ومعنى ( فعميت ) فخفيت وهو استعارة إذ شبهت الحجة التي لم يدركها المخاطبون كالعمياء في أنها لم تصل إلى عقولهم كما أن الأعمى لا يهتدي للوصول إلى مقصده فلا يصل إليه . ولما ضمن معنى : الخفاء عدي فعل ( عميت ) بحرف ( على ) تجريدا للاستعارة . وفي ضد هذه الاستعارة جاء قوله تعالى ( وأتينا ثمود الناقة مبصرة ) أي آتيناهم آية واضحة لا يستطاع جحدها لأنها آية محسوسة ولذلك سمي جحدهم إياها ظلما فقال ( فظلموا بها ) .
ومن بديع هذه الاستعارة هنا أن فيها طباقا لمقابلة قولهم في مجادلتهم ( ما نراك إلا بشرا وما نراك اتبعك وما نرى لكم علينا من فضل ) . فقابل نوح عليه السلام كلامهم مقابلة بالمعنى واللفظ إذ جعل عدم رؤيتهم من قبيل العمى .
وعطف ( عميت ) بفاء التعقيب إيماء إلى عدم الفترة بين إيتائه البينة والرحمة وبين خفائها عليهم . وهو تعريض لهم بأنهم بادروا بالإنكار قبل التأمل .
وجملة ( أنلزمكموها ) سادة مسد مفعولي ( أرأيتم ) لأن الفعل علق عن العمل بدخول همزة الاستفهام .
وجواب الشرط محذوف دل عليه فعل ( أرأيتم ) وما سد مسد مفعوليه . وتقدير الكلام : قال يا قوم إن كنت على بينة من ربي إلى آخره أترون أنلزمكم قبول البينة وأنتم لها كارهون .
وجيء بضمير المتكلم المشارك هنا للإشارة إلى أن الإلزام لو فرض وقوعه لكان له أعوان عليه وهم أتباعه فأراد أن لا يهمل ذكر أتباعه وأنهم أنصار له لو شاء أن يهيب بهم . والقصد من ذلك التنويه بشأنهم في مقابلة تحقير الآخرين إياهم .
والاستفهام إنكاري أي ما كان لنا ذلك لأن الله لم يأمره بإكراههم إعراضا عن العناية بهم فترك أمرهم إلى الله وذلك أشد في توقع العقاب العظيم .
والكاره : المبغض لشيء . وعدي باللام إلى مفعوله لزيادة تقوية تعلق الكراهية بالرحمة أو البينة أي وأنتم مبغضون قبولها لأجل إعراضكم عن التدبر فيها .
وتقديم المجرور على ( كارهون ) لرعاية الفاصلة مع الاهتمام بشأنها . والمقصود من كلامه بعثهم على إعادة التأمل في الآيات وتخفيض نفوسهم واستنزالهم إلى الإنصاف . وليس المقصود معذرتهم بما صنعوا ولا العدول عن تكرير دعوتهم .
( ويا قوم لا أسئلكم عليه مالا إن أجري إلا على الله وما أنا بطارد الذين أمنوا إنهم ملاقوا ربهم ولكني أراكم قوما تجهلون [ 29 ] ) إعادة الخطاب ب ( يا قوم ) تأكيد لما في الخطاب به أول مرة من المعاني التي ذكرناها وأما عطف النداء بالواو مع أن المخاطب به واحد وشأن عطف النداء أن يكون عند اختلاف المنادى كقول المعري .
يا ساهر البرق أيقظن راقد السمر ... لعل بالجزع أعوانا على السهر ثم قال : .
ويا أسيرة حجليها أرى سفها ... حمل الحلي بمن أعيا عن النظر فأما إذا اتحد المنادى فالشأن عدم العطف كما في قصة إبراهيم عليه السلام في سورة مريم ( إذ قال لأبيه يا أبت لم تعبد ما لا يسمع ولا يبصر ) إلى قوله ( وليا ) فقد تكرر النداء أربع مرات .
فتعين هنا أن يكون العطف من مقول نوح عليه السلام لا من حكاية الله عنه . ثم يجوز أن يكون تنبيها على اتصال النداءات بعضها ببعض وأن أحدها لا يغني عن الآخر ولا يكون ذلك من قبيل الوصل لأن النداء افتتاح كلام فجملته ابتدائية وعطفها إذا عطفت مجرد عطف لفظي . ويجوز أن يكون ذلك تفننا عربيا في الكلام عند تكرر النداء استحسانا للمخالفة بين التأكيد والمؤكد . ويسجئ نظير هذا قريبا في قصة هود عليه السلام وقصة شعيب عليه السلام .
A E ومنه ما وقع في سورة المؤمن في قوله ( وقال الذي آمن يا قوم إني أخاف عليكم مثل يوم الأحزاب مثل دأب قوم نوح وعاد وثمود والذين من بعدهم وما الله يريد ظلما للعباد ويا قوم إني أخاف عليكم يوم التنادي يوم تولون مدبرين ما لكم من الله من عاصم ثم قال وقال الذي آمن يا قوم اتبعوني أهدكم سبيل الرشاد يا قوم إنما هذه الحياة الدنيا متاع وإن الآخرة هي دار القرار من عمل سيئة فلا يجزى إلا مثلها ومن عمل صالحا من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فأولئك يدخلون الجنة يرزقون فيها بغير حساب ويا قوم ما لي أدعوكم إلى النجاة وتدعونني إلى النار ) . فعطف ( ويا قوم ) تارة وترك العطف أخرى