[ 39 ] فيما كان من تمام الصنع، وما هيأ له من التأييد والظفر، وأقام كذلك لا يمر عليه يوم إلا وهو يؤتى فيه بأسرى، فلما رأى كثرتهم ازداد حنقا وغيظا لمسارعتهم في اتباع ابن الاشعث، ومخالفتهم عن الحجاج، فيأمر بقتلهم حردا على الخوارج، ورجا أن يستأصلهم، فلا يخرج عليه خارجي بعدها، فلما رأى كثرة من يؤتى به من الاسرى تحرى، فجعل إذا أتى بأسير يقول له: أمؤمن أنت أم كافر ؟ ليعرف بذلك الخوارج من غيرهم، فمن بدأ على نفسه بالكفر والنفاق عفا عنه، ومن قال أنا مؤمن ضرب عنقه. وأسر عامر بن سعيد الشعبي فيمن أسر، وكان مع ابن الاشعث في جميع حروبه، وكان خاص المنزلة منه، ليس لاحد منه مثلها للذي كان عليه من حاله، إلا سعيد بن جبير، وأفلت سعيد بن جبير فلحق بمكة، وأتى الشعبي إلى الحجاج في سورة غضبه (1)، وهو يقتل الاسرى الاول فالاول، إلا من باء على نفسه بالكفر والنفاق، فلما سار عامر بن سعيد الشعبي إلى الدخول عليه لقيه رجل من صحابة الحجاج يقال له بريد بن أبي مسلم وكان مولاه وحاجبه، فقال: يا شعبي، لهفى بالعلم الذي بين دفتيك، وليس هذا بيوم شفاعة إذا دخلت على الامير، فبؤله بالكفر والنفاق عسى أن تنجو، فلما دخل الشعبي على الحجاج صادفه واضعا رأسه لم يشعر، فلما رفع رأسه رآه قال له: وأنت أيضا يا شعبي فيمن أعان علينا وألب ! قال أصلح الله الامير إني أمرت بأشياء أقولها لك، أرضيك بها وأسخط الرب، ولست أفعل، ولكني أقول: أصلح الله الامير وأصدقك القول، فإن كان شئ ينفع لديك فهو في الصدق إن شاء الله أحزن بنا المنزل، وأجدب الجناب، واكتحلنا السهر، واستحلسنا (2) الخوف، وضاق بنا البلد العريض، فوقعنا في خزية لم نكن فيها بررة أتقياء، ولا فجرة أقوياء، فقال له الحجاج: كذلك. قال: نعم، أصلح الله الامير، وأمتع به، قال: فنظر الحجاج إلى أهل الشام فقال: صدق والله يا أهل الشام ما كانوا بررة أتقياء فيتورعوا عن قتالنا، ولا فجرة أقوياء فيقووا علينا، ثم قال: انطلق يا شعبي فقد عفونا عنك، فأنت أحق بالعفو ممن يأتينا وقد تلطخ بالدماء ثم يقول: كان وكان، قال: وكان قد أحضر بالباب رجلان، وأحدهما من بكر بن وائل، والآخر من تميم، وكانا قد سمعا ما قيل للشعبي بالباب أن يقوله، فلما أدخلا. قال الحجاج للبكري: أمنافق أنت ؟ قال: نعم، أصلح الله الامير، لكن أخو بني تميم لا يبوء على نفسه بالنفاق. قال التميمي: أنا على دمى أخدع ؟، بل أنا - أصلح الله الامير - منافق مشرك. ________________________________________ (1) في شدة غضبه (2) استحلسنا الخوف: أي صار الخوف حلسا لنا أي ملاصقا لاجسادنا (*) ________________________________________