انتصب ( سنة الله ) على النيابة عن المفعول المطلق لأن ( سنة ) اسم مصدر السن وهو آت بدلالة من فعله والتقدير : سن الله ذلك سنة فالجملة مستأنفة استئنافا بيانيا جوابا لسؤال من يسأل لماذا لم ينفعهم الإيمان وقد آمنوا فالجواب أن ذلك تقديره قدره الله للأمم السالفة أعلمهم به وشرطه عليهم فهي قديمة في عبادة لا ينفع الكافر الإيمان إلا قبل ظهور البأس ولم يستثن من ذلك إلا قوم يونس قال تعالى ( فلولا كانت قرية آمنت إيمانا إلا قوم يونس لما آمنوا كشفنا عنهم ذاب الخزي في الحياة الدنيا ) .
A E وهذا حكم الله في البأس بمعنى العقاب الخارق للعادة والذي هو آية بينة فأما البأس الذي هو معتاد والذي هو آية خفية مثل عذاب بأس السيف الذي نصر الله به رسوله يوم بدر ويوم فتح مكة فإن من يؤمن عند رؤيته مثل أبي سفيان بن حرب حين رأى جيش الفتح أو بعد أن ينجو منه مثل إيمان قريش يوم الفتح بعد رفع السيف عنهم فإيمانه كامل خالد بن الوليد وأبي سفيان بن الحارث بن عبد المطلب وعبد الله بن سعد بن أبي سرح بعد ارتداده .
ووجه عدم قبول الإيمان عند حلول عذاب الاستئصال وقبول الإيمان عند نزول بأس السيف أن عذاب الاستئصال مشارفة للهلاك والخروج من عالم الدنيا فإيقاع الإيمان عنده لا يحصل المقصد من إيجاب الإيمان وهو أن يكون المؤمنون حزبا وأنصارا لدينه وأنصار لرسله وماذا يغني إيمان قوم لم يبق فيهم إلا رمق ضعيف من حياة فإيمانهم حينئذ بمنزلة اعتراف أهل الحشر بذنوبهم وليست ساعة عمل قال تعالى في شأن فرعون ( فلما أدركه الغرق قال آمنت أنه لا إله إلا الذي آمنت به بنو إسرائيل وأنا من المسلمين الآن وقد عصيت قبل وكنت من المفسدين ) أي فلم يبق وقت لاستدراك عصيانه وإفساده وقال تعالى ( يوم يأتي بعض آيات ربك لا ينفع نفسا إيمانها لم تكن آمنت من قبل أو كسبت في إيمانها خيرا ) فأشار قوله ( أو كسبت في إيمانها خيرا ) إلى حكمة عدم انتفاع أحد بإيمانه ساعتئذ . وإنما كان ما حل بقوم يونس حالا وسيطا بين ظهور البأس وبين الشعور به عند ظهور علاقاته كما بيناه في سورة يونس .
وجملة ( وخسر هنالك الكافرون ) كالفذلكة لقوله ( فلم يك ينفعهم إيمانهم لما رأوا بأسنا ) وبذلك آذنت بانتهاء الغرض من السورة .
و ( هنالك ) اسم إشارة إلى مكان استعير للإشارة إلى الزمان أي خسروا وقت رؤيتهم بأسنا إذ انقضت حياتهم وسلطانهم وصاروا إلى ترقب عذاب خالد مستقبل .
والعدول عن ضمير ( الذين كانوا من قبلهم كانوا أشد منهم قوة ) إلى الاسم الظاهر وهو ( الكافرون ) إيماء إلى أن سبب خسرانهم هو الكفر بالله وذلك إعذار للمشركين من قريش .
أسلوب سورة غافر .
أسلوبها أسلوب المحاجة والاستدلال على صدق القرآن وأنه منزل من عند الله وإبطال ضلالة المكذبين وضرب مثلهم بالأمم المكذبة وترهيبهم من التمادي في ضلالهم وترغيبهم في التبصر ليهتدوا .
وافتتحت بالحرفين المقطعين من حروف الهجاء لأن أول أغراضها أن القرآن من عند الله ففي حرفي الهجاء رمز إلى عجزهم عن معارضته بعد أن تحداهم لذلك فلم يفعلوا كما تقدم في فاتحة سورة البقرة .
وفي ذلك الافتتاح تشويق إلى تطلع ما يأتي بعده للاهتمام به .
وكان في الصفات التي أجريت على اسم منزل القرآن إيماء إلى أنه لا يشبه كلام البشر لأنه كلام العزيز العليم وإيماء إلى تيسير إقلاعهم الاستهلال .
ثم تخلص من الإماء والرمز إلى صريح وصف ضلال المعاندين وتنظيرهم بسابقيهم من الأمم التي استأصلها الله .
وخص بالذكر أعظم الرسل السالفين وهو موسى مع أمة من أعظم الأمم السالفة وهم أهل مصر وأطيل ذلك لشدة مماثلة حالهم لحال المشركين من العرب في الاعتزاز بأنفسهم وفي قلة المؤمنين منهم آل فرعون وتخلل ذلك ثبات موسى وثبات مؤمن آل فرعون إيماء إلى التنظير بثبات محمد A وأبي بكر ثم انتقل إلى الاستدلال على الوحدانية وسعة القدرة على إعادة الأموات