وأما مع اختلاف الوصف المنادى به فقد جاء العطف وهو أظهر لما في اختلاف وصف المنادى من شبه التغاير كقول قيس بن عاصم وقيل حاتم الطائي : .
أيا ابنة عبد الله وابنة مالك ... ويا ابنة ذي البردين والفرس الورد فقوله " ويا بنة ذي البردين " عطف نداء على نداء والمنادى بهما واحد .
لما أظهر لهم نوح عليه السلام أنه يجبرهم على إيمان يكرهونه انتقل إلى تقريبهم من النظر في نزاهة ما جاءهم به وأنه لا يريد نفعا دنيويا بأنه لا يسألهم على ما جاء به ما لا يعطونه إياه فماذا يتهمونه حتى يقطعون بكذبه .
والضمير في قوله ( عليه ) عائد إلى المذكور بمنزلة اسم الإشارة في قوله ( ومن يفعل ذلك ) فإن الضمير يعامل معاملة اسم الإشارة .
وجملة ( إن أجري إلا على الله ) احتراس لأنه لما نفى أن يسألهم مالا والمال أجر نشأ توهم أنه لا يسأل جزاء على الدعوة فجاء بجملة ( إن أجري إلا على الله ) احتراسا . والمخالفة بين العبارتين في قوله ( مالا ) و ( أجري ) تفيد أنه لا يسأل من الله مالا ولكنه يسأل ثوابا . والأجر : العوض على عمل . ويسمى ثواب الله أجرا لأنه جزاء على العمل الصالح .
وعطف جملة ( وما أنا بطارد الذين آمنوا ) على جملة ( لا أسألكم عليه مالا ) لأن مضمونها كالنتيجة لمضمون المعطوف عليها لأن نفي طمعه في المخاطبين يقتضي أنه لا يؤذي أتباعه لأجل إرضاء هؤلاء . ولذلك عبر عن أتباعه بطريق الموصولية بقوله ( الذين آمنوا ) لما يؤذن به الموصول من تغليط قومه في تعريضهم له بأن يطردهم بما أنهم لا يجالسون أمثالهم إيذانا بأن إيمانهم يوجب تفضيلهم على غيرهم الذين لم يؤمنوا به والرغبة فيهم فكيف يطردهم . وهذا إبطال لما اقتضاه قولهم ( وما نراك اتبعك إلا الذين هم أراذلنا ) من التعريض بأنهم لا يماثلونهم في متابعته .
والطرد : الأمر بالبعد عن مكان الحضور تحقيرا أو زجرا . وتقدم عند قوله تعالى ( ولا تطرد الذين يدعون ربهم ) في سورة الأنعام .
وجملة ( إنهم ملاقوا ربهم ) في موضع التعليل لنفي أن يطردهم بأنهم صائرون إلى الله في الآخرة فمحاسب من يطردهم هذا إذا كانت الملاقاة على الحقيقة أو أراد أنهم يدعون ربهم في صلاتهم فينتصر الله لهم إذا كانت الملاقاة مجازية أو أنهم ملاقو ربهم حين يحضرون مجلس دعوتي لأني أدعو إلى الله لا إلى شيء يخصني فهم عند ملاقاتي كمن يلاقون ربهم لأنهم يتلقون ما أوحى الله إلي . وهذا كقول النبي صلى الله عليه وسلم في قصة النفر الثلاثة الذين حضروا مجلس النبي صلى الله عليه وسلم فجلس أحدهم واستحيا أحدهم وأعرض الثالث " أما الأول فآوى إلى الله فآواه الله وأما الثاني فاستحيا فاستحيا الله منه وأما الثالث فأعرض فأعرض الله عنه " وتأكيد الخبر ب ( إن ) أن كان اللقاء حقيقة لرد إنكار قومه البعث وإن كان اللقاء مجازا فالتأكيد للاهتمام بذلك اللقاء . وقد زيد هذا التأكيد تأكيدا بجملة ( ولكني أراكم قوما تجهلون ) .
وموقع الاستدراك هو أن مضمون الجملة ضد مضمون التي قبلها وهي جملة ( إنهم ملاقوا ربهم ) أي لا ريب في ذلك ولكنكم تجهلون فتحسبونهم لا حضرة لهم وأن لا تبعة في طردهم .
وحذف مفعول ( تجهلون ) للعلم به أي تجهلون ذلك .
وزيادة قوله ( قوما ) يدل على أن جهلهم صفة لازمة لهم كأنها من مقومات قوميتهم كما تقدم عند قوله تعالى ( لآيات لقوم يعقلون ) في سورة البقرة .
( ويا قوم من ينصرني من الله إن طردتهم أفلا تذكرون [ 30 ] ) إعادة ( ويا قوم ) مثل إعادته في الآية قبلها .
A E والاستفهام إنكاري . والنصر : إعانة المقاوم لضد أو عدو وضمن معنى الإنجاء فعدي ب ( من ) أي من يخلصني أي ينجيني من الله أي من عقابه لأن طردهم إهانة تؤذيهم بلا موجب معتبر عند الله والله لا يحب إهانة أوليائه .
وفرع على ذلك إنكارا على قومه في إهمالهم التذكر أي التأمل في الدلائل ومدلولاتها والأسباب ومسبباتها .
وقرأ الجمهور ( تذكرون ) بتشديد الذال .
وأصل ( تذكرون ) تتذكرون فأبدلت التاء ذالا وأدغمت في الذال . وقرأه حفص ( تذكرون ) بتخفيف الذال وبحذف إحدى التاءين . والتذكر تقدم عند قوله ( إن الذين اتقوا إذا مسهم طائف من الشيطان تذكروا ) في آخر سورة الأعراف