وإنما الكمال الحق هو زكاء النفس واستقامة العقل فهما السبب المطرد لإيصال المنافع العامة لما في هذا العالم ولهما تكون القوى المنفذة خادمة كالشجاعة للمدافعين عن الحق والملجئين للطغاة على الخنوع إلى الدين على أن ذلك معرض للخطأ وغيبة الصواب فلا يكون له العصمة من ذلك إلا إذا كان محفوفا بالإرشاد الإلهي المعصوم وهو مقام النبوءة والرسالة .
فهؤلاء الكفرة من قوم نوح لما قصروا عن إدراك أسباب الكمال وتطلبوا الأسباب من غير مكانها نظروا نوحا عليه السلام وأتباعه فلم يروه من جنس غير البشر وتأملوه وأتباعه فلم يروا في أجسامهم ما يميزهم عن الناس وربما كان في عموم الأمة من هم أجمل وجوها أو أطول أجساما .
من أجل ذلك أخطأوا الاستدلال فقالوا ( ما نراك إلا بشرا مثلنا ) فأسندوا الاستدلال إلى الرؤية . والرؤية هنا رؤية العين لأنهم جعلوا استدلالهم ضروريا من المحسوس من أحوال الأجسام أي ما نراك غير إنسان وهو مماثل للناس لا يزيد عليهم جوارح أو قوائم زائدة .
والبشر محركة : الإنسان ذكرا أو أنثى واحدا كان أو جمعا . قال الراغب : " عبر عن الإنسان بالبشر اعتبارا بظهور بشرته وهي جلده من الشعر بخلاف الحيوانات التي عليها الصوف والشعر والوبر " أي والريش . والبشر مرادف الإنسان فيطلق كما يطلق الإنسان على الواحد والأكثر والمؤنث والمذكر . وقد يثنى كما في قوله تعالى ( أنؤمن لبشرين مثلنا ) .
وقالوا ( وما نراك اتبعك إلا الذين هم أراذلنا ) فجعلوا أتباع الناس المعدودين في عادتهم أراذل محقورين دليلا على أنه لا ميزة له على سادتهم الذين يلوذ بهم أشراف القوم وأقوياؤهم . فنفوا عنه سبب السيادة من جهتي ذاته وأتباعه وذلك تعريض بأنهم لا يتبعونه لأنهم يترفعون عن مخالطة أمثالهم وأنه لو أبعدهم عنه لاتبعوه ولذلك ورد بعده ( وما أنا بطارد الذين آمنوا ) الآية .
والأرذال : جمع أرذل المجعول اسما غير صفة كذلك على القياس أو جمع رذيل على خلاف القياس . والرذيل : المحتقر . وأرادوا أنهم من لفيف القوم غير سادة ولا أثرياء . وإضافة " أراذل " إلى ضمير جماعة المتكلمين لتعيين القبيلة أي أراذل قومنا . وعبر عنهم بالموصول والصلة دون أن يقال : إلا أراذلنا لحكاية أن في كلام الذين كفروا إيماء إلى شهرة أتباع نوح عليه السلام بين قومهم بوصف الرذالة والحقارة وكان أتباع نوح عليه السلام من ضعفاء القوم ولكنهم من أزكياء النفوس ممن سبق لهم الهدى .
و ( بادي ) قرأه الجمهور بياء تحتية في آخره على أنه مشتق من بدا المقصور إذا ظهر وألفه منقلبة عن الواو لما تحركت وانفتح ما قبلها فلما صيغ منه وزن فاعل وقعت الواو متطرفة إثر كسرة فقلبت ياء . والمعنى فيما يبدو لهم من الرأي دون بحث عن خفاياه ودقائقه .
وقرأه أبو عمرو وحده بهمزة في آخره على أنه مشتق من البداء وهو أول الشيء .
والمعنى : فيما يقع أول الرأي أي دون إعادة النظر لمعرفة الحق من التمويه ومآل المعنيين واحد .
والرأي : نظر العقل مشتق من فعل رأي كما استعمل رأي بمعنى ظن وعلم .
يعنون أن هؤلاء قد غرتهم دعوتك فتسرعوا إلى متابعتك ولو أعادوا النظر والتأمل لعلموا أنك لا تستحق أن تتبع .
وانتصاب ( بادئ الرأي ) بالنيابة عن الظرف أي في وقت الرأي دون بحث عن خفيه أو في الرأي الأول دون إعادة نظر .
وإضافة ( بادئ ) إلى ( الرأي ) من إضافة الصفة إلى الموصوف ومعنى كلامهم : لا يبلث أن يرجع إلى متبعيك رشدهم فيعيدوا التأمل في وقت آخر ويكشف لهم خطؤهم .
A E ولما وصفوا كل فريق من التابع والمتبوع بما ينفي سيادة المتبوع وتزكية التابع جمعوا الوصف الشامل لهما . وهو المقصود من الوصفين المفرقين . وذلك قولهم ( وما نرى لكم علينا من فضل ) فنفوا أن يكون لنوح عليه السلام وأتباعه فضل على الذين لم يؤمنوا به حتى يكون نوح عليه السلام سيدا لهم ويكون أتباعه مفضلين بسيادة متبوعهم .
والفضل : الزيادة في الشرف والكمال والمراد هنا آثاره وعلاماته لأنها التي ترى فجعلوا عدم ظهور فضل لهم عليهم دليلا على انتفاء فضلهم لأن الشيء الذي لا تخفى آثاره يصح أن يجعل انتفاء رؤيتها دليلا على انتفائها إذ لو ثبتت لريئت