[ 231 ] منقلب الحتف، والله أعلم (1). قد تم بعون الله تعالى ما به ابتدأنا، وكمل وصف ما قصصنا، من أيام خلفائنا وخير أئمتنا، وفتن زمانهم، وحروب أيامهم، وانتهينا إلى أيام الرشيد، ووقفنا عند انقضاء دولته، إذ لم يكن في اقتصاص أخبار من بعده، ونقل حديث ما دار على أيديهم، وما كان في زمانهم كبير منفعة، ولا عظيم فائدة، وذلك لما انقضى أمرهم، وصار ملكهم إلى صبية أغمار (2)، غلب عليهم زنادقة العراق، فصفوهم إلى كل جنون، وأدخلوهم إلى الكفر، فلم يكن لهم بالعلماء والسنن حاجة، واشتغلوا بلهوهم، واستغنوا برأيهم. وكان الرشيد مع عظم ملكه، وقدر شأنه، معظما للخير وأهله، محبا لله ورسوله، ولما دخلت عليه سنة تسعين ومئة أخذته الحمى (3) التي أخبر بها جده أبو جعفر المنصور، وهو في المهد صغيرا، فعرف أنه قد دنا أجله، وحان هلاكه، فاجتمع إليه أطباء العراق يعالجونه، ثم استعان بأطباء الروم والهند، واستجلبهم من الآفاق، فلم يزالوا يداوونه حتى مضت له ثلاثة أعوام، وما أقلعت عنه، ولم يزده العلاج إلا شدة. فلما دخلت ________________________________________ (1) كذا بالاصل، فاختة بنت المهدي، والمصادر تذكر العباسة أخت الرشيد بنت المهدي. وفي وفيات الاعيان أن يحيى بن خالد ضيق على عيال الرشيد في النفقة حتى شكت زبيدة إلى الرشيد ثم أفشت له سر العباسة فاستشاط غضبا. قال ابن كثير: ومن العلماء من ينكر ذلك (يعني أن سبب قتلهم هو ما ذكر عن قصة العباسة) وإن كان ابن جرير قد ذكره. والناس في سبب إيقاع الرشيد بالبرامكة مختلفون اختلافا كبيرا، وقد تناول المؤرخون كثيرا منها ولم يرجحوا أي منها، فكل من الاسباب جدير بالاهتمام. يرى بعضهم أن نكبتهم تعود إلى حوادث ليست فجائية وإنما هي أمور تتابعت، وأسباب متراكمة. وقد لعب أخصام البرامكة دورا هاما وقد استخدموا البطانة والشعراء والمغنين ليلعبوا على أعصاب الرشيد حتى استطاعوا، كما ذكر ابن خلدون في مقدمته: استثارة حفائظه لهم. ولعل السبب الاقوى ما رواه الفخري ص 190 أن الرشيد قال: " استبد يحيى بالامور دوني، فالخلافة على الحقيقة له، وليس لي منها إلا الاسم ". وقد أنشده بعضهم ما يثير الحقد في نفسه ويغذي عامل المنافسة عنده: ليت هندا أنجزتنا ما تعد * وشفت أنفسنا مما تجد واستبدت مرة واحدة * إنما العاجز من لا يستبد انظر الطبري وابن الاثير وابن كثير (حوادث سنة 187) وانظر مروج الذهب 3 / 451 وما بعدها وتاريخ اليعقوبي 2 / 422. (2) الاغمار جمع غمر الشاب قليل التجربة، قليل الحنكة السياسية ونحوها. (3) في علته التي مات بها قيل: كان مرضه بالدم، وقيل بالسل. (البداية والنهاية 10 / 240). (*) ________________________________________