يرى نفسه كذلك فلا يملك رقبته وبدنه وأعضاءه وماله وهو مع ذلك بين آفات وشهوات وأمراض وأسقام هي كالعقارب والحيات يخاف منها الهلاك .
فمن هذا حاله لا يتكبر بقوته وقدرته إذ يعلم أنه لا قدرة له ولا قوة .
فهذا طريق علاج التكبر بالأسباب الخارجة وهو أهون من علاج التكبر بالعلم والعمل فإنهما كمالان في النفس جديران بأن يفرح بهما ولكن التكبر بهما أيضا نوع من الجهل خفي كما سنذكره .
السبب السادس الكبر بالعلم وهو أعظم الآفات وأغلب الأدواء وأبعدها عن قبول العلاج إلا بشدة شديدة وجهد جهيد وذلك لأن قدر العلم عظيم عند الله عظيم عند الناس وهو أعظم من قدر المال والجمال وغيرهما بل لا قدر لهما أصلا إلا إذا كان معهما علم وعمل .
ولذلك قال كعب الأحبار إن للعلم طغيانا كطغيان المال .
وكذلك قال عمر رضي الله تعالى عنه العالم إذا زل زل بزلته عالم فيعجز العالم عن أن لا يستعظم نفسه بالإضافة إلى الجاهل لكثرة ما نطق الشرع بفضائل العلم .
ولن يقدر العالم على دفع الكبر إلا بمعرفة أمرين .
أحدهما أن يعلم أن حجة الله على أهل العلم آكد وأنه يحتمل من الجاهل ما لا يحتمل عشره من العالم فإن من عصى الله تعالى عن معرفة وعلم فجنايته أفحش إذ لم يقض حق نعمة الله عليه في العلم ولذلك قال A يؤتى بالعالم يوم القيامة فيلقى في النار فتندلق أقتابه فيدور بها كما يدور الحمار بالرحا فيطيف به أهل النار فيقولون مالك فيقول كنت آمر بالخير ولا آتيه وأنهى عن الشر وآتيه // حديث يؤتى بالعالم يوم القيامة فيلقى في النار فتندلق أقتابه الحديث متفق عليه من حديث أسامة بن زيد بلفظ يؤتى بالرجل وتقدم في العلم .
وقد مثل الله سبحانه وتعالى من يعلم ولا يعمل بالحمار والكلب فقال D مثل الذين حملوا التوراة ثم لم يحملوها كمثل الحمار يحمل أسفارا أراد به علماء اليهود .
وقال في بلعم بن باعوراء واتل عليهم نبأ الذي آتيناه آياتنا فانسلخ منها حتى بلغ فمثله كمثل الكلب إن تحمل عليه يلهث أو تتركه يلهث قال ابن عباس Bهما أوتي بلعم كتابا فأخلد إلى شهوات الأرض أي سكن حبه إليها فمثله بالكلب إن تحمل عليه يلهث أو تتركه يلهث أي سواء آتيته الحكمة أو لم أوته لا يدع شهوته ويكفي العالم هذا الخطر فأي عالم لم يتبع شهوته وأي عالم لم يأمر بالخير الذي لا يأتيه فمهما خطر للعالم عظم قدره بالإضافة إلى الجاهل فليتفكر في الخطر العظيم الذي هو بصدده فإن خطره أعظم من خطر غيره كما أن قدره أعظم من قدر غيره فهذا بذاك .
وهو كالملك المخاطر بروحه في ملكه لكثرة أعدائه فإنه إذا أخذ وقهر اشتهى أن يكون قد كان فقيرا فكم من عالم يشتهي في الآخرة سلامة الجهال والعياذ بالله منه .
فهذا الخطر يمنع من التكبر فإنه إن كان من أهل النار فالخنزير أفضل منه فكيف يتكبر من هذا حاله فلا ينبغي أن يكون العالم عند نفسه أكبر من الصحابة رضوان الله عليهم وقد كان بعضهم يقول يا ليتني لم تلدني أمي ويأخذ الآخر تبنة من الأرض ويقول يا ليتني كنت هذه التبنة ويقول الآخر ليتني كنت طيرا أوكل ويقول الآخر ليتني لم أك شيئا مذكورا كل ذلك خوفا من خطر العاقبة فكانوا يرون أنفسهم أسوأ حالا من الطير ومن التراب .
ومهما أطال فكره في الخطر الذي هو بصدده زال بالكلية كبره ورأى نفسه كأنه شر الخلق .
ومثاله مثال عبد أمره سيده بأمور فشرع فيها فترك بعضها وأدخل النقصان في بعضها وشك في بعضها أنه هل أداها على ما يرتضيه سيده أم لا فأخبره مخبر أن سيده أرسل إليه رسولا يخرجه من كل ما هو فيه عريانا ذليلا ويلقيه على بابه في الحر والشمس زمانا طويلا حتى إذا ضاق عليه الأمر وبلغ به المجهود أمر برفع حسابه