وجملة ( بل نظنكم كاذبين ) إبطال للمنفي كله الدال على صدقه في دعواه بإثبات ضد المنفي وهو ظنهم إياهم كاذبين لأنه إذا بطل الشيء ثبت ضده فزعموا نوحا عليه السلام كاذبا في دعوى الرسالة وأتباعه كاذبين في دعوى حصول اليقين بصدق نوح عليه السلام بل ذلك منهم اعتقاد باطل وهذا الظن الذي زعموه مستند إلى الدليل المحسوس في اعتقادهم .
واستعمل الظن هنا في العلم كقوله ( الذين يظنون أنهم ملاقوا ربهم ) وهو إطلاق شائع في الكلام .
( قال يا قوم أرأيتم إن كنت على بينة من ربي وآتاني رحمة من عنده فعميت عليكم أنلزمكموها وأنتم لها كارهون [ 28 ] ) فصلت جملة ( قال يا قوم ) عن التي قبلها على طريقة حكاية الأقوال في المحاورات كما قدمناه عند قوله تعالى ( وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة ) في سورة البقرة فهذه لما وقعت مقابلا لكلام محكي يقال فصلت الجملة ولم تعطف بخلاف ما تقدم آنفا في قوله ( فقال الملأ الذين كفروا من قومه ) .
وافتتاح مراجعته بالنداء لطلب إقبال أذهانهم لوعي كلامه كما تقدم في نظيرها في سورة الأعراف واختيار استحضارهم بعنوان قومه لاستنزال طائر نفورهم تذكيرا لهم بأنه منهم فلا يريد لهم إلا خيرا .
وإذ قد كان طعنهم في رسالته مدللا بأنهم ما رأوا له مزية وفضلا وما رأوا أتباعه إلا ضعفاء قومهم وإن ذلك علامة كذبه وضلال أتباعه سلك نوح عليه السلام في مجادلتهم مسلك إجمال لإبطال شبهتهم ثم مسلك تفصيل لرد أقوالهم فأما مسلك الإجمال فسلك فيه مسلك القلب بأنهم إن لم يروا فيه وفي أتباعه ما يحمل على التصديق برسالته فكذلك هو لا يستطيع أن يحملهم على رؤية المعاني الدالة على صدقه ولا يستطيع منع الذين آمنوا به من متابعته والاهتداء بالهدي الذي جاء به .
فقوله ( أرأيتم إن كنت على بينة من ربي ) إلى آخره . معناه إن كنت ذا برهان واضح ومتصفا برحمة الله بالرسالة بالهدى فلم تظهر لكم الحجة ولا دلائل الهدى فهل ألزمكم أنا وأتباعي بها أي بالإذعان إليها والتصديق بها إن أنتم تكرهون قبولها . وهذا تعريض بأنهم لو تأملوا تأملا بريئا من الكراهية والعداوة لعلموا صدق دعوته .
و ( أرأيتم ) استفهام عن الرؤية بمعنى الاعتقاد . وهو استفهام تقريري إذا كان فعل الرؤية غير عامل في مفرد فهو تقرير على مضمون الجملة السادة مسد مفعولي ( رأيتم ) ولذلك كان معناه آيلا إلى معنى أخبروني ولكنه لا يستعمل إلا في طلب من حاله حال من يجحد الخبر وقد تقدم معناه في قوله تعالى ( قل أرأيتكم إن أتاكم عذاب الله بغتة أو جهرة ) في سورة الأنعام .
وجملة ( إن كنت على بينة من ربي إلى قوله فعميت عليكم ) معترضة بين فعل ( أرأيتم ) وما سد مسد مفعوليه .
والاستفهام في ( أنلزمكموها ) إنكاري أي لا نكرهكم على قبولها فعلق الإلزام بضمير البينة أو الرحمة . والمراد تعليقه بقبولها بدلالة القرينة .
والبينة : الحجة الواضحة وتطلق على المعجزة فيجوز أن تكون معجزته الطوفان ويجوز أن تكون له معجزات أخرى لم تذكر فإن بعثة الرسل عليهم السلام لا تخلو من معجزات .
والمراد بالرحمة نعمة النبوءة والتفضيل عليهم الذي أنكروه مع ما صحبها من البينة لأنها من تمامها فعطف ( الرحمة ) على ( البينة ) يقتضي المغايرة بينهما وهي مغايرة بالعموم والخصوص لأن الرحمة أعم من البينة إذ البينة على صدقه من جملة الرحمة به ولذلك لما أعيد الضمير في قوله ( فعميت ) أعيد على ( الرحمة ) لأنها أعم .
A E و ( عليكم ) متعلقة ب ( عميت ) وهو حرف تتعدى به الأفعال الدالة على معنى الخفاء مثل : خفي عليك . ولما كان عمي في معنى خفي عدي ب ( على ) وهو للاستعلاء المجازي أي التمكن أي قوة ملازمة البينة والرحمة له .
واختيار وصف الرب دون اسم الجلالة للدلالة على أن إعطاءه البينة والرحمة فضل من الله أراد به إظهار رفقه وعنايته به