واختصت هذه الآية على نظيرها في الأعراف بزيادة ( هم ) في قوله ( هم كافرون ) وهو توكيد يفيد تقوي الحكم لأن المقام هنا مقام تسجيل إنكارهم البعث وتقريره إشعارا بما يترقبهم من العقاب المناسب فحكي به من كلام الأشهاد ما يناسب هذا وما في سورة الأعراف حكاية لما قيل في شأن قوم أدخلوا النار وظهر عقابهم فلا غرض لحكاية ما فيه تأكيد من كلام الأشهاد وكلا المقالتين واقع وإنما يحكي البليغ فيما يحكيه ما له مناسبة لمقام الحكاية .
( أولئك لم يكونوا معجزين في الأرض ) استئناف بياني ناشئ عن الاقتصار في تهديدهم على وصف بعض عقابهم في الآخرة فإن ذلك يثير في نفس السامع أن يسأل : هل هم سالمون من عذاب الدنيا . فأجيب بأنهم لم يكونوا معجزين في الدنيا أي لا يخرجون عن مقدرة الله على تعذيبهم في الدنيا إذا اقتضت حكمته تعجيل عذابهم .
وإعادة الإشارة إليهم بقوله ( أولئك ) بعد أن أشير إليهم بقوله ( أولئك يعرضون على ربهم ) لتقرير فائدة اسم الإشارة السابق . والمعنى : أنهم يصيرون إلى حكم ربهم في الآخرة ولم يكونوا معجزيه أن يعذبهم في الدنيا متى شاء تعذيبهم ولكنه أراد إمهالهم .
والمعجز هنا الذي أفلت ممن يروم إضراره . وتقدم بيانه عند قوله تعالى ( إن ما توعدون لآت وما أنتم بمعجزين ) في سورة الأنعام .
والأرض : الدنيا . وفائدة ذكره أنهم لا ملجأ لهم من الله لو أراد الانتقام منهم فلا يجدون موضعا من الأرض يستعصمون به . فهذا نفي للملاجئ والمعاقل التي يستعصم فيها الهارب . وعندي أن مقارنة ( في الأرض ) ب ( معجزين ) جرى مجرى المثل في القرآن كما في قوله تعالى ( ومن لا يجب داعي الله فليس بمعجز في الأرض ) ولعله مما جرى كذلك في كلام العرب كما يؤذن به قول إياس ابن قبيصة الطائي من شعراء الجاهلية : .
ألم تر أن الأرض رحب فسيحة ... فهل تعجزني بقعة من بقاعها ( وما كان لهم من دون الله من أولياء ) يجوز أن يكون المراد بالأول الأنصار أي ما لهم ناصر ينصرهم من دون الله . فجمع لهم نفي سببي النجاة من عذاب القادر وهما المكان الذي لا يصل إليه القادر أو معارضة قادر آخر إياه يمنعه من تسليط عقابه . و ( من دون الله ) متعلق ب ( أولياء ) لما في الولي هنا ومن معاني الحائل والمباعد بقوله ( ومن يتخذ الشيطان وليا من دون الله فقد خسر خسرانا مبينا ) .
ويجوز أن يراد بالأولياء الأصنام التي تولوها أي أخلصوا لا المحبة والعبادة .
ومعنى نفي الأولياء عنهم بهذا المعنى نفي أثر هذا الوصف أي لم تنفعهم أصنامهم وآلهتهم .
و ( من دون الله ) على هذا الوجه بمعنى من غير الله ف ( دون ) اسم غير ظرف و ( من ) الجارة ل ( دون ) زائدة تزاد في الظروف غير المتصرفة و ( من ) الجارة ل ( أولياء ) زائدة لاستغراق الجنس المنفي أي ما كان لهم فرد من أفراد جنس الأولياء .
والعذاب المضاعف هو عذاب الآخرة بقرينة قوله ( لم يكونوا معجزين في الأرض ) المشعر بتأخير العذاب عنهم في الدنيا لا عن عجز .
( يضاعف لهم العذاب ) خبر عن اسم الإشارة . ويجوز أن تكون جملة ( لم يكونوا معجزين في الأرض ) خبرا أولا وجملة ( يضاعف ) خبرا ثانيا . ويجوز أن تكون جملة ( لم يكونوا معجزين ) حالا وجملة ( يضاعف ) خبرا أول .
( ما كانوا يستطيعون السمع وما كانوا يبصرون [ 20 ] ) يجوز أن يكون هذا خبرا عن اسم الإشارة أو حالا منه فتكون استطاعة السمع المنفية عنهم مستعارة لكراهيتهم سماع القرآن وأقوال النبي صلى الله عليه وسلم كما نفيت الإطاقة في قول الأعشى : .
" وهل تطيق وداعا أيها الرجل A E أراد بنفي إطاقة الوداع عن نفسه أنه يحزن لذلك الحزن من الوداع فأشبه الشيء غير المطاق وعبر هنا بالاستطاعة لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يدعوهم إلى استماع القرآن فيعرضون لأنهم يكرهون أن يسمعوه . قال تعالى ( ويل لكل أفاك أثيم يسمع آيات الله تتلى عليه ثم يصر مستكبرا كأن لم يسمعها وقال الذين كفروا لا تسمعوا لهذا القرآن والغوا فيه لعلكم تغلبون ) لأنهم لو سمعوا ووعوا لاهتدوا لأن الكلام المسموع مشتمل على تركيب الأدلة ونتائجها فسماعه كاف في حصول الاهتداء