاقات خارج حدود سيادته فتكون الجماعة الإسلامية بقيادة الرسول صلّى الله عليه وآله وسلم في مكة مجتمع التوحيد الملتزم بخط الرسالة المعارض لوثنية الجاهلية مبادئ وأحكاما وسلوكا.
___________________________
1ـ د. الشبهان، محمد فاروق، نظام الحكم الإسلامي ص 38، جامعة الكويت إعادة طبع 1981 م.
2ـ د. الشبهان، م. س ص 28.
3ـ د. ملحم قربان، المنهجية السياسية، دار العلم للملايين، بيروت ط 3، 1977 ص 328.
ـ(252)ـ
بيد ان هذا التعريف يكون مدلوله هو الدولة الإسلامية التي أسست بعد الهجرة النبوية المباركة إلى المدينة واتخاذ المسجد مقرا لها للحكم والقضاء وقيادة الجيش وكتابة العهود والمواثيق مع أهل الكتاب وإرسال المبعوثين إلى ملوك ورؤساء فارس والروم والحبشة.
وقد قامت الدولة الإسلامية الأولى مجسدة في شخص النبي صلّى الله عليه وآله وسلم بما هو نبي ـ حاكم ـ بعد أن استكملت منذ ذلك الحين عناصر الدولة في أحدث مفاهيمها المعاصرة.
الشعب، الأمة الإسلامية(الأنصار والمهاجرين).
الإقليم، الأرض وكانت المدينة المنورة ثم اتسعت لتشمل إنحاء الجزيرة العربية.
السلطة، تمثلت في قيادة الرسول الأكرم صلّى الله عليه وآله وسلم.
والقوانين الواحدة ـ مبادئ الرسالة الإسلامية ـ لجميع أفراد الشعب من دون تمييز بين فرد وآخر(1).
ولم يقع فصل بين السلطات الثلاثة أبان العهد النبوي المبارك، فالنبي الحاكم كان يمارسها جميعاً.
وقد مارس النبي مهمات الحكم والقيادة باعتباره نبياً رسولاً من عند الله، وليس بأي اعتبار آخر.
ولما كانت ولادة الدولة الإسلامية والحكومة الإسلامية بوصول النبي إلى المدينة فقد باشر على الفور مهمات القيادة والحكم السياسي إلى جانب مهمات الرسالة والنبوة وهي التبليغ والإرشاد وعلى أساس كونه نبياً رسولاً، فقد اجتمع في شخصه الشريف
___________________________
1ـ شمس الدين، محمد مهدي، الاجتماع السياسي في الإسلام ص 159 دار الثقافة، قم، ط 1، 1414 هـ.
ـ(253)ـ
السلطة الزمنية والسلطة الدينية، ومضى النبي يصنع المجتمع والدولة على عين الله وعلى هدي الوحي، ولم يمضي وقت طويل حتى تكامل البناء التنظيمي للمجتمع، تحت قيادته المباركة.
السلطة:
هي القوة السياسية التي تدعمها مبررات وتساندها مسوغات لاقوية»(1).
وتمثل السلطة السياسية الركن الرئيسي من أركان الدولة إذ لا يمكن لدولة أن تطلق على نفسها أسم الدولة، وتتوافر لها عناصر الدولة إلا بعد ان تتكون فيها هيئة سياسية تمارس السلطة على الشعب، لأن اسم الدولة يوحي دائماً بفكرة السلطة والتنظيم السياسي، الذي يكفل حماية القانون وتأمين النظام(2).
السيادة:
السيادة هي الصفة التي تتصف بها السلطة السياسية ومعناها ان السلطة السياسية، مستقلة تمام الاستقلال لا تخضع لأية مؤثرات خارجية، تؤثر في مدى سلطانها على إقليمها(3).
السيادة هي ـ بالفعل واقع ولكنها من الزاوية القانونية(فقه القانون) ـ المميزة الرسمية التي تجعل قانونا أو مجموعة من القوانين، والقواعد جزءا من النظام الوضعي)(4).
ويتفرّع عن حق السيادة أنها تنقسم إلى قسمين:
___________________________
1ـ د. ملحم قربان، المنهجية السياسية ص 328.
2ـ د. النبهان، محمد فاروق، نظام الحكم، ص 24، جامعة الكويت 1987.
3ـ د. النبهان، م س، ص 24 ـ 25.
4ـ د. ملحم قربان، م س، ص 328.
ـ(254)ـ
1 ـ السيادة الداخلية:
أن الدولة تتمتع بسلطة علياً تسمو على جميع السلطات الأخرى، فلا يجوز ان يوجد داخل الدولة سلطة أخرى أقوى من سلطة الدولة، وان سيادة الدولة الداخلية تقتضي ان تكون أوامرها نافذة المفعول على جميع المواطنين الذين يعيشون داخل الدولة(1).
2 ـ السيادة الخارجية:
أي ان الدولة لا تخضع لأية سلطة خارجية أي انها تتمتع «بالاستقلال السياسي»(2).
فشرعية السلطة وسيادة الدولة الإسلامية ليست على غرار الحكومات والدول ذات القانون الوضعي، فسلطة وشرعية الدولة فيها تستمد من الشعب أو القوة والاستبداد، في حين ان الشرعية والسيادة للسلطة والدولة الإسلامية تستمد من العقيدة الإسلامية ومبادئها ومفاهيمها.
فهدفها الأول ـ أي الدولة الإسلامية ـ هو حماية الرسالة ومحاولة نشرها في الأرض على أوسع مساحة ممكنة، فالسيادة لله وحده ومهمة الحكومة الإسلامية هي إقامة حكم الله في الأرض.
وسند هذه الشرعية أمر الله سبحانه بطاعة الرسول وأولي الأمر قال تعالى ﴿أَطِيعُواْ اللّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ﴾.
وبنص وتطبيق أحكام الله يستمد ولي الأمر مشروعية تصرفاته، وتكون الطاعة على الأمة وفقا لذلك واجبة لـه.
___________________________
1ـ د. النبهان: م س، ص 25.
2ـ د. النبهان: م س، ص 25.
ـ(255)ـ
منابع القدرة في الدولة الإسلامية:
وهو بحث في القدرات الهائلة التي تتميز بها الدولة الإسلامية في مجال التطوير الحضاري للأُمة والقضاء على أوضاع التخلف(1)، والنهوض بها لأداء دورها الرسالي العالمي.
ان الدولة الإسلامية تارة تدرس بما هي ضرورة شرعية وتجسيداً لدور الإنسان في خلافة الله، وأخرى تدرس على ضوء هذه الحقيقة ولكن من ناحية معطياتها الحضارية العظيمة وقدراتها الهائلة التي تميز بها عن أي تجربة اجتماعية أخرى.
فدراسة الدولة الإسلامية على ضوء تلك الحقيقتين المنهج الوحيد الذي يمكنه تفجير طاقات الإنسان في العالم الإسلامي والارتفاع به إلى مركزه الطبيعي على صعيد الحضارة الإنسانية وإنقاذه مما يعانيه من مظاهر التشتت والتبعية والضياع(2) التي زامنت مظاهر السيطرة والتبعية السياسية والفكرية التي سبقت بالاحتلال العسكري للعالم الإسلامي وتجزئته وترسيم حدود تفصل أقطاره عن بعضها بلحاظ ان لكل قطر من الأقطار نظاما في الحكم يمتاز عن غيره وان كان قاسمها المشترك التبعية للاستكبار الغربي.
فتأسس على ضوء ذلك القهر السياسي والاستبداد الذي كان مظهره الحكومات العسكرية المتعاقبة في معظم بلدان العالم الإسلامي حيث لا مدلول في قاموسهم السياسي والأخلاقي، لكرامة الإنسان وحريته الفكرية والاجتماعية فضلا عن السياسة المختزلة فغيبت إرادة الإنسان وكيانه باستبعاد المبادئ الإسلامية عن ممارسة دورها في حياة الإنسان المسلم، وبالتالي فقد الإنسان المسلم هدفه الأكبر في الحياة وانعكس
___________________________
1ـ محمد المبارك، نظام الإسلام، الحكم والدولة، ص 23 منظمة الأعلام الإسلامي، إيران – 1404 هـ.
2ـ الصدر، السيد الشهيد محمد باقر v الإسلام يقود الحياة الإرشاد الإسلامي ص 175.
ـ(256)ـ
ذلك وتمظهر سلبية شملت جوانب حياته وميادينها المختلفة والى ذلك يعزى إخفاق وفشل تجارب التنمية في بعض بلدان العالم الإسلامي التي استوردت من عالم الغرب والشرق لتنفذ على إنسان تغاير معادلته النفسية والاجتماعية، معادلة وتصورات الآخر التي أفرزتها مرجعية فكرية ترتكز محاولة(التجربة والخطأ).
الفكر السياسي الوضعي:
يقصد بالسلطات ـ وهي جمع سلطة ـ الأجهزة الاجتماعية التي تمارس السلطة كالسلطات السياسية والتربوية والدينية والسلطات القضائية وغيرها(1). وقد أسس الفكر السياسي الوضعي ـ قديمه وحديثه ـ على منهجين:
الأول: منهج عقلي يصدر فيه المفكر عن مبادئ عقلية ليحكم الحوادث وينظمها.
الثاني: «منهج تاريخي يبدأ من الحوادث ليصل منها إلى المبادئ»(2).
الدولة والسلطات الثلاث:
جرى الباحثون في العصر الحديث في أوروبا أولا ثم بعد ذلك الباحثون في البلاد الإسلامية على تقسيم السلطة إلى تشريعية وقضائية وتنفيذية وتبع ذلك البحث في فصل هذه السلطات بعضها عن بعض وإقامة نظام للتوازن بينها حتى لا تطغى واحدة على الأخرى وتطور الأمر في النظم الاشتراكية إلى هيمنة السلطة التنفيذية باعتبارها أداة الحزب التنفيذية على بقية السلطات، وتطور جهاز الدولة الحديثة بسبب تطور مفهوم الدولة ووظائفها تطورا كبيراً(3).
___________________________
1ـ د. شمران حمادي، النظم السياسية، شركة الطبع والنشر الأصلية، ط 2، بغداد 1970 ص 47.
2ـ د. محمد، علي عبد المعطي وزملاؤه، تطور الفكر الغربي ص 74 مكتبة الفلاح 1407 هـ 1987.
3ـ محمد المبارك، م س ص 118.
ـ(257)ـ
الجذور التاريخية للأخذ بمبدأ السلطات الثلاث:
أرسطو:
يقول أرسطو:
«في كل دولة ثلاث أجزاء إذا كان الشارع حكيما اشتغل بها فوق كل شيء ونظم شؤونها، ومتن أحسن تنظيم هذه الأجزاء الثلاثة حسن نظام الدولة كلها بالضرورة، ولا تختلف الدولة في حقيقة الأمر إلا باختلاف هذه العناصر الثلاثة:
الأول: من هذه الأمور الثلاثة إنّما هو الجمعية العمومية التي تتناول في الشؤون العامة.
الثاني: إنّما هو هيئة الحكام التي يلزم تنظيم طبيعتها واختصاصاتها وطريقة التعيين فيها.
الثالث: هو الهيئة القضائية(1).
يرى أرسطو أنه توجد في كل دولة ثلاث سلطات، لو أحسن تنظيمها حسن نظام الدولة كلها وهذه السلطات هي:
السلطة التشريعية
السلطة التنفيذية
السلطة القضائية(2).
جون لوك:
درج الكثير من الدارسين للفكر السياسي الوضعي على الحاق السلطات الثلاث بالمفكر الحديث جون لوك(3).
___________________________
1ـ أرسطو: السياسة: الكتاب السادس، الفصل الأول، الفقرة(1) الدار القومية، القاهرة 1952.
2ـ د. علي عبد المعطي وزملاؤه، م س، ص 71.
3ـ د. علي عبد المعطي وزملاؤه، م س، ص 71.
ـ(258)ـ
وتتلخص فكرة السلطات الثلاث حسب رؤية(جون لوك) ان السلطة تنقسم إلى ثلاث أقسام هي:
1ـ السلطة التشريعية:
واعتبر لوك هذه السلطة أهم وظيفة من وظائف الحكومة، ويجب أن تكون في يد ممثلي الشعب الذين يحصلون على هذا الحق بالانتخاب أو الوراثة(1).
2ـ السلطة التنفيذية:
وهي التي تنفذ القوانين وتخضع الافراد لطاعة الحكومة(2).
3ـ السلطة الفيدرالية:
وتتكون من ممثلين للمدن والمقاطعات يعينهم الملك وهم النواة الأولى لمجلس اللوردات الحالي في إنجلترا(3).
وان أهم فكرة سياسية لـ «جون لوك» أتي بها في الميدان السياسي هي فكرته عن فصل السلطات الثلاث عن بعضها(4).
مونتسكيو:
يقول مونتسكيو في كتابه «روح القوانين»:
«توجد في كل حكومة ثلاث سلطات، سلطة تشريعية، وسلطة تنفيذية، تنظر في المسائل المتعلقة بقانون الأمم، وسلطة تنفيذية تنظر في المسائل المتعلقة بالقانون المدني، السلطة الأولى تضع القوانين الوقتية والدائمة...، والثانية تعلن الحرب أو السلم وتصدر وتستورد وتحفظ الأمن العام، وتقاوم الغزو الخارجي.
والثالثة تعاقب المجرمين وتفض المنازعات التي تقوم بين المواطنين لذا
___________________________
1ـ د. علي عبد المعطي وزملاؤه، م س، ص 381.
2ـ د. علي عبد المعطي، م س، ص 381.
3ـ د. علي عبد المعطي، م س، ص 381.
4ـ د. علي عبد المعطي، م س، ص 393.
ـ(259)ـ
يستحسن ان نسمي السلطة الأخيرة باسم السلطة القضائية.
والواقع ان نظرية مونتسكيو عن فصل السلطات مأخوذة برمتها من الفيلسوف الإنجليزي جون لوك مع اختلاف في التسميات والترتيب(1).
روسو ومبدأ الفصل بين السلطات:
يرى جان جاك روسوا ان السيادة تنحصر فقط في السلطة التشريعية التي هي سيادة الشعب ولا يمكن ان تمارس إلا بواسطته، ويضيف إلى ذلك بأن السلطة التنفيذية ليس من خصائص السيادة على الإطلاق وإنّما هي تابعة للشعب ومندوبة عنه، لذا فإن فصل السلطتين التشريعية والتنفيذية بعضهما عن بعض أمر طبيعي لدى روسو كما أنه ليس من الحكمة ان يكون مشرّع القواني هو القائم على تنفيذها(2).
أما السلطة القضائية فلم يرروسو ان يقوم الشعب بممارستها لنفس الأسباب التي ذكرها عن السلطة التنفيذية.
وعد السلطة القضائية خاضعة للسلطة التنفيذية، فقد كان يرى وجوب خضوع القضاة كغيرهم من موظفي السلطة التنفيذية لنفس القوانين والقواعد العامة، كما سلم للشعب حق ممارسة العفو العام مع أنه عمل فردي ليست لـه صفة قانونية(3).
النظرية الإسلامية ونشأة الدولة:
ان الدولة ظاهرة اجتماعية أصيلة في حياة الإنسان وقد نشأت هذه الظاهرة على يد الأنبياء ورسالات السماء واتخذت صيغتها السوية ومارست دورها في قيادة المجتمع الإنساني وتوجيهه من خلال ما حققه الأنبياء في هذا المجال من تنظيم
___________________________
1ـ د. علي عبد المعطي ص 393.
2ـ د. دسوقي، إبراهيم اباطه، تاريخ الفكر السياسي ص 249، دار النجاح بيروت 1973.
3ـ د. شمران، حمادي، النظم السياسية ص 47، شركة الطبع والنشر الأهلية ط 2، بغداد، 1970.
ـ(260)ـ
اجتماعي قائم على أساس الحق والعدل يستهدف الحفاظ على وحدة البشرية وتطوير نموها في مسارها الصحيح(1).
«فمن ناحية تكون الدولة ونشؤوها تاريخيا نرفض إسلامياً نظرية القوة والتغلب ونظرية التفويض الإلهي الاجباري ونظرية العقد الاجتماعي ونظرية تطور الدولة عن العائلة ونؤمن بأن الدولة ظاهرة نبوية وهي تصعيد للعمل النبوي بدأت في مرحلة معينة من حياة البشرية»(2).
وقد استدل السيد الشهيد الصدر v بالنص القرآني المبارك على هذه الرؤية.
قال تعالى: ﴿كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ وَأَنزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُواْ فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلاَّ الَّذِينَ أُوتُوهُ مِن بَعْدِ مَا جَاءتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ فَهَدَى اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ لِمَا اخْتَلَفُواْ فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللّهُ يَهْدِي مَن يَشَاء إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ﴾(3).
ويشير مدلول النص «ان الناس كانوا أمة واحدة» في مرحلة تسودها الفطرة وتوحد بينها تصورات بدائية للحياة وهموم محدودة وحاجات بسيطة ثم نمت - من خلال الممارسة الاجتماعية ـ المواهب والقابليات وبرزت الإمكانات وتعددت الحاجات فنشأ الاختلاف وبدأ التناقض بين القوي والضعيف وأصبحت الحياة الاجتماعية بحاجة إلى موازين تحدد الحق وتجسد العدل وتضمن استمرار وحدة الناس في إطار سليم تصب تلك القابليات والإمكانات التي ضمتها التجربة الاجتماعية في محور إيجابي يعود إلى الجميع بالخير والرفاه والاستقرار بدلا من أن يكون مصدرا
___________________________
1ـ الصدر، م س، ص 3ـ 4.
2ـ السيد الشهيد الصدر، م س، ص 17.
3ـ سورة البقرة: 213.
ـ(261)ـ
للتناقض وأساس للصراع والاستغلال وفي هذه المرحلة ظهرت فكرة الدولة على يد الأنبياء وقام الأنبياء بدورهم في بناء الدولة السليمة ووضع الله تعالى للدولة أسسها وقواعدها(1).
كما اتضح ذلك في النص القرآني:
وظل الأنبياء يواصلون بشكل وآخر دورهم في بناء الدولة الصالحة، قد تولى عدد كبير منهم الاشراف المباشر على الدولة كالنبي داود وسليمان وغيرهما وقضى بعض الأنبياء كل حياته وهو يسعى في هذا السبيل كما في حالة نبي الله موسى واستطاع خاتم الأنبياء محمد بن عبد الله صلّى الله عليه وآله وسلم ان يتوج جهود سلفه الطاهر بإقامة أنظف واطهر دولة في التاريخ شكلت بحق منعطفا عظيما في تاريخ الإنسان وجسدت مبادئ الدولة الصالحة تجسيدا كاملاً ورائعاً(2).
وعلى الرغم من أن هذه الدولة قد تولاها في كثير من الأحيان بعد وفاة الرسول الأعظم صلّى الله عليه وآله وسلم قادة لا يعيشون أهدافها الحقيقية ورسالتها العظيمة، فإن الإمامة التي كانت امتدادا روحيا وعقائديا للنبوة ووريثا لرسالات السماء مارست دورها في محاولة تصحيح مسار هذه الدولة وإعادتها إلى طريقها النبوي الصحيح وقدم الأئمة من أهل البيت عليهم السلام في هذا السبيل زخماً هائلاً من التضحيات التي توجها استشهاد أبي الأحرار وسيد الشهداء أبي عبد الله الحسين عليه السلام مع الصفوة من أهله وأصحابه في يوم عاشوراء.
وقد امتدت الإمامة بعد عصر الغيبة في المرجعية ـ وتحملت المرجعية أعباء هذه الرسالة العظيمة وقامت على مر التاريخ بأشكال مختلفة من العمل في هذا السبيل أو
___________________________
1ـ السيد الشهيد الصدر، م س، ص 4ـ 5.
2ـ السيد الشهيد الصدر، م س، ص 4ـ 5.
ـ(262)ـ
التمهيد لـه بطريقة وأخرى(1). وقد كان قيام الدولة المباركة في إيران بقيادة الإمام الخميني v مصداق ذلك الامتداد.
الفكر السياسي الإسلامي:
التشريع الإسلامي:
تطلق كلمة «التشريع الإسلامي» على القواعد والأحكام ـ التي اشتمل عليها القرآن والسنة المطهرة ـ التي تنظم علاقات الأفراد مع بعضهم»(2).
وعلاقة المسلمين بغيرهم.
وقد ابتدأ التشريع عقب بعثة النبي صلّى الله عليه وآله وسلم في مكة عام 610 ميلادي إذ بدأت آيات القرآن الكريم تنزل على النبي صلّى الله عليه وآله وسلم مفترقة بحسب الحوادث المتجددة في مكة، ثم في المدينة وكان النبي صلّى الله عليه وآله وسلم يبين الأحكام الواردة في القرآن الكريم للمسلمين(3).
مصادر التشريع الإسلامي:
1ـ القرآن الكريم.
2ـ السنة المطهرة(قول وفعل المعصوم عليهم السلام وتقريره).
3ـ العقل.
4ـ الإجماع(4).
واعتمدت المذاهب الإسلامية ـ عدا فقهاء المذهب الشيعي ـ مصادر أخرى إضافة إلى الكتاب والسنة:
___________________________
1ـ السيد الشهيد v م. س ص 5 ـ 6.
2ـ د. النبهان، محمد فاروق، نظام الحكم في الإسلام، ص 261 جامعة الكويت، 1987.
3ـ د. النبهان، م. س، ص 262.
4ـ الحكم، محمد تقي، الأصول العامة للفقه المقارن، ص 99 وما بعدها، مؤسسة أهل البيت ط 2، 1979.
ـ(263)ـ
1ـ القياس.
2ـ الاستحسان.
3ـ قول الصحابي.
4ـ المصالح المرسلة.
وغيرها(1) مع الإشارة إلى اختلاف مدلول الإجماع بين فقهاء الإمامية حيث كان كاشفا عن قول المعصوم عليهم السلام وبين ما ذهب إليه المذاهب الأخرى حيث تستند إجماع «جميع المجتهدين بلا استثناء، يشكل حجة ودليلا قاطعاً جازماً على الصواب»(2).
وعلى ضوء ذلك اثبتوا «عصمة الأمة الإسلامية إذا هي أجمعت على أمر»(3).
الأدوار التاريخية التي مر بها التشريع الإسلامي:
العصر النبوي المبارك.
يمتد هذا العصر من تاريخ البعثة إلى وفاة النبي الأكرم صلّى الله عليه وآله وسلم.
وينقسم إلى قسمين:
1ـ فترة ما قبل الهجرة
وتمتد من البعثة النبوية المباركة إلى الهجرة إلى المدينة، وكان المسلمون في هذه الفترة ضعافا يعيشون في مكة في وسط لا يسمح لهم بإظهار عبادتهم خوفا من إيذاء المشركين لهم، وقد اقتصر التشريع في مكة على إقناع المشركين ومجادلتهم بالحجة والبرهان، ليعودوا إلى الحق والصواب(4).
والتزم المسلمون بما بلغهم به الرسول صلّى الله عليه وآله وسلم من تشريعات تقتضيها المرحلة والظروف السائدة في مكة.
___________________________
1ـ الحكيم، ن. م، ص 301ـ 359، 381.
2ـ د. البياتي، منير حميد، النظام السياسي الإسلامي ص 61ـ 63 دار البشير ط 2 الأردن 1994.
3ـ د. النبهان، م س، ص 263.
4ـ الشيخ خلاف، عبد الوهاب، خلاصة التشريع الإسلامي، ص 13 دار الفكر، بيروت.
ـ(264)ـ
2 ـ الحكومة النبوية المباركة والتشريع الإسلامي:
كان الرسول صلّى الله عليه وآله وسلم يمثل السلطة التشريعة، إذ كان يرجع إليه في جميع المسائل الجادة في المجتمع الإسلامي، فيبين للناس حكم هذه المسائل اعتمادا على الوحي الإلهي الذي يتنزل عليه بالقرآن، بالإضافة إلى سنة رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم التي كانت تقوم بدور البيان والتوضيح لآيات الأحكام(1).
وكانت هذه الآيات تهتم بالأحكام التي تنظم المجتمع الإسلامي في مجال:
1ـ الأسرة.
2ـ المعاملات.
3ـ العقوبات.
4ـ أحكام الجهاد(2).
5ـ حالات السلم والحرب ومعاملة الاسرى.
6ـ كيفية توزيع الفيء والغنائم.
7ـ العهود والمواثيق مع أهل الذمة(3).
3 ـ فترة ما بعد حكومة النبي صلّى الله عليه وآله وسلم
عصر الصحابة:
ويمتد هذا العصر من وفاة الرسول صلّى الله عليه وآله وسلم والى حين تسلم الإمام علي عليه السلام خلافة المسلمين، ففي هذا الدور زادت مصادر التشريع ـ القرآن والسنة النبوية ـ مصدراً جديداً وهو الاجتهاد»(4).
وكان الصحابة إذا وردت عليهم مسألة من المسائل نظروا في كتاب الله فإن لم
___________________________
1ـ الشيخ خلاف، م س ص 13.
2ـ د. النبهان، م س. ص 263.
3ـ د. حسن، حسن إبراهيم، تاريخ الإسلام، ج 1 ص 100 ـ 107، مكتبة النهضة، 1964 ط 7.
4ـ د. النبهان، م س، ص 268.
ـ(265)ـ
يجدوا الجواب نظروا في سنة الرسول صلّى الله عليه وآله وسلم فإن لم يجدوا الجواب اجتهدوا في معرفة الحكم، وكثيراً ما كان أبو بكر وعمر في أيام خلافتهما يجمعان كبار الصحابة في المدينة ويتشاورون في بعض المسائل الاجتهادية فإذا تمت موافقتهم على رأي من الآراء أصبح هذا الرأي ملزما(1).
4 ـ فترة ما بعد الخلافة
وتبدأ هذه الفترة بتحول الخلافة إلى ملك ينتقل بالوراثة في العائلة الأموية والعباسية والعهود التي تلت ذلك حيث أدخل كثيرا من المصادر الجديدة على مصادر التشريع الأساسية وظهرت الفرق والمذاهب ولكل مصادره واجتهاداته الخاصة.
استقلال التشريع الإسلامي:
ان نشأة التشريع الإسلامي واعتماده الوحي الإلهي والسنة المعصومة أعطاه استقلالية أمام القوانين الوضعية التي سبقت عصر الرسالة الإسلامية، فضلاً عن تمايزه عنها في أسسه وهدفه وغاياته، فهو منهج حياة لجميع الناس باختلاف ألوانهم وأجناسهم(2).
بيد ان تلك القوانين كانت تختلف بحسب طبقات المجتمعات المقسمة إلى نبلاء وأرقاء وعبيد.
اختلاف مفهوم السلطة التشريعية بين الفكر السياسي الوضعي والفكر السياسي الإسلامي:
1ـ السلطة التشريعية في الفكر الوضعي، هيئة تنتخب وتمثل في أحسن الأحوال
___________________________
1ـ د. النبهان، م س، ص 269.
2ـ د. النبهان، م س، ص 278، وما بعدها عن كتاب القانون الروماني والإسلامي للدكتور(صوفي أبو طالب).
ـ(266)ـ
الأكثرية(1).
وفي الفكر السياسي الإسلامي ان التشريع مصدره الله سبحانه وتعالى تضمنه القرآن الكريم وسنة المعصومين عليهم السلام.
وبالتالي اختلاف المصدر في الفكر السياسي الوضعي فالتشريع جهد فكري بشري.
والتشريع الإسلامي يرتكز الرسالة الإسلامية التي هي وحي الله سبحانه.
2ـ تخضع القواعد والمبادئ القانونية الوضعية إلى المصالح والأهواء(2).
وتظهر الانحيازية فيها بشكل واضح لطبقة أو حزب أو دكتاتور مستبد، ويتصف التشريع الإسلامي بالعموم(3).
وهذه المؤثرات مستبعدة عنه لأنه مرتبط بالله أولا ومبينه وشارحه للناس المعصوم عليهم السلام.
3ـ ليس الفرد هو القاعدة المركزية في التشريع الإسلامي والحكم في النظام الإسلامي، وليس الكائن الاجتماعي الكبير هو الشيء الوحيد الذي تنظر إليه الدولة وتشرع لحسابه، بل ان الخط العريض في هذا النظام هو اعتبار الفرد والمجتمع معا(4).
بيد ان النظام الرأسمالي قائم على أساس تقديس الفرد والتشريع والدولة، من أجل رعاية مصالحه، على خلاف المذهب الماركسي الذي أسس تشريعاته وقوانينه على رعاية وتأمين مصالح المجتمع بما هو كل، دون النظر إلى حرية الفرد ومصالحه ودوره في بناء الحياة العامة.
___________________________
1ـ السيد الشهيد الصدر، محمد باقر، الإسلام يقود الحياة.
2ـ د. المبارك، محمد نظام الإسلام، الحكم والدولة، ص 90 منظمة الإعلام، طهران.
3ـ د. النبهان، م س، ص 282.
4ـ الشهيد الصدر v محمد باقر، فلسفتنا، ص 49، دار الكتاب، ط 10، إيران.
ـ(267)ـ
إدارة الدولة الإسلامية في عهد النبي صلّى الله عليه وآله وسلم:
قد تطور الوضع التنظيمي والإداري للمجتمع الإسلامي والحكم بما يتناسب والأحداث التي واجهها المجتمع والدولة الإسلامية من اتساع رقعة الدولة جغرافياً وزيادة المنتمين إليها من المسلمين والمعاهدين وتنامي المسؤوليات الدفاعية والمالية(1).
ويمكن تمييز ثلاث مراحل في إدارة الدولة الإسلامية على وفق جملة من الأحداث والوقائع يتوضح من خلالها هذه المراحل وتطور الكيان الإداري وهيكله أبان قيادة الرسول الأعظم صلّى الله عليه وآله وسلم للدولة الإسلامية.
المرحلة الأولى:
وتمتد هذه المرحلة من بداية الهجرة النبوية المباركة إلى السنة الرابعة للهجرة، بعد فشل تحالف المشركين(قريش) ـ اليهود في غزوة الأحزاب(الخندق) ضد المسلمين في المدينة(2).
واهم ما تمتاز به الإدارة النبوية في هذه المرحلة:
ان النبي صلّى الله عليه وآله وسلم كان يدير المدينة بصورة مباشرة ويتولى جميع المهام المتعلقة بالسلطة بنفسه.
اقتصر أمر الإدارة على المدينة نفسها، لأن المدينة تمثل إقليم الدولة ولم تتسع بعد حدودها.
لم يفرغ أشخاص لمهمات محددة سوى:
الأذان.
كتاب الوحيد والرسائل.
___________________________
1ـ الشيخ شمس الدين، محمد مهدي، نظام الحكم الإدارة، ص 527، ط 1، دار الثقافة، إيران 1411.
2ـ الشيخ شمس الدين، م س، ص 527.
ـ(268)ـ
إنابة واستخلاف بعض الصحابة على المدينة في حال سفره عنها.
المرحلة الثانية:
ويؤرخ لهذه المرحلة من الفترة التي أعقبت غزوة الخندق إلى عام الفتح والسنة التاسعة للهجرة، حيث فتحت مكة.
وقد اتسعت رقعة الدولة الإسلامية بدخول بعض القبائل في الإسلام.
أبيح للمسلمين البقاء في مناطقهم حيث لا يخشى عليهم من المشركين(1).
فقل بذلك المهاجرون إلى المدينة في هذه المرحلة.
تمثلت الإدارة في هذه المرحلة باعتماد أشخاص من هذه القبائل ممثلين للنبي صلّى الله عليه وآله وسلم، وكانوا غالبا من رؤساء هذه القبائل ذوي الوجاهة والزعامة فيها.
أرسل النبي صلّى الله عليه وآله وسلم ممثلين عنه ـ من المهاجرين والأنصار ـ للقيام بتعليم هذه القبائل(2) القرآن والأحكام الإسلامية.
المرحلة الثالثة:
تمتد هذه المرحلة بعد فتح مكة إلى حين وفاة الرسول صلّى الله عليه وآله وسلم حيث دخول الناس أفواجا في دين الله، فاتسعت رقعة الدولة الإسلامية لتشمل أراضي شبه الجزيرة العربية، وانضوت مدن ومستقرات حضرية مهمة في الدولة الإسلامية، كما دخلت في طاعتها الجماعات البدوية المتنقلة، وقد برزت ملامح ومعالم الإدارة في الدولة الإسلامية برقعتها الجغرافية الواسعة في هذه المراحل في مجالات عدة تحت القيادة والمرجعية المباشرة للرسول صلّى الله عليه وآله وسلم.
___________________________
1ـ الشيخ شمس الدين، م س. ص 528.
2ـ الشيخ شمس الدين، م س. ص 528.
ـ(269)ـ
النظام الإداري للدولة في العهد النبوي
لما ظهر الإسلام واندحرت القوى المعادية واستتب الوضع السياسي للرسول صلّى الله عليه وآله وسلم اخذ يرسل الولاة والعمال إلى البلاد والقوى التي آمنت بالإسلام(1).
ان كل أمر في القرآن والسنة يقتضي قيام حكم اسلامي ودولة إسلامية لتنفيذه حيث ان اكثر ما جاء به الإسلام لا يدخل تنفيذه في اختصاص الأفراد وإنّما هو اختصاص الحكومات.
﴿وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَاْ أُولِيْ الأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾
﴿... كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى...﴾(2).
﴿وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُواْ أَيْدِيَهُمَا جَزَاء بِمَا كَسَبَا نَكَالاً مِّنَ اللّهِ وَاللّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ﴾
﴿وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاء فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ﴾
﴿الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ...﴾(5).
ولا جدال في ان التحريم لبعض الأفعال واعتبارها جرائم وفرض العقوبات عليها إنّما هو من مسائل الحكم ومن أخص ما تقوم به الدولة(6).
ويتأمل للآيات المباركة نجد ان قامة هذه الحدود يعني استقرار المجتمع وتوازنه وابعاده عن حالات الضياع والاضطراب والتيه التي صاحبت قيام الدولة الحديثة، وإذا أضفنا إلى ذلك مجتمع المدينة بعيد الهجرة تشتمل تركيبته على فئات ثلاث:
___________________________
1ـ ابن خلدون، عبد الرحمن بن محمد تاريخ ابن خلدون، ج 1 ص 59 ـ 60 مؤسسة جمال ـ بيروت.
2ـ سورة البقرة: 178.
3ـ سورة المائدة: 38.
4ـ سورة النور: 4.
5ـ سورة الحج: 41.
6ـ عودة، عبد القادر، الإسلام وأوضاعنا السياسة، ص 79 وما بعدها، الرسالة، بيروت، بدون تاريخ.
ـ(270)ـ
الأنصار.
المهاجرين.
اليهود.
وقد أوضح كتاب الرسول ـ وثيقة المدينة ـ بيان ان المهاجرين والأنصار من الذين آمنوا هم أمة من دون الناس، وحدد لهم الرسول صلّى الله عليه وآله وسلم واجباتهم وحقوقهم، وكذا بالنسبة لليهود فكان معهم عهود ومواثيق قد رسمتها الوثيقة المباركة وهي إعلان للحقوق والواجبات على المسلمين وغيرهم، فكان الشعب هذه التركيبة والإقليم هو المدينة، والسلطة كانت بقيادة الرسول الأكرم صلّى الله عليه وآله وسلم.
فتلك أركان الدولة حسب اصطلاح فقهاء القانون الوضعي فالإسلام دين ودولة، وكان المسجد النبوي هو مقر قيادة الدولة الإسلامية المباركة، فيه تعقد جلسات لتداول شؤون الحرب والسلم والقضاء وإقامة العهود والمواثيق والحدود، وعلى هذا اجمع المؤرخون المسلمون وغيرهم ممن أرخ لإحداث تلك الفترة المباركة.
نص الوثيقة أو كتاب الرسول صلّى الله عليه وآله وسلم:
هذا كتاب محمد النبي بين المؤمنين والمسلمين من قريش ويثرب ومن تبعهم فلحق بهم وجاهد معهم:
أنهم أمة واحدة من دون الناس.
المهاجرون من قريش على ربعتهم يتعاملون بينهم وهم يفدون عانيهم بالمعروف والقسط بين المؤمنين.
ثم عدد جميع طوائف الأنصار.
وقال:
ويتعاقلون معاقلهم الأولى وكل طائفة تفدي عانيها بالمعروف والقسط بين المؤمنين.
ـ(271)ـ
وان ذمة الناس واحدة يجير عليهم أدناهم، وان المؤمنين بعضهم موالي لبعض دون الناس.
وان المؤمنين المتقين أيديهم على كل من بغى منهم أو ابتغى وسيعة ظلم أو آثم أو عدوان أو فساد بين المؤمنين.
وان أيديهم عليه جميعاً ولو كان ولد أحدهم.
وانه من اعتبط ـ قتل بلا جناية ـ مؤمنا قتلا عن بينة فأنه وقد به، إلا أن يرضى ولي المقتول بالقتل، وان المؤمنين عليه كافة، ولا يحل لهم القيام عليه.
وانه لا يحل لمؤمن اقر بما في هذه الصحيفة وآمن بالله واليوم الآخر ان ينصر محدثا أو يؤويه وان من نصره وآواه فأن عليه لعنة الله وغضبه يوم القيامة، ولا يؤخذ منه صدق ولا عدل.
وانه ما كان بين أهل هذه الصحيفة من حدث أو اشتجار يخاف فساده فأن مرده إلى الله ومحمد رسول الله، وان الله على ما اتقى في هذه الصحيفة وابره.
وانه لا يحول هذا الكتاب دون ظالم أو آثم...(1).
يهود بني عوف أمة مع المؤمنين، لليهود دينهم، وللمسلمين دينهم، مواليهم وأنفسهم إلا من ظلم وأثم فإنه لا يوتع ـ أي يهلك ـ إلا نفسه...، ان النبي صلّى الله عليه وآله وسلم قد حدد في هذه الوثيقة التاريخية الهامة، وفي مرحلة تأسيس الدولة الإسلامية، الإطار العام للحكم والإدارة والعلاقات مع غير المسلمين وكان ذلك السنة الأولى للهجرة.
والوثيقة أو كتاب النبي صلّى الله عليه وآله وسلم كان هو المشروع السياسي الذي أسست عليه الدولة النبوية في المدينة المنورة، وقد تضمنت المفاهيم والمقولات التي تعكس أوليات
___________________________
1ـ ابن هشام ـ السيرة النبوية، ج 2 ص 147 ـ وما بعدها دار أحياء التراث ـ بيروت.
ـ(272)ـ
المشروع السياسي الإسلامي والتي نجملها في:
1ـ الأمة:
وهي(الأمة الإسلامية) التي وجدت التعبير القانوني الدستوري عنها في هذه الوثيقة، حيث ان الروابط الأسرية والقبلية التي اعترف بها الإسلام وأعطاها حيزا في تشريعه قد تجاوزها في التشريع السياسي وفي تشكيل المجتمع السياسي.
واعتبر ان التنظيم المجتمعي ـ السياسي ـ يقوم على أساس العقيدة والانتماء إلى المشروع السياسي للإسلام، وهذا ما كانت عليه المؤاخاة الأولى والثانية(1).
2ـ وان هذه الأمة متماسكة متعاونة في السراء والضراء لأن هؤلاء المؤمنين يشكلون وحدة، ووحدة هذه الأمة مصدرها وحدة الدين ووحدة الإيمان بالله الواحد(2).
(شعب الإقليم).
3ـ ان المرجع في الاختلاف والنزاع وتفسير نصوص الوثيقة هو الرسول صلّى الله عليه وآله وسلم والمرد في ذلك إلى الله سبحانه فالقيادة للرسول صلّى الله عليه وآله وسلم.
4ـ العقوبة شخصية ولا ترد على غيره «لا يأثم امرؤ لحليفه».
5ـ الوثيقة «انه من خرج آمن ومن قعد آمن بالمدينة إلا من ظلم واثم...».
تحدد هذه الفكرة مكانا تسري فيه أحكام هذه الوثيقة وهي المدينة حيث السيادة الكاملة للدولة النبوية بقيادة الرسول، فالمدينة هي أرض الدولة.(إقليم الدولة).
6ـ المواطنة: تفيد دراسة نصوص «الوثيقة» ان المواطنة ـ في الدولة الإسلامية ـ لا تساوي الانتماء الديني دائما، بل يمكن ان تفترق عنه، حين يكون المجتمع السياسي مكونا من فئات انتماء ديني متنوع(3).
___________________________
1ـ شمس الدين، م س، ص 531 ـ 532.
2ـ د. مكي محمد كاظم، النظم الإسلامي، ص 138 دار الزهراء ط 1 1311 هـ، بيروت.
3ـ شمس الدين، م س، ص 535.
ـ(273)ـ
فكان اليهود إلى جنب المسلمين في مجتمع الدولة الإسلامية في المدينة وأقرت لهم «الوثيقة» حقوقهم وعينت ما عليهم من واجبات.
فترة الحكم الراشدي والسلطات:
السلطة التشريعية
كان القرآن الكريم والسنة النبوية المشرفة في فترة الحكم الراشدي هما مصدر التشريع الأساسيين، بيد ان عنصرا جديدا أضيف لهما هو الاجتهاد أو الرأي، فقد اجتهد الخليفة الأول في قضية خالد بن الوليد وفي منع الزهراء عليها السلام من ارث أبيها، واجتهد عمر في تقسيم العطاء علي المسلمين حسب المنزلة والسابقة، وفي تحريم متعة النساء ومتعة الحج وصلاة التراويح... الخ وبذلك اعتبر قول الصحابي سنة، بل ومصدرا تشريعياً ثالثاً بالإضافة إلى القرآن الكريم والسنة النبوية.
السلطة التنفيذية:
كان الخلفاء يقومون بمهام السلطة التنفيذية بأنفسهم في عاصمة الدولة الإسلامية وفي غيرها استعانوا بالولاة والعمال المنصوص لمهمات السلطة التنفيذية من قبل الخلفاء في أقاليم الدولة الإسلامية.
السلطة القضائية:
كانت السلطة القضائية من اختصاصات الخلفاء، حيث مارسوها بأنفسهم في عاصمة الدولة الإسلامية، وربما استعان بعضهم بالبعض الآخر، أما بالنسبة للأمصار والولايات التي انضوت تحت لواء الإسلام فقد بعثوا ـ أي الخلفاء ـ من ينوب عنهم لمهمة القضاء فيها.
ولم يستعن الإمام علي عليه السلام بأحد للقضاء، وإنّما كان يقضي بنفسه مطلقا في عاصمة الدولة الإسلامية(الكوفة).
ـ(274)ـ
السلطة العالية:
وكانت من اختصاصات الخلفاء، وقد جعلوا عليها من ينوب منهم في الاشراف والتنظيم أسموه بـ«الخازن» أو «صاحب بيت المال» أما صلاحيات التصرف بأموال بيت المال، فقد كانت حصرا بيد الخلفاء وكان خازن بيت المال لأبي بكر أبو عبيدة، ولعثمان بن عفان مروان بن الحكم، وللإمام علي عبد الله بن رافع.
وقد اشتهر عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام أنه كان حريصا علي بيت المال، فلم يبذخ على أحد ولم يسرف في عطاء ولم يمنع في جفاء.
وكان يحصى المال بنفسه، واشتهر عنه أنه همّ ذات يوم بمعاقبة أخيه عقيل بن أبي طالب، وكان ضريرا وفقيرا معسرا، وذلك حينما طلب منه يوما ـ عقيل ـ تميزه في العطاء عن غيره، فحمى لـه علي عليه السلام حديدة وقربها من يديه ليعتبر بها، وقال الإمام عليه السلام: «فظن أني أبيعه ديني، واتبع قيادة مفارقا طريقتي».
فأحميت لـه حديدة، ثم أدنيتها من جسمه ليعتبر بها، فضج ضجيج ذي دنف من ألمها، وكاد ان يحترق من ميسمها، فقلت لـه: ثكلتك التواكل يا عقيل أتئن من حديدة أحماها إنسانها للعبة، وتجرني إلى نار سجرها جبارها لغضبه، أتئن من الأذى ولا أئن من لظى»(1).
وروي: ان طائفة من أصحاب الإمام علي عليه السلام مشوا إليه وطلبوا منه تفضيل الاشراف من العرب على الموالي والعجم في الأموال.
فقال لهم:
أتأمروني ان أطلب النصر بالجور والله لا أفضل ما طلعت شمس وما لاح في السماء نجم، والله لو كان المال لي لساويت بينهم، فكيف وإنّما هي أموالهم(2).
___________________________
1ـ المعجم المفهرس لألفاظ نهج البلاغة، طبع جامعة المدرسين، قم 1497 هـ، ص 110.
2ـ الغارات، الثقفي، ص 75.
ـ(275)ـ
السلطة الرقابية:
وعدّها بعضهم جزءاً من السلطة التنفيذية، بيد ان البعض الآخر(1) اعتبرها سلطة قائمة بذاتها، وتستند إلى مبدأي الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وهي سلطة ذات طبيعة اجتماعية، وظيفتها ضبط علاقات الأفراد في المجتمع الإسلامي على وفق الضوابط الشرعية الإسلامية لمنع الانحراف فيها.
ومن مؤسساتها: ظهور نظام الحسبة، وولاية المظالم، والشرطة.
والله ولي التوفيق