والذي في الآية تشبيه معقولين بمحسوسين واعتبار كل حال من حالي فريق الكفار لا محيد عنه لأن حصول أحد الحالين كاف في جر الضلال إليهم بله اجتماعهما إذ المشبه بهما أمر عدمي فهو في قوة المنفي .
وأما الداعي إلى العطف في صفتي ( البصير والسميع ) بالنسبة لحال فريق المؤمنين فبخلاف ما قررنا في حال فريق الكافرين لأن حال المؤمنين تشبه حالة مجموع صفتي ( البصير والسميع ) إذ الاهتداء يحصل بمجموع الصفتين فلو ثبتت إحدى الصفتين وانتفت الأخرى لم يحصل الاهتداء إذ الأمران المشبه بهما أمران وجوديان فهما في قوة الإثبات ؛ فتعين أن الكون الداعي إلى عطف ( السميع ) على ( البصير ) في تشبيه حال فريق المؤمنين هو المزاوجة في العبارة لتكون العبارة عن حال المؤمنين مماثلة للعبارة عن حال الكافرين في سياق الكلام والمزاوجة من محسنات الكلام ومرجعها إلى فصاحته .
وجملة ( هل يستويان مثلا ) واقعة موقع البيان للغرض من التشبيه وهو نفي استواء حالهما ونفي الاستواء كناية عن التفضيل والمفضل منهما معلوم من المقام أي معلوم تفضيل الفريق الممثل بالسميع والبصير على الفريق الممثل بالأعمى والأصم . والاستفهام إنكاري .
وانتصب ( مثلا ) على التمييز أي من جهة حالهما والمثل : الحال .
والمقصود تنبيه المشركين لما هم فيه من الضلالة لعلهم يتداركون أمرهم فلذلك فرع عليه بالفاء جملة ( أفلا تذكرون ) .
والهمزة استفهام وإنكار انتفاء تذكرهم واستمرارهم في ضلالهم .
وقرأ الجمهور ( تذكرون ) بتشديد الذال . وأصله تتذكرون فقلبت التاء دالا لقرب مخرجيهما وليتأتى الإدغام تخفيفا . وقرأه حفص وحمزة والكسائي بتخفيف الذال على حذف إحدى التاءين من أول الفعل .
وفي مقابلة ( الأعمى والأصم ) ب ( البصير والسميع ) محسن الطباق .
( ولقد أرسلنا نوحا إلى قومه إني لكم نذير مبين [ 25 ] أن لا تعبدوا إلا الله إني أخاف عليكم عذاب يوم أليم [ 26 ] ) انتقال من إنذار المشركين ووصف أحوالهم وما ناسب ذلك إلى موعظتهم بما أصاب المكذبين قبلهم من المصائب وفي ذلك تسلية للنبي صلى الله عليه وسلم بما لاقاه الرسل عليهم السلام قبله من أقوامهم .
فالعطف من عطف القصة على القصة وهي التي تسمى الواو الابتدائية .
وأكدت الجملة بلام القسم و ( قد ) لأن المخاطبين لما غفلوا عن الحذر مما بقوم نوح مع مماثلة حالهم نزلوا منزلة المنكر لوقوع رسالته .
وقرأ نافع وعاصم وابن عامر وحمزة ( إني ) بكسر الهمزة على أنه محكي بفعل قول محذوف في محل حال أي قائلا .
وقرأه ابن كثير وأبو عمرو والكسائي وأبو جعفر ويعقوب وخلف بفتح الهمزة على تقدير حرف جر وهو الباء للملابسة أي أرسلناه متلبسا بذلك أي بمعنى المصدر المنسبك من ( أني نذير ) أي متلبسا بالنذارة البينة .
وتقدم الكلام على نوح عليه السلام وقومه عند قوله تعالى ( إن الله اصطفى آدم ونوحا ) في آل عمران . وعند قوله ( لقد أرسلنا نوحا إلى قومه ) في سورة الأعراف .
وجملة ( ألا تعبدوا إلا الله ) مفسرة لجملة ( أرسلنا ) لأن الإرسال فيه معنى القول دون حروفه ويجوز كونها تفسيرا ل ( نذير ) لما في ( نذير ) من معنى القول كقوله في سورة نوح ( قال يا قوم إني لكم نذير مبين أن اعبدوا الله واتقوه ) . وهذا الوجه متعين على قراءة فتح همزة ( أني ) إذا اعتبرت ( أن ) تفسيرية . ويجوز جعل ( أن ) مخففة من الثقيلة فيكون بدلا من ( أني لكم نذير مبين ) على قراءة فتح الهمزة واسمها ضمير شأن محذوفا أي أنه لا تعبدوا إلا الله .
وجملة ( إني أخاف عليكم عذاب يوم أليم ) تعليل ل ( نذير ) لأن شأن النذارة أن تثقل على النفوس وتخزهم فكانت جديرة بالتعليل لدفع حرج ما يلاقونه .
A E ووصف اليوم بالأليم مجاز عقلي وهو أبلغ من أن يوصف العذاب بالأليم لأن شدة العذاب لما بلغت الغاية جعل زمانه أليما أي مؤلما .
وجملة ( أخاف عليكم ) ونحوها مثل أخشى عليك تستعمل للتوقع في الأمر المظنون أو المقطوع به باعتبار إمكان الانفلات من المقطوع به كقول لبيد : .
أخشى على أربد الحتوف ولا ... أخشى عليه الرياح والمطرا فيتعدى الفعل بنفسه إلى الخوف منه ويتعدى إلى المخوف عليه بحرف ( على ) كما في الآية وبيت لبيد