و ( منا ) تأكيد لتوجيه السلام إليه لأن " من " ابتدائية فالمعنى : بسلام ناشئ من عندنا كقوله ( سلام قولا من رب رحيم ) . وذلك كثير في كلامهم . وهذا التأكيد يراد به زيادة الصلة والإكرام فهو أشد مبالغة من الذي لا تذكر معه " من " .
والباء للمصاحبة أي اهبط مصحوبا بسلام منا . ومصاحبة السلام الذي هو التحية مصاحبة مجازية .
والبركات : الخيرات النامية واحدتها بركة وهي من كلمات التحية مستعملة في الدعاء .
ولما كان الداعون بلفظ التحية إنما يسألون الله بدعاء بعضهم لبعض فصدور هذا الدعاء من لدنه قائم مقام إجابة الدعاء فهو إفاضة بركات على نوح عليه السلام ومن معه فحصل بذلك تكريمهم وتأمينهم والإنعام عليهم .
و ( عليك ) يتعلق ( بسلام ) و ( بركات ) وكذلك ( وعلى أمم ممن معك ) .
A E والأمم : جمع أمة . والأمة : الجماعة الكثيرة من الناس التي يجمعها نسب إلى جد واحد . يقال : أمة العرب أو لغة مثل أمة الترك أو موطن مثل أمة أمريكا أو دين مثل الأمة الإسلامية ف ( أمم ) دال على عدد كثير من الأمم يكون بعد نوح عليه السلام . وليس الذين ركبوا في السفينة أمما لقلة عددهم لقوله ( وما آمن معه إلا قليل ) . وتنكير ( أمم ) لأنه لم يقصد به التعميم تمهيدا لقوله ( وأمم سنمتعهم ) .
و ( من ) في ( ممن معك ) ابتدائية و ( من ) الموصولة صادقة على الذين ركبوا مع نوح عليه السلام في السفينة . ومنهم ابناؤه الثلاثة . فالكلام بشارة لنوح عليه السلام ومن معه بأن الله يجعل منهم أمما كثيرة يكونون محل كرامته وبركاته . وفيه إيذان بأن يجعل منهم أمما بخلاف ذلك ولذلك عطف على هذه الجملة قوله ( وأمم سنمتعهم ثم يمسهم منا عذاب أليم ) .
وهذا النظم يقتضي أن الله بدأ نوحا بالسلام والبركات وشرك معه فيهما أمما ناشئين ممن هم معه وفيهم الناشئون من نوح عليه السلام لأن في جملة من معه أبناءه الثلاثة الذين انحصر فيهم نسله من بعده . فتعين أن الذين معه يشملهم السلام والبركات بادئ بدء قبل نسلهم إذ عنون عنهم بوصف معية نوح عليه السلام تنبيها على سبب كرامتهم . وإذ كان التنويه بالناشئين عنهم إيماء إلى أن اختصاصهم بالكرامة لأجل كونهم ناشئين عن فئة مكرمة بمصاحبة نوح عليه السلام فحصل تنويه نوح عليه السلام وصحبته ونسلهم بطريق إيجاز بديع .
وجملة ( وأمم سنمتعهم ) إلخ عطف على جملة ( اهبط بسلام منا ) إلى آخرها وهي استئناف بياني لأنها تبيين لما أفاده التنكير في قوله ( وعلى أمم ممن معك ) من الاحتراز عن أمم آخرين . وهذه الواو تسمى استئنافية وأصلها الواو العاطفة وبعضهم يرجعها إلى الواو الزائدة ويجوز أن تكون الواو للتقسيم والمقصود : تحذير قوم نوح من اتباع سبيل الذين أغرقوا والمقصود من حكاية ذلك في القرآن التعريض بالمشركين من العرب فإنهم من ذرية نوح ولم يتبعوا سبيل جدهم فأشعروا بأنهم من الأمم التي أنبأ الله نوحا بأنه سيمتعهم ثم يمسهم عذاب أليم . ونظير هذا قوله تعالى ( ذرية من حملنا مع نوح إنه كان عبدا شكورا ) أي وكان المتحدث عنهم غير شاكرين للنعمة .
وإطلاق المس على الإصابة القوية تقدم عند قوله تعالى ( وإن يمسسك الله بضر فلا كاشف له إلا هو ) في الأنعام .
وذكر ( منا ) مع ( يمسهم ) لمقابلة قوله في ضده ( بسلام منا ) ليعلموا أن ما يصيب الأمة من الأحوال الزائدة على المعتاد في الخير والشر هو إعلام من الله بالرضى أو الغضب لئلا يحسبوا ذلك من سنة ترتب المسببات العادية على أسبابها إذ من حق الناس أن يتبصروا في الحوادث ويتوسموا في جريان أحوالهم على مراد الله تعالى منهم ويعلموا أن الله يخاطبهم بدلالة الكائنات عند انقطاع خطابه إياهم على ألسنة الرسل فإن الرسل يبينون لهم طرق الدلالة ويكلون إليهم النظر في وضع المدلولات عند دلالاتها . ومثاله ما هنا فقد بين لهم على لسان نوح عليه السلام أنه يمتع أمما ثم يمسهم عذاب أليم بما يصنعون .
( تلك من أنباء الغيب نوحيها إليك ما كنت تعلمها أنت ولا قومك من قبل هذا فاصبر إن العاقبة للمتقين [ 49 ] ) استئناف أريد منه الامتنان على النبي صلى الله عليه وسلم والموعظة والتسلية .
فالامتنان من قوله ( ما كنت تعلمها ) .
والموعظة من قوله ( فاصبر ) إلخ