/ صفحه 377/
فيها للدعوة مصلحة؛ وبعد أن انتزع من النفوس كل معانى التعصب والخلاف، غرس فيها مبدأ العمل للإسلام في كل مكان، وعلى نهجه سار المخلصون من المسلمين.
كان يستطيع أن يبقى بمكة عزيزاً موفور الثراء، ألم يعرضوا عليه المال فأبي؟ ألم يعرضوا عليه الجاه فرفض؟ إنه رجل الدعوة، إنه رسول الله، إنه لن يترك دعوته أو يقصر في أداء رسالته، ولو وضعوا الشمس في يمينه والقمر في يساره، ذلك فناء الذات في الفكرة، وذلك أسمى مراتب الكمال.
لقد رأى أن البقاء بمكة لا قيمة له ولا وزن، مادامت كلمة التوحيد ليست هى العليا، فهاجر، وبهجرته المتدت الدعوة الإسلامية، واتسع ناقها، وتخلص وطن المسلم من النطاق الضيق المحدود.
ومن المؤسف أننا اليوم في نظرتنا الوطنية، نقف عند الحدود الضيقة التي فرضتها علينا الحروب الداخلية أو الخارجية، أو الثورات أو الاستعمار الأجنبي،فحين ننادى بالوطنية، إنما نعنى البقعة التي نعيش فيها أو ننتسب إليها، ونسينا أن صاحب الهجرة حدد وطن المسلم يوما هجرته بأنه كل بلد تسمع فيه كلمة التوحيد ويوجد فيه من يتخذ الإسلام دينا.
كذلك نحن نهاجر اليوم، ولكن لا من الكمال إلى الأكمل كما كانت هجرة الرسول، وكما ينبغى أن تكون هجرة المسلم العارف لدينه، وإنما نهاجر من الحسن إلى السيء، ومن السيء إلى الأسوأ، نهاجر عن عادتنا وتقاليد ديننا، إلى عادات وتقاليد منافية، بل جاهلية وبربرية بأصح تعبير، ونحسب أننا نسير إلى تقدم ومدنية، مع أننا نتدهور، ونهوى إلى الحضيض.
ليست هجرة الرسول قصة تقرأ، ويردد أمرها، ويرجع حدثيها فحسب، وإنما هى نموذج عملى خالد للهجرة إلى المبادي، السامية والمثل العليا، التي تضمن للفرد العزة والراقي، وتضمن للدولة النهوض والسؤدد.