والإبصار المنفى هو النظر في المصنوعات الدالة على الوحدانية أي ما كانوا يوجهون أنظارهم إلى المصنوعات توجيه تأمل واعتبار بل ينظرون إليها نظر الغافل عما فيها من الدقائق ولذلك لم يقل هنا : وما كانوا يستطيعون أن يبصروا لأنهم كانوا يبصرونها ولكن مجرد الإبصار غير كاف في حصول الاستدلال حتى يضم إليه عمل الفكر بخلاف السمع في قوله ( ما كانوا يستطيعون السمع ) .
ويجوز أن تكون الجملة حالا ل ( أولياء ) وسوغ كونها حالا من النكرة أن النكرة وقعت في سياق النفي . والمعنى : أنهم جعلوها آلهة لهم في حال أنها لا تستطيع السمع ولا الإبصار .
وإعادة ضمير جمع العقلاء على الأصنام على هذا الوجه منظور فيه إلى أن المشركين اعتقدوها تعقل ففي هذا الإضمار مع نفي السمع والبصر عنها ضرب من التهكم بهم .
والإتيان بأفعال الكون في هذه الجمل أربع مرات ابتداء من قوله ( أولئك لم يكونوا معجزين ) إلى قوله ( وما كانوا يبصرون ) لإفادة ما يدل عليه فعل الكون من تمكن الحدث المخبر به فقوله ( لم يكونوا معجزين ) آكد من : لا يعجزون وكذلك أخواته .
والاختلاف بين صيغ أفعال الكون إذ جاء أولها بصيغة المضارع والثلاثة بعده بصيغة الماضي لأن المضارع المجزوم بحرف ( لم ) له معنى المضي فليس المخالفة منها إلا تفننا .
( أولئك الذين خسروا أنفسهم وضل عنهم ما كانوا يفترون [ 21 ] لا جرم أنهم في الآخرة هم الأخسرون [ 22 ] ) استئناف واسم الإشارة هنا تأكيد ثان لاسم الإشارة في قوله ( أولئك يعرضون على ربهم ) .
والموصول في ( الذين خسروا أنفسهم ) مراد به الجنس المعروف بهذه الصلة أي أن بلغكم أن قوما خسروا أنفسهم فهم المفترون على الله كذبا وخسارة أنفسهم عدم الانتفاع بها في الاهتداء فلما ضلوا فقد خسروها .
وتقدم الكلام على ( خسروا أنفسهم ) عند قوله تعالى ( الذين خسروا أنفسهم فهم لا يؤمنون ) في سورة الأنعام .
والضلال : خطأ الطريق المقصود .
و ( ما كانوا يفترون ) ما كانوا يزعمونه من أن الأصنام تشفع لهم وتدفع عنهم الضر عند الشدائد قال تعالى ( فلولا نصرهم الذين اتخذوا من دون الله قربانا آلهة بل ضلوا عنهم وذلك إفكهم وما كانوا يفترون ) .
وفي إسناد الضلال إلى الأصنام تهكم على أصحابها . شبهت أصنامهم بمن سلك طريقا ليلحق بمن استنجد به فضل في طريقه .
وجملة ( لا جرم أنهم في الآخرة هم الأخسرون ) مستأنفة فذلكة ونتيجة للجمل المتقدمة من قوله ( أولئك يعرضون على ربهم ) لأن ما جمع لهم من الزج للعقوبة ومن افتضاح أمرهم ومن إعراضهم عن استماع النذر وعن النظر في دلائل الوحدانية يوجب اليقين بأنهم الأخسرون في الآخرة .
و ( لا جرم ) كلمة جزم ويقين جرت مجرى المثل وأحسب أن ( جرم ) مشتق مما تنوسي وقد اختلف أئمة العربية في تركيبها وأظهر أقوالهم أن تكون ( لا ) من أول الجملة و ( جرم ) اسم بمعنى محالة أي لا محالة أو بمعنى بد أي لا بد . ثم يجيء بعدها أن واسمها وخبرها فتكون ( أن ) معمولة لحرف جر محذوف . والتقدير : لا جرم من أن الأمر كذا . ولما فيها من معنى التحقيق والتوثيق وتعامل معاملة القسم فيجيء بعدها في ما يصلح لجواب قسم نحو : لا جرم لأفعلن . قاله عمرو بن معد يكرب لأبي بكر .
وعبر عما لحقهم من الضر بالخسارة استعارة لأنه ضر أصابهم من حيث كانوا يرجون المنفعة فهم مثل التجار الذين أصابتهم الخسارة من حيث أرادوا الربح .
A E وإنما كانوا أخسرين أي شديدي الخسارة لأنهم قد اجتمع لهم من أسباب الشقاء والعذاب ما افترق بين الأمم الضالة . ولأنهم شقوا من حيث كانوا يحسبونه سعادة قال تعالى ( قل هل ننبئكم بالأخسرين أعمالا الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبونه أنهم يحسنون صنعا ) فكانوا أخسرين لأنهم اجتمعت لهم خسارة الدنيا والآخرة .
وضمير ( هم الأخسرون ) ضمير فصل يفيد القصر وهو قصر ادعائي لأنهم بلغوا الحد الأقصى في الخسارة فكأنهم انفردوا بالأخسرية .
( إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات وأخبتوا إلى ربهم أولئك أصحاب الجنة هم فيها خالدون [ 23 ] )