/ صفحه 376/
وحياة الرسول الكريم، تجمع الهجرات كلها طبيعية ومعنوية، وتزيد عليها تلك الهجرة المعروفة التي لولاها لقضى ـ بغير شك ـ على الإسلام ورسوله والمسلمين، تلك الهجرة التي هى درس عملى في التضحية والجهاد، والتى اتخذها المسلمون مبدأ لتاريخهم، والتى جمعت كل المعانى والمحسوسات التي تفهم من هذه اللفظة.
كان صلى الله عليه وآله نموذجا فريداً في هجرته الطبيعية، فلم تشعر أمه إبان حمله بما تشعر به الحوامل من تعب وألم، ولم تجد في وضعه ما يجده النسوة عادة من الإجهاد. وكذلك كانت هجره من الطلوفة إلى الصبا والشباب، ثم إلى نهاية الأجل، فذة في كل أطوارها.
أما الهجرة المعنوية، فقدا كتمل له أمرها في مستهل حياته، ففى صباه لم يله كما يلهو الصبية، ولم يعبث كما يعبثون، بل كان يجلس مع جده في مجالس الحكم، ومواطن الحكمة، وفى شبابه كان ينتزع نفسه من مجالس للهو، ويؤثر الخلوة، ويجنح إلى السكون ليجتلى معانى العظمة في الكون، حتّى بلغ به الأمر أن يتحنث في غاز حراء، كذلك هجر عادات قومه وتقاليدهم، وتميز عليهم بسمو خلقه وسمو طبعه، وسُمّى عندهم بالصادق الأمين.
وأما هجرته المشهورة، التي جمعت كل أسباب الخير، وحوت كل معانى العظمة، وغمرت الدنيا بأسمى التعاليم؛ فقد كانت بدعاً لا مثيل لها في تاريخ قومه الذين عرفوا الهجرة الجماعية، أى هجرة القبيلة كلها في سبيل العيش، أما الهجرة الفردية، الهجرة من أجل العقيدة والمبدأ؛ فشيء جديد لا سابقة له، اضطر إليه الرسول بعد إيذاء قومه إياه، ومحاولتهم القضاء على دعوته.
استخلف عنه في مكة من استخلف، وأخذ معه من أخذ، وهاجر إلى المدينة، وفيها وضع أساس الأخوة الإسلامية، ومبدأ "و وطن العقيدة"، فآخى بين المهاجرين والأنصار، وبين الأوس والخزرج، وقضى على العصبية الجنيسية، والنعرة القبلية، وأعلن أن وطن المسلم هو كل موطن فيه للإسلام صجة، وأن وطن صاحب الدعوة كل رقعة