عضو كتلة الوفاء للمقاومة، النائب الشيخ حسن عزّ الدين

انتصار 2006 جعل المقاومة رقمًا صعبًا في المعادلة الإقليمية |"طوفان الأقصى" تاريخ جديد يُكتب لقضية فلسطين

انتصار 2006 جعل المقاومة رقمًا صعبًا في المعادلة الإقليمية |"طوفان الأقصى" تاريخ جديد يُكتب لقضية فلسطين

ينشر موقع KHAMENEI.IR الإعلامي مقابلة مع عضو كتلة الوفاء للمقاومة في حزب الله، النائب الشيخ حسن عز الدين، في ذكرى انتصار تموز على الكيان الإسرائيلي، حول أهم عوامل هذا الانتصار، وظروف تحوّل حزب الله من قوّة محليّة إلى قوّة إقليمية.


ما أهمّ عوامل الانتصار في الـ 2000، والـ 2006؟

بسم الله الرحمن الرحيم

عندما نريد أن نتحدث عن المقاومة الإسلامية في لبنان، فإننا نجد أنفسنا أمام تجربة غنيّة، وتجربة فريدة، وتجربة تُشكّل نموذجًا للتحرير، هذا التحرير الذي أنجزته المقاومة بعد حربها الطويلة مع أعتى الأعداء، خاصةً الكيان الصهيوني المدعوم من قبل الغرب، ومن قبل الإدارة الأمريكية، فأمريكا ترى في هذا الكيان رأس حربة لتفتيت المنطقة، وتعدّه أيضًا قاعدة متقدمة للحفاظ على مصالحها.

سأذكر أهم العوامل التي يمكن أن نتحدث عنها على نحوٍ مختصر، وهذه العوامل مجتمعةً هي التي مكّنت اللبنانيين من الانتصار في سنة 2000، وكان انتصارًا مدويًّا لأوّل مرة في تاريخ لبنان والعرب.

العامل الأول، أن المقاومة بدأت عملها وفعلها بعد اجتياح 1982، حينها وصل هذا العدو الإسرائيلي إلى ثاني عاصمة عربية، واحتلّها، وطوّقها وحاصرها لمدة ثلاثة أشهر.

بدأت هذه المقاومة بفتوى من الإمام الخميني «قدس سره»، وأتذكّر في تلك المرحلة أنّ "خرمشهر" كانت قد سقطت، وأتى مَن أخبرَ الإمامَ أن العدو الإسرائيلي دخل إلى لبنان، واحتلّ بيروت، فقال: «الخير فيما وقع». ثم عمل مباشرة على إصدار فتوى بوجوب قتال هذا العدو، ووجّهها إلى كل مَن يقدر على حمل السلاح من اللبنانيين، وخاصة المسلمين.

وهكذا، تلقّف الشباب المؤمن من اللجان المساندة للثورة الإسلامية هذه الفتوى، وهم مجموعة من الشباب الملتزمين. وأيضًا، تلقّفها مَن كان في سائر أطياف الحركة الوطنية، والإخوة في حركة أمل. وبدأ قتال هذا العدو دون النظر على الإطلاق إلى ميزان القوى، أو الفارق الشاسع بين ما نملك وما يملكه هذا العدو.

وهذه الفتوى، وما لحقها، أراها من العوامل الأساسية في عملية المواجهة، بوصفها الفتوى التي تُشكّل الغطاء الشرعي للمتدينين، والمؤمنين بالإسلام، والمؤمنين بالجهاد والدفاع عن الأرض والعرض والشرف والكرامة. وعليه، فقد أطلقت هذه الفتوى العنان لكل الشباب الذين بدأوا القتال ضد هذا العدو، إلى جانب الإخوة الآخرين الذين قاتلوه.

العامل الثاني الذي نستطيع أن نتحدث عنه، هو عامل الدعم السياسي واللوجيستي للشعب اللبناني من قبل الجمهورية الإسلامية، فقد شكّلت الجمهورية الإسلامية ركيزة حاضنة لكل حركات التحرر في العالم، ولكل من يقاتل هذا العدو، ويقاتل الظالمين والمستبدين والمستكبرين. فكانت الجمهورية تدعم هؤلاء المقاتلين، كما تدعم شعوب هذه الدول التي ينتمون إليها، بغض النظر عن انتمائهم الطائفي أو المذهبي.

وبذلك، أسهم هذا الدعم السياسي، وهذا الغطاء الشرعي أيضًا، في وجود مقرّات في لبنان لتدريب الشباب، ومَن يرغب في قتال هذا العدو، بالتنسيق بين الجمهورية الإسلامية وسوريا التي قامت بواجبها على نحوٍ جيّد جدًّا.

العامل الثالث، هو ما يُعبّر عنه بالصمود والتحدي مقابل كل التهديدات والتحديات، وخاصةً - كما قلت - أنّ هذه المقاومة، مع إمكانياتها الضعيفة، ومع التهديدات الوجودية والاستراتيجية لها، تحمّلت كل هذه التهديدات، وصمدت، وصبرت، واستطاعت من خلال المواجهة أن تتجاوز هذه التحديات والتهديدات، بشكل أو بآخر.

العامل الرابع، أنّ مبدأ القلّة لم يقف حاجزًا على الإطلاق أمام الانتصار المجيد، فقد سقطت كل المقولات من مثل: «العين لا تقاوم المخرز»، مقابل المبدأ الوارد في القرآن الكريم: ﴿كَم مِّن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإذْنِ اللَّهِ﴾. فقد آمن المقاتلون بحتميّة انتصارهم، رغم قلّتهم، وآمنوا أن الإمكانيات يمكن أن توجد وتنمو في خضم القتال.

ويرتبط هذا العامل بانتقال المقاومة إلى مرحلة جديدة، بعد أن أصبحت مقاومةً قوية متجذّرة بدعم الناس، واحتضانهم لها. وقد بدأت المقاومة في هذه المرحلة بالتعرّف على نقاط ضعف العدو، ونقاط قوته، وبدأت تعمل وتُخطّط على أساس نقاط الضعف لديه، مما أدى – نتيجة القتال المستمر - إلى انسحاب الجيش الصهيوني من بيروت إلى نهر الأوّلي، ومن نهر الأوّلي إلى جنوب الليطاني، ثم إلى ما سُمّي آنذاك بالشريط المحتل، وأنشأ العدو هناك "جيش لحد"، ليكون بمنزلة أكياس الرمل التي ستحمي العدو، فزادت وتيرة عمليات المقاومة. وهذه أيضًا من النقاط التي نستطيع أن نوردها ضمن هذا السياق.

العامل الخامس، أنّ المقاومة أصبحت تمتلك قيادة عملياتية فعلية، فقد كانت هذه القيادة حكيمة وشجاعة، وأظهرت - من خلال تعاملها مع كل التحديات والتهديدات - أنها قادرة على تجاوز المخاطر التي تحيط بالمقاومة، وأنها تجاوزت الأزمات التي مرت بها.

وكان لهذا الأمر دور أساسي في الانتصار، فقد أدّت سمات هذه القيادة إلى التفاف البيئة الحاضنة للمقاومة حولها، مما جعلها قوّة داعمة أساسية، لها جذور راسخة في الوجدان الشعبي. إضافةً إلى مجموعة من التحوّلات المهمّة على الساحة اللبنانية بعد خروج العدو، والقضاء على كل مفاعيل الاجتياح الصهيوني، ومن أهم هذه التحوّلات: تحوّلُ الجيش اللبناني إلى جيش وطني. فأصبح عملُ المقاومة قائمًا على ثلاثية «الشعب والجيش الوطني والمقاومة»، وكان لهذه الثلاثية دور أساسي في الانتصار أيضًا.

العامل الأخير، نستطيع أن نتحدث فيه عن مبدأية هذه المقاومة، ورفضها لكل أنواع المساومة أو الاعتراف بهذا العدو. بمعنى آخر، عقائدية هذه المقاومة الإسلامية التي وضعت نصب أعينها تحرير فلسطين، وتحرير لبنان من هذا العدو. وعليه، بدأت المقاومة بتعزيز كل قدرات الحزب «حزب الله»، بأنواعها: «السياسية، والإعلامية، والتنظيمية، والاجتماعية، والتربوية»، فأصبح لدينا مقاومة شاملة بكل المعايير، وفي مقدّمتها، جوهر هذه المقاومة الرئيسي: المقاومة المسلحة.

وهكذا، تمكّنت المقاومة - بهذه العوامل مجتمعةً - من أن تصل إلى النصر على هذا العدو، في الـ 25 من أيار، عام 2000، وهو عام التحرير.

تكمن قيمة هذا التحرير، وهذا النصر، في أن لبنان - الذي كان الحلقة الأضعف بنظر الإسرائيليين - هو الذي انتصر على هذا العدو، وأخرجه بقوة النار، وأفشل مشروع "إسرائيل الكبرى". وهذه سابقة عظيمة في تاريخ الصراع العربي - الإسرائيلي.

هذا في ما يتعلّق بالنصر سنة 2000. وبالانتقال إلى سنة 2006، يمكننا القول:

لا شك أن إفشال مشروع الصهاينة القائم على "إسرائيل الكبرى"، وخروجهم مهزومين تحت قوة النيران، أضعف هذا الكيان. وفي المقابل أعطى المقاومةَ معنويات مرتفعة، وأعطاها القدرات والقوة، وزاد من خبرتها في مواجهة هذا العدو. فكان انتصار سنة 2000 انكسارًا لهذا العدو، كما كان انكسارًا لمقولة «الجيش الذي لا يُقهر».

وهكذا، نحن أمام تحوّل جديد ومختلف تمامًا، ذلك أن هذا النصر تم إهداؤه لكل العرب، ولكل المسلمين، ولكل الأحرار في العالم. ثم بدأت المقاومة الإعداد لمزيد من القدرات والإمكانيات؛ لأن هذا العدو لا يُؤمَن جانبه، وهو يُشكّل تهديدًا حقيقيًّا لاستقرار المنطقة، وتهديدًا لجميع الدول العربية.

لقد أوقفت المقاومة مشروع التوسع الصهيوني، وبدأ معها مسلسل التراجع والانسحاب من الأرض التي احتلّها العدو بالقوة؛ ليبقى فيها، لكنه خرج من لبنان مدحورًا.

وفيما بعد، جرت المواجهة مع العدو في فلسطين، وفي غزّة تحديدًا، وشاهدنا في سنة 2004 كيف خرج هذا العدو أيضًا - بفعل قوّة المقاومة - من قطاع غزة، الذي يواجه اليوم حرب إبادة وإجرام صهيونية.

وعليه، فإن العوامل التي أدّت أيضًا إلى الصمود، وأدّت إلى انتصار الـ 2006، هي:

أولًا، كانت هذه الحرب حربًا عالمية. كانت بقرار أمريكي، وتنفيذ إسرائيلي، ودعم لوجستي أمريكي وغربي من معظم الدول، التي ما زالت اليوم أيضًا تدعم ما يجري في غزة. لكن المقاومة انتصرت رغم ذلك، ولهذا النصر عوامل مهمّة أسهمت في تحقيقه.

لقد أدّى هذا الانتصار إلى تحوّل تاريخي واستراتيجي في مسار المقاومة ومسار العدو معًا، فالمقاومة غادرت عصر الهزائم الذي كان في حروب العرب مع العدو، وبدأ معها عصر الانتصارات. والعكس صحيح أيضًا، فالعدو غادر عصر انتصاراته في الحروب التي كان يحسمها على نحو سريع، من الـ 56، إلى الـ 67، إلى الـ 73، إلى آخر ما هنالك من اعتداءات.

وبذلك، أصبحنا أمام مرحلة جديدة، أمام مقاومة من نوع جديد، أمام مقاومة باتت - بعد التحرير - تُشكّل مرجعية ونموذجاً يقتدى لكل من يريد التحرر، كما أعطت هذه المقاومة زخمًا ودفعًا قويًّا وكبيرًا للقضية الفلسطينية، وأسّست للتقارب بين قوى المقاومة في لبنان وفلسطين.

وهكذا، أصبحت المقاومة رقمًا صعبًا في المعادلة الإقليمية ضمن المنطقة، وخاصة أن الإدارة الأمريكية تلقّت صفعة مؤلمة في لبنان، فهي كانت تريد – نتيجة تفرّدها بالقرار العالمي – صياغة شرق أوسط جديد، وكان العدوان الأمريكي على العراق سنة 2003 تحت ذرائع واهية بدايةً لتحقيق هذا المشروع، فجاءت الهزيمة التي تلقّتها في لبنان، وكسر رأس حربتها "إسرائيل"، تقويضًا لهذا المشروع.

إن فشلَ مشروع الشرق الأوسط الجديد الذي أعلنه الأمريكي آنذاك، ورغبةَ العدو بالثأر لهزائمه، دفعهما إلى الانخراط معاً في حرب جديدة، وهي حرب الـ 2006.

في هذه المرحلة، كانت المقاومة قد أصبحت أكثر قوة، بجاهزية عالية، وإعداد مسبق لأي محاولة اعتداء من العدو. فرسمت المقاومة حدودًا ومعادلات مع هذا العدو الذي لم يجرؤ آنذاك على تجاوزها.

العامل الآخر، كان هناك التفاف عربي، ولبناني، وفي وجدان الناس، حول نصر سنة 2000 الذي أعاد لهم الكرامة العربية، وأعاد لهم هذه الروح التي شعروا فيها بنصر عزيز وكبير، وهذا ما ألقى بمسؤولية كبيرة على المقاومة التي حسّنت من قدراتها، ومن تسلّحها، ومن تأهيل كوادرها ومجاهديها، إلى آخر ما هنالك، لخوض أي معركة قد يُقدم عليها هذا العدو.

إلى أن كانت حرب الـ 2006 التي أرادها الأمريكي لتعويض فشله في العراق، كما أرادها حربًا عالمية لإحياء مشروع الشرق الأوسط الجديد، ولإعادة ترسيخ هيمنة "إسرائيل" على المنطقة، من خلال تفوقها العسكري والأمني والاقتصادي والتكنولوجي، بما يضمن سيطرتها على الدول العربية.

ولكن الذي حصل أن العوامل التي ذكرتُها شكّلت عناصر قوّة للمقاومة، مع أن هذه الحرب كانت حربًا عالمية، وكانت حربًا أسهم فيها بعض العرب، وبعض الأنظمة العربية للآسف، وبعض شركاء الوطن في لبنان أيضًا. وعلى الرغم من كل ذلك، فقد حطّمت المقاومة كل الأهداف من هذا المشروع الذي حاول الأمريكي والإسرائيلي تمريره من خلال الانتصار بهذه الحرب، وأخفقت أمريكا والعدو الصهيوني ومن معهم آنذاك، وخرجت المقاومة منتصرة رغم حجم الدمار، وحجم القتل، وحجم المعركة، وأثبتت هذه المقاومة أنها أصبحت قوّة إقليمية بامتياز، باعتراف الأعداء والأصدقاء، وتمكّنت عبر هذه الحرب من إعادة الهوية العربية للمنطقة، بعد أن حاول الأمريكي أن يجعلها من دون هوية، ليفسح المجال أمام الهيمنة الصهيونية.


السؤال الثاني: بعد حرب تموز، كيف تحوّل حزب الله إلى قوة إقليمية، وأفشل مشاريع الأمريكان في المنطقة، وانتصر على التكفير، وتحوّل من حزب محلي إلى طرف إقليمي فاعل؟ وما رأيكم بالمسار الموازي لتنامي حزب الله، أيْ توسّع محور المقاومة؟

في ما يتعلق بهذا السياق، لا بد من قراءة التحولات الدولية التي حكمت المراحل المتعاقبة في العالم الحديث، وخاصة في مرحلة التفرّد بعد التفكك. فإذا عدنا إلى الخلف قليلًا، نجد أن العنوان الأساسي والمفصلي لهذه التحولات هو انتصار الثورة الإسلامية المباركة، تلك الثورة التي استطاعت خرق القطبين العالميين، وتقديم خيار ثالث خارج إطار القطبية الثنائية المفروضة على العالم، وهذا الخيار هو الإسلام، وقد عبّرت عنه الثورة باختصار: «جمهورية إسلامية، لا شرقية ولا غربية».

وهكذا، نجد أنفسنا أمام أول رجل استطاع الخروج عن النظام الدولي في التاريخ الحديث، ذلك النظام الذي تقاسمه القطبان: الولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد السوفييتي. فالأمريكان عندهم الحلف الأطلسي، والسوفييت عندهم حلف وارسو. وأوروبا الغربية مع الأمريكان، بينما أوروبا الشرقية مع الاتحاد السوفيتي. أي الغرب مع أمريكا، والشرق مع الاتحاد السوفيتي.

وعليه، فإن أي مشكلة في العالم لا يمكن أن يوجد حلٌّ لها إلا بتوافق هاتين الإرادتين. لكن إيران خرجت عن هاتين الإرادتين نحو خيار آخر، هو خيار القرار الوطني المستقل، والسيادة الوطنية، والاستقلال عن الأجنبي، وعدم التبعية له، وبناء الشخصية الذاتية للدول التي تريد أن تعيش كما تريد، لا كما يريد الآخرون.

كان هذا التحوّل في النظام الدولي حدثًا استراتيجيًّا، تلاه مباشرةً – بعد نحو 10 سنوات - تفكك الاتحاد السوفيتي، وتفرّد أمريكا بالعالم.

ضمن هذا المسار، إذا أردنا أن نتكلم عن المقاومة، فسنرى كيف استطاعت أن تنتقل من مرحلة إلى مرحلة، بالجغرافيا، وبقدراتها وإمكانياتها، وبعقلها السياسي أيضًا. وضمن هذا المسار أيضًا، نجد أنه بعد تفرّد أمريكا بالعالم، انتهت الحرب العراقية الإيرانية، وانتهت أيضًا الأزمة اللبنانية في الـ 89، وتم إيجاد تسوية لها برعاية أمريكية. ونرى أيضًا كيف تم إخراج "صدام حسين" من الكويت، وما حصل في العراق في تلك المرحلة. ونجد بأن كل هذا يُتوّج بمؤتمر مدريد الذي كان الهدف منه تصفية القضية الفلسطينية لاعتبارات تتعلق بتحالف الأمريكان مع الصهاينة، وتثبيتهم في المعادلة الإقليمية، وجعلهم يتسيّدون المنطقة.

الذي حدث - انظر للتباين - أنه في ظل مرحلة التفوق الأمريكي، والتفرّد الأمريكي، استطاعت المقاومة في الـ 93 أن تخوض معركة تصفية الحساب مع العدو، حينها قال "رابين": «حزب الله هَزَمَنا». في الـ 93 أيضًا، ذهب بعض العرب إلى التفاوض مع العدو، وتم توقيع اتفاقية أوسلو، ثم اتفاقية وادي عربة، ليتم تضييق الخناق على الحكومة السورية في هذا الموضوع. ثم في الـ 96، حشدَ "شيمون بيريز" العالم في حربه على المقاومة، لكن هذه الحرب التي سُميّت بـ "عناقيد الغضب" أفضت إلى تثبيت حق المقاومة في قتال العدو، واعتراف أمريكا بمكانة المقاومة، رغم أنها صنّفتها ضمن المنظمات الإرهابية.

بعد كل هذه المحطات الأساسية، جاء انتصار الـ 2000، وبعده انتصار الـ 2006، فإذا بالخط البياني للمقاومة ونهجها في حالة تصاعد مستمر، وانتصارات دائمة، وتعزيز للقدرات والإمكانيات، مما جعل هذه المقاومة تنتقل من الجغرافيا اللبنانية إلى جغرافيا الوطن العربي، بل المنطقة بأسرها، لتصبح لاعبًا فاعلًا مؤثّرًا على المستوى الإقليمي، لا يقل أهمية عن بعض الدول في القدرات والإمكانيات.

ومن هنا ندخل إلى موضوع سوريا والعراق، والحرب التي أرادوها بعد "الربيع العربي" الذي حاول الأمريكي من خلاله تغيير الأنظمة، والاستفادة من هذه المناخات المضطربة في الوطن العربي، وكان الهدف الأساسي والاستراتيجي لذلك هو سوريا، بمعنى إغراق سوريا بالفتن والحروب، لأنها تُشكّل واسطة العقد لمحور مقاومة، فهي تصل بين رأس المحور وأطرافه التي يتكئ عليها، فأرادوا - بضربهم سوريا - أن يقطعوا هذا التواصل، ليصبح الرأس منفصلًا عن الجسد، وبذلك يضعف هذا المحور.

وهنا تأتي حكمة قيادة هذه المقاومة، بالتزامن مع حكمة القيادة في الجمهورية الإسلامية التي اندفعت للمشاركة في الدفاع عن سوريا؛ لحماية المقاومة، وللدفاع عن المقدسات في سوريا أيضًا. وهكذا، أفشلت هذه المقاومة مخططات العدو، وأسهمت في إفشال هذه المشاريع التي كان يريد الأمريكي من خلالها تصفية القضية الفلسطينية، وكان للمقاومة الدور الأساس في بقاء القضية الفلسطينية، بعدما تَبيّن أن مسار التسوية لم يقدم شيئًا لهذه القضية.

بناءً على ذلك، بالتأكيد، عندما تصبح المقاومة بهذه القدرات، وبهذه الإمكانيات، وبهذه الإدارة السياسية، وبهذه الإحاطة بالتهديدات الدولية للمنطقة، وبالمشاريع التي تقوم بها أمريكا، فلا شكّ، ولا ريب، أننا أمام مشهد باتت المقاومة فيه الرافعةَ الأساسية للمحور، وهي تُشكّل العمود الفقري له، من رأسه في إيران، مرورًا بوسطه في سوريا، وصولًا إلى أطرافه في لبنان، وفي فلسطين، وفي العراق، ويُضاف إليهم اليمن.

وعليه، نحن اليوم أمام تحول ما فوق الاستراتيجي لمحور المقاومة، وهو تحوّل تتموضع فيه المقاومة بوصفها القاعدة الأساسية لمحورٍ يمتد من إيران، إلى اليمن، إلى العراق، إلى فلسطين، إلى سوريا، إلى لبنان.

لقد كان هذا المسار نتيجة الانتصارات التي تحقّقت، ونتيجة التضحيات التي قُدّمت، ونتيجة رفض المقاومة للتسوية المذلّة مع العدو. فما فعلته المقاومة ضمن هذا المسار أنها راكمت قدراتها وإمكانياتها، لتصبح مقاومة تُعبّر عن قدرات إقليمية، واستطاعت – بفضل هذه القدرات - أن يكون لها دور في حسم كثير من القضايا الاستراتيجية، سواء في سوريا، أو في العراق، أو في فلسطين، أو في أي بقعة جغرافية أخرى.

أمام هذا الواقع، نستطيع القول بأن عوامل التفوق المعنوي والاستراتيجي على العدو تتمثّل في الإرادة والعزم والحافزية، وفي استراتيجية الصبر والإيمان بالقضية، وفي قوّة قوى المقاومة وتلاحمها فيما بينها، فقد عزّز حزب الله العلاقات الثنائية مع قوى المقاومة في المنطقة بأكملها، وبتنا اليوم أمام محور بات يُشكّل واقعًا جديدًا يُحسب له ألف حساب، في مواجهة الاستكبار العالمي، والغرب، والعدو الصهيوني.

إن هذه القوّة، وهذه القدرات، وهذه المعادلات التي فرضتها المقاومة على مدى هذه العقود، تُوّجت اليوم بـ "طوفان الأقصى"، ومع "طوفان الأقصى" نحن اليوم أمام تاريخ جديد يُكتب للقضية الفلسطينية.


السؤال الثالث: ما هي أسباب هذا التحول، وما الذي أدّى إلى ذلك؟

تتجلّى أهم عوامل التحول في مسار المقاومة بعدة أمور:

أولًا، انتصار الثورة الإسلامية، وتداعيات هذا الانتصار على مجمل الأوضاع السياسية في المنطقة، باعتبار أنها قدّمت خيارًا ثالثًا لكل حرّ مقاوم يريد أن يعيش بكرامة، وأن يحرّر أرضه ويحصل على حقوقه.

أيضًا، قضية التفرّد الأمريكي، والمساوئ التي مارسها الأمريكي عندما تفرّد بإدارة هذا العالم، بيّنتْ حقيقة الإدارة الأمريكية، وحقيقة النظام الرأسمالي. وقد مررنا بتجربة كانت واضحة المعالم فيما يتعلق بـ "الكورونا"، وكيف تعاطى الغرب مع ضحايا هذا الوباء على أنهم أرقام ـ إن صحّ التعبير ـ بعيدًا عن روحية الإنسان، وما يختزنه من منظومة قيم.

وكذلك، تراجعُ السيطرة والهيمنة الأمريكية على العالم. فعندما نقارن بين الخط البياني لكل من الأمريكيين والإسرائيليين من جهة، ومحور المقاومة من جهة أخرى، منذ تفكك الاتحاد السوفييتي إلى يومنا هذا، نجد أن الأمريكي في حالة تراجع على مستوى القدرات، والهيمنة، والتحكم، والسيطرة على مصير المنطقة، ومِثْلُه العدو الصهيوني أيضًا، هو في خط بياني متراجع، وكذلك الدول الرجعية العربية في خط بياني متراجع.

في مقابل ذلك نجد المقاومة في لبنان في حالة تصاعدٍ ونمو وتقدّم، وينطبق هذا الكلام على الجمهورية الإسلامية، والعراق، واليمن، وسوريا، وفلسطين. كما تولّدت قناعة جديدة عند المقاومة الفلسطينية أيضًا، وقد وصلت إليها بعد سقوط كل التسويات، وكل الرهانات التي كانت تعوّل على الأمريكي، أو على الإسرائيلي، وهذه القناعة هي خيار المقاومة، ولا شيء سوى المقاومة. كل هذه الأسباب أدّت إلى هذا التحول الذي حصل في ماهية المقاومة وقوتها وقدراتها.


السؤال الرابع: ما هو دور الشهيد القائد الحاج قاسم سليماني في تعزيز قدرات المقاومة بناء لتجربتكم ومعايشتكم لهذا الموضوع؟

كان الحاج قاسم صاحب رؤية استراتيجية متعددة الأبعاد، على المستويات الجهادية والعسكرية والأمنية والسياسية والدبلوماسية والشعبية. ولا بد من الإشارة هنا إلى فكرة الإمام الخميني ـ قدس سره ـ بعد انتصار الثورة مباشرةً، بإنشاء جيش العشرين مليون آنذاك، هذا الجيش الذي كان لحماية الثورة من جهة، ومن جهة أخرى ليكون أيضًا رافدًا أساسيًّا للقضية الفلسطينية التي أعلنت إيران عن تبنّيها بوصفها أولوية دستورية، وقانونية، وشعبية، وسياسية، وشرعية. كان جيش العشرين مليون هذا يعمل ويُعِدّ لتحوّل جوهري، نتج عنه بعد عقدين من الزمن ما يُعرف بفيلق القدس.

وهكذا، تحوّلت مهام فيلق القدس ضمن قيادة الحرس الثوري، ليتعاطى مع القضية الفلسطينية بوصفها أولوية له، واستطاع هذا الفيلق أن يقدّم لهذه القضية كل أنواع الدعم التي عبّرت عنها الجمهورية الإسلامية من خلال دستورها، ومن خلال القوانين التي شرّعها مجلس الشورى الإسلامي، فبدأ بتنفيذ الإجراءات اللازمة والخطوات المتعددة لتفعيل هذا الدعم، في أبعاده الجهادية والعسكرية والثقافية والمعنوية، فضلًا عن الأبعاد الدبلوماسية. وبذلك، أصبحنا أمام جمهورية إسلامية تمتلك هذا المشروع الكبير الذي تَحَدّثنا عنه، وهو مشروع قائم على القرار الوطني المستقل، واستقلال المنطقة، وعدم التبعية للأجنبي، وأنّ إسرائيل غدّة سرطانية يجب إزالتها، وهي شرّ مطلق لا يخرج منها سوى الشرّ، والفتن، والحروب في هذه المنطقة.

إذن، ضمن هذه الرؤية، كان الحاج قاسم العقل المدبر لهذه المواجهة، ولهذا المحور، وكان الحاج قاسم بمنزلة العمود الأساسي لمحور المقاومة، مع كل ما قدّمه فيلق القدس على مستوى الإمكانيات والقدرات، مما جعل هذا المحور قويًّا. وكانت عملية الربط بين مكونات جبهة المقاومة إنجازًا مهمًّا للحاج قاسم، إضافةً إلى الربط بين جبهة المقاومة والأنظمة السياسية والدول والأحزاب، فضلًا عن توفير البيئة الشعبية الحاضنة لمحور المقاومة، وقد شكّل هذا كلّه فاعلية حقيقية لهذا المحور.

ولتقوية هذا المحور، وتعزيز قدراته، عمل الحاج قاسم على ثلاثة أمور:

الأمر الأول، بناء الكادر المقاوِم، وإعداده على المستويات كافة: العسكرية، والعلمية، والثقافية، والأمنية، والروحية، وعلى مستوى الإيمان بالقضية الفلسطينية بوصفها قضية الأمّة الأساسية والمركزية. إضافةً إلى ذلك، عمل على بناء أجيال تُراكم خبراتها في الميدان، وتكتسب من العلم والتخصص خبرات جديدة تمتزج مع خبرة الميدان، مما أفرز أجيالًا أثبتت جدارتها داخل فلسطين المحتلة: في غزة، والضفة الغربية، وأراضي الـ 48.

الأمر الثاني، هو استمرار التأهيل والإعداد والتدريب على نحوٍ دائم، وتشعّب ذلك إلى مناحي الاختصاصات التي تحتاجها عملية الصراع والمواجهة ضد هذا العدو، وهكذا اتسعت المساحة الميدانية التي كان يرعاها الحاج قاسم سليماني.

الأمر الثالث، هو توحيد المقاومات، سواء في فلسطين المحتلة على اختلاف فصائل المقاومة فيها، وعلى رأسها "حماس" و"الجهاد الإسلامي"، وكذلك المقاومة الإسلامية في لبنان، والحشد الشعبي في العراق. وهنا، يعلم الجميع أنه في عام 2014، عندما اجتاحت أمريكا العراقَ من خلال "داعش"، وسيطرت هذه الفئة الضالة على أغلب مساحة العراق، كان للحاج قاسم دور أساسي واستراتيجي – مع رفيقه "أبو مهدي المهندس" - في صد "داعش"، وإلحاق الهزيمة بها، وتحرير العراق من هذا الوجه الآخر لأمريكا والصهاينة.

وكذلك، لا ننسى دوره في حرب الـ 2006، عندما أراد الأمريكي أن يلغي هوية المنطقة العربية لمصلحة شرق أوسط جديد، وقد تحدّثنا عن ذلك أيضًا ضمن هذا السياق.

إضافةً إلى علاقة الحاج قاسم الخاصة بقيادة المقاومة، وتحديدًا مع الشهداء القادة: «الحاج عماد مغنية، والسيد ذو الفقار، والحاج "السيد محسن" فؤاد شكر»، هذه العلاقة التي كانت تقوم بدور أساسي في بناء عناصر الاتصال المحكمة بين فصائل المحور ودول المحور، وبين القوى المقاومة في المحور والبيئة الحاضنة لها. وبذلك، كان للحاج قاسم دور واضح في عملية ربط هذا المحور، وربط قياداته ببعضها، وربط ساحاته في ما بينها، وكان ينسّق ذلك الربط على مستوى داخل فلسطين وخارج فلسطين، حتى اكتمل بناء المحور، وأصبح محورًا قويًّا قادرًا على تقديم كل ما يستطيع للقضية الفلسطينية.

وعليه، نستطيع القول بأن نتائج ذلك كله تتجلى في كل ما تعيشه المنطقة اليوم من قدرات وإمكانيات في مواجهة محور واسع، لا يقف عند حدود محور العدو الصهيوني، بل يمتد لمحور الاستكبار العالمي، والاستبداد العالمي والغربي الذي يريد الهيمنة والسيطرة، ومسح الشخصية العربية والإسلامية لهذه المنطقة، من خلال تعزيز الغدّة السرطانية الإسرائيلية، وتعزيز هذا الشر المطلق في منطقتنا.

وهكذا، لم يعد الفلسطيني يشعر اليوم بأنه متروكٌ لقدره وحده، فنحن نخوض الحرب معه في معركة "طوفان الأقصى"، ويتّضح ذلك من وقوف الجمهورية الإسلامية إلى جانب المقاومة الفلسطينية، وإلى جانب الشعب الفلسطيني، في معركته اليوم، وكذلك وقوف جبهات الإسناد في لبنان، والعراق، وسوريا، واليمن، مع المقاومة الفلسطينية في "طوفان الأقصى"

ولكن، للأسف الشديد، نجد أن هذه الشعوب المناضلة التي تحمي هذه المنظومة، وتدعمها بكل ما تستطيع: بالإعلام، وبالسياسة، وبالمال، وبكل ما أوتيت من قوة، نجد أنها ترزح تحت أنظمة تجثم على صدرها، وأنظمة – للأسف – صمتت، أو تآمرت، أو تخاذلت، ولم تقف أمام واجباتها ومسؤولياتها كأمة عربية، وكأمة إسلامية.

إن شاء الله، سيكون النصر حليفًا لهذا المحور، ولهذه الجبهة. وسيلحق العار كل مَن لم يلتحق بالركب مع فلسطين. فلسطين اليوم هي التي تمثل المعيار بين الحق والباطل، وهي تعرف مَن يقترب منها، ويدعمها، ويقف إلى جانبها، فترفعه وتعلي من شأنه، وتعرف أيضًا مَن يبتعد عنها، فتجعله ذليلًا، وتضعه في جانب الموقف المعادي لحقوق الشعب الفلسطيني.

إذن، بعد أن تمكّن "طوفان الأقصى" من فرز جبهة الحق عن جبهة الباطل، وجبهة المتخاذلين عن جبهة المناصرين، وجبهة المساومين الذين يذهبون وينبطحون ويزحفون من أجل حطام في هذه الدنيا، عن جبهة المقاومين الشرفاء الأحرار في العالم، فإننا نلمس اليوم تحوّل الرأي العام الغربي، وتحول الرأي العام على مستوى بعض الدول، ولم يكن ذلك ليحدث لولا دماء أهل غزة، ولولا هذه الإبادات، وهذا الإجرام الذي كشف زيف أمريكا، وزيف الغرب، وزيف العنصرية الصهيونية، هذه العنصرية النازية التي تمارس اليوم – وعلى امتداد تاريخها - كل أشكال العذاب وألوانه.

والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.