عصر وصلت فيه الحداثة إلى ارفع مستويات تقدمها. ولعل من أكثر ما يبرهن على ذلك ما نراه من حوارات متزايدة لا يكاد الحديث ينقطع عنها حول قضايا الإسلام والغرب، وما يلفت الانتباه ان الغرب أكثر اندفاعاً وتحريضاً في هذه الحوارات. وهناك من هو في حالة اندهاش وتعجب في ان يكون للإسلام هذه القدرة على التجدد والانبعاث حتى بعد ان فقد العالم الإسلامي حضارته وتمدنه، بحيث يمتد هذا الانبعاث إلى المجتمعات الغربية المفرطة في الحداثة نفسها، ولا يكون في مقدور هذه الحداثة ان توفر لمجتمعاتها الحماية من الاختراق. فالدين الذي لديه القدرة على اختراق الجدار الحديدي للحداثة ويقتحم عليها حصونها المنيعة، فلا شك ان هذا الدين له منطق في الحداثة يكسبه من الإقناع والمعقولية ما يجعله ذو قابلية على الانتشار والامتداد والتقبل في المجتمع الغربي بما في ذلك مجتمع النخبة هناك. وقد أكد هذا الانبعاث على حقيقة طالما حاولنا توثيق الاستدلال عليها، وهي ان عالم الإسلام إذا كان قد فقد حضارته وتمدنه وتراجع من هذه الناحية، إلا أنه لم يتراجع أو ينهزم ثقافياً، حتى مع ما حصل في ظروف تاريخية معينة من ابتعاد المسلمين عن جوهر وروح الثقافة الإسلامية، وهيمنة الفهم القشري والسطحي والجبري على هذه الذهنية الإسلامية بصورة عامة. وبتعبيرات الأستاذ “مالك بن نبي” فان الذي تحطم هو عالم الأشياء، وبقي عالم الأفكار على توقده، والمثال المعاصر الذي يستشهد به هو ألمانيا بعد الحرب العالمية الثانية؛ حيث تحطم فيها عالم الأشياء برمته، ولم يتحطم عالم الأفكار، وعن طريقه استعادت ألمانيا تقدمها وتفوقها مرة أخرى في عالم الأشياء. ولا شك ان القرآن الكريم هو الذي جعل الثقافة حية في عالم المسلمين باعتباره الإطار المرجعي الرئيسي لها الذي يصون أصالتها ويحفظ جوهرها ويوقد روحها. وهذه الثقافة الحية هي مصدر الانبعاث التي حصلت وتحصل في ازمنة مختلفة من تاريخ العالم الإسلامي الحديث والمعاصر، والأسباب الموضوعية المباشرة لهذه