و ( العذاب ) هنا نكرة في المعنى لأنه أضيف إلى نكرة فكان محتملا لعذاب الدنيا وعذاب الآخرة . فأما عذاب الدنيا فليس مقطوعا بنزوله بهم ولكنه مظنون من نوح عليه السلام بناء على ما علمه من عناية الله بإيمان قومه وما أوحي إليه من الحرص في التبليغ فعلم أن شأن ذلك أن لا يترك من عصوه دون عقوبة . ولذلك قال في كلامه الآتي ( إنما يأتيكم به الله إن شاء ) على ما يأتي هنالك . وكان العذاب شاملا لعذاب الآخرة أيضا إن بقوا على الكفر وهو مقطوع به لأن الله يقرن الوعيد بالدعوة فلذلك قال نوح عليه السلام في كلامه الآتي ( وما أنتم بمعجزين ) وقد تبادر إلى أذهان قومه عذاب الدنيا لأنهم لا يؤمنون بالبعث فلذلك قالوا في كلامهم الآتي ( فأتنا بما تعدنا إن كنت من الصادقين ) . ولعل في كلام نوح عليه السلام ما تفيدهم أنه توعدهم بعذاب في الدنيا وهو الطوفان .
( فقال الملأ الذين كفروا من قومه ما نراك إلا بشرا مثلنا وما نراك اتبعك إلا الذين هم أراذلنا بادي الرأي وما نرى لكم علينا من فضل بل نظنكم كاذبين [ 27 ] ) عطف قول الملأ من قومه بالفاء على فعل ( أرسلنا ) للإشارة إلى أنهم بادروه بالتكذيب والمجادلة الباطلة لما قال لهم ( إني لكم نذير مبين ) إلى آخره . ولم تقع حكاية ابتداء محاورتهم إياه ب ( قال ) مجردا عن الفاء كما وقع في الأعراف لأن ابتداء محاورته إياهم هنا لم يقع بلفظ القول فلم يحك جوابهم بطريقة المحاورات بخلاف آية الأعراف .
والملأ : سادة القوم . وتقدم عند قوله تعالى ( قال الملأ من قومه إنا لنراك في ضلال مبين ) في سورة الأعراف .
جزموا بتكذيبه فقدموا لذلك مقدمات استخلصوا منها تكذيبه وتلك مقدمات باطلة أقاموها على ما شاع بينهم من المغالطات الباطلة التي روجها الإلف والعادة فكانوا يعدون التفاضل بالسؤدد وهو شرف مصطلح عليه قوامه الشجاعة والكرم وكانوا يجعلون أسباب السؤدد أسبابا مادية جسدية فيسودون أصحاب الأجسام البهجة كأنهم خشب مسندة لأنهم ببساطة مداركهم العقلية يعظمون حسن الذوات ويسودون أهل الغنى لأنهم يطمعون في نوالهم ويسودون الأبطال لأنهم يعدونهم لدفاع أعدائهم . ثم هم يعرفون أصحاب تلك الخلال إما بمخالطتهم وإما بمخالطة أتباعهم فإذا تسامعوا بسيد قوم ولم يعرفوه تعرفوا أتباعه وأنصاره فإن كانوا من الأشراف والسادة علموا أنهم ما اتبعوه إلا لما رأوا فيه من موجبات السيادة ؛ وهذه أسباب ملائمة لأحوال أهل الضلالة إذ لا عناية لهم بالجانب النفساني من الهيكل الإنساني .
فلما دعاهم نوح عليه السلام دعوة علموا منها أنه يقودهم إلى طاعته ففكروا وقدروا فرأوا الأسباب المألوفة بينهم للسؤدد مفقودة من نوح عليه السلام ومن الذين اتعبوه فجزموا بأنه غير حقيق بالسيادة عليهم فجزموا بتكذيبه فيما ادعاه من الرسالة بسيادة للأمة وقيادة لها .
وهؤلاء لقصور عقولهم وضعف مداركهم لم يبلغوا إدراك أسباب الكمال الحق فذهبوا يتطلبون الكمال من أعراض تعرض للناس بالصدفة من سعة مال أو قوة أتباع أو عزة قبيلة . وتلك أشياء لا يطرد أثرها في جلب النفع العام ولا إشعار لها بكمال صاحبها إذ يشاركه فيها أقل الناس عقولا والحيوان الأعجم مثل البقرة بما في ضرعها من لبن والشاة بما على ظهرها من صرف بل غالب حالها أنها بضد ذلك .
A E وربما تطلبوا الكمال في أجناس غير مألوفة كالجن أو زيادة خلقة لا أثر لها في عمل المتصف بها مثل جمال الصورة وكمال القامة وتلك وإن كانت ملازمة لموصوفاتها لكنها لا تفيدهم أن يكونوا مصادر كمالات فقد يشاركهم فيها كثير من العجماوات كالظباء والمها والطواويس فإن ارتقوا على ذلك تطلبوا الكمال في أسباب القوة والعزة من بسطة الجسم وإجادة الرماية والمجالدة والشجاعة على لقاء العدو . وهذه أشبه بأن تعد في أسباب الكمال ولكنها مكملات للكمال الإنساني لأنها آلات لإنقاذ المقاصد السامية عند أهل العقول الراجحة والحكمة الإلهية كالأنبياء والملوك الصالحين وبدون ذلك تكون آلات لإنفاذ المقاصد السيئة مثل شجاعة أهل الحرابة وقطاع الطريق والشطار ومثل القوة على خلع الأبواب لاقتحام منازل الآمنين