وقد تحدث القرآن الكريم عن الأمة الواحد أكثر من مرة، وكان التذكير برابطة النسب «الإيماني» يأتي مباشرة بعد ذكر السلسلة الطويلة من النبوات السالفة، وكأن المقصود هو رفض العلاقات العصبية السلالية وإرجاع الجيل المسلم إلى مكانه من الدوحة التي اتصلت أسبابها بالسماء، «وأن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاعبدون» وقد تقع في بداية النقلة من حال الجاهلية للإيمان هفوات وأخطاء تخالف روح العقيدة، فيأتي الرد عليها حاسماً حتى يصبح الخطأ نفسه هو الدرس الباقي المتألق، فحين يغفل خالد بن الوليد عن الأسس الاجتماعية الجديدة ويذكر زنجياً بلونه وأصله، يتدخل الرسول (ص) بنفسه ليقول له «أنك أمرؤ فيك جاهلية»! ويشيد الرسول بسلمان الفارسي وبلال الحبشي ويرفع شأنهما بجمع من وجوه قريش وساداتها». ولم تقف هذه المبادئ عند الحدود النظرية المثالية، ولكن طبقت عملياً في المجتمع الإسلامي الأول، حتى رأينا الموالي من غير العرب يتصدرون مكان القيادة، ومع اتساع الرقعة الإسلامية واحتواء حضارات عريقة ولغات عديدة، ترعرعت العلوم والمعارف، وبرز ساسة ومفكرون وفلاسفة من الفرس والترك، والروم، واليهود، وأستطاع موسى بن ميمون أن يكتب أشهر كتبه في أُصول الدين اليهودي، ويوجه الرسائل للجاليات اليهودية المنتشرة في العالم يحثها على التمسك بدينها وثقافتها وهو يعمل طبيبا للأسرة الأيوبية في مصر، واستطاع يوحنا الدمشقي أن يكتب كتبا في الإلهيات المسيحية وهو يعمل وزيرا للمالية في قصر الخليفة الأموي في دمشق، وفي الحالتين حصل العالمان على أذن ولي الأمر المسلم مع أن كتبهما اشتملت على غمز مباشر أو غير مباشر في الإسلام. ولم يكن هناك حرج أن تنتقل القيادة السياسية للعالم الإسلامي برمتها من ديار العرب، وأن تصبح الجزيرة العربية نفسها مهد الرسالة ومتنزل الوحي جزءا من الإمبراطورية العثمانية، «التركية» وأن يقود دولاً إسلامية، ملوك من الترك والألبان والأكراد وغيرهم. والإسلام يحث الناس على التعايش الآمن، والجيرة الحسنة، والمشاركة الفاعلة في الخير العام، ومع أنه يركز على الإيمان بالله وتوحيده توحيداً خالصاً، إلا أنه لا يعتبر ذلك شرطاً للمعاملة الحسنة ومنع الظلم وحفظ الحقوق، وإتاحة فرص العيش الكريم أمام الناس جميعا، كما لم يفرض على الشعوب التي ارتضت الانتماء إليه ثقافة خاصة أو لغة بعينها، بل وصف اختلاف اللغات والحضارات بأنه آية من آيات الله التي تدل على قدرته ووحدانيته، وينبغي احترامها والمحافظة عليها «ومن آياته خلق السموات والأرض واختلاف ألسنتكم وألوانكم»(1 ).