@ 135 @ إن شاء الله . .
أولاً : اتفق الشافعي وأبو حنيفة على أنه سنة على ما رجحه النووي عن الشافعي في المجموع أنه سنة في حق الجميع المنفرد والجماعة في الحضر وفي السفر ، أي أنه لا تتعلق به صحة الصلاة . .
ففيه أنه صلى الله عليه وسلم كان قد همَّ أن يبث رجالاً في الدور ، وعلى الأطم ينادون للصلاة ، فيكون نداء بلال أولاً من هذا القبيل دون تعيين ألفاظ ، أما أن يكون نداء بلال الوارد في الصحيح بألفاظ الأذان ، الواردة في حديث عبد الله بعد أن رأى ما رآه أمره صلى الله عليه وسلم أن يعلمه بلالاً فنادى به ، ولا تعارض في ذلك كما ترى . .
ومنها أيضاً : أن رؤيا عبد الله للأذان لا تجعله مشروعاً له من عنده ولا متوقفاً عليه ، لأنه جاء في الرؤيا الصالحة أنها جزء من ست وأربعين جزءاً من النبوة . وهذا النظم لألفاظ الأذان لا يكون إلا من القسم فهي بعيدة عن الوساوس والهواجس لما فيها من إعلان العقيدة وإرغام الشيطان كما في الحديث : ( إن الشيطان إذا سمع النداء أدبر ) إلخ . .
ثم إنه صلى الله عليه وسلم لما سمعها أقرها وقال : إنها لرؤيا حق ، أو لقد أراك الله حقاً ، فكانت سنة تقرير كما يقرر بعض الناس على بعض الأفعال . .
ثم جاء بعد ذلك تعليمه صلى الله عليه وسلم لأبي محذورة فصار سنة ثابتة ، وكان يتوجه السؤال لو أنه لم يبلغه صلى الله عليه وسلم وعملوا به مجرد الرؤيا ، ولكن وقد بلغه وأقره فلا سؤال إذاً . .
ومنها : أن في بعض الروايات أن الوحي قد جاءه به ، ولما أخبره عمر قال له : سبقك بذلك الوحي . ذكر في مراسيل أبي داود . .
وذكر عن ابن العربي بسط الكلام إثبات الحكم بالرؤيا ذكرهما المعلق على بذل المجهود . .
ومنها ما قيل : ترك مجيء بيان وتعليم لأذان إلى أن رآه عبد الله ورواه عمر رضي الله عنهما لأمرين ، ذكرهما رسول الله صلى الله عليه وسلم معلناً مع ذكر الله فيكون مجيئه عن طريقهما أولى وأكرم لرسول الله صلى الله عليه وسلم من أن يأتيهم من طريقه هو حتى لا يكون عناية من يدعوهم لإطرائه . وهذا وإن كان متوجهاً إلا أن فيه نظراً لأنه صلى الله عليه وسلم لو جاءهم بأعظم من ذلك لما كان موضع تساؤل . .
من مجموع ما تقدم يكون أصل مشروعية الأذان سنة ثابتة ، إما أنه كان قد همّ أن يبعث رجالاً في البيوت ينادوه ، وإما لأنَّه أقرّ ما رأى عبد الله فيكون أصل المشروعيّة منه صلى الله عليه وسلم ، والتقرير منه على الألفاظ التي رآها عبد الله . فضل الأذان وآداب المؤذن .
لا شك أن الأذان من أفضل الأعمال ، وأن المؤذن يشهد له ما سمع صوته من حجر ومدر . إلخ . .
وقد جاء عنه صلى الله عليه وسلم : ( أن المؤذنين أطول الناس أعناقاً يوم القيامة ) . .
وقال عمر رضي الله عنه : لولا الخلافة لأذنت . .
وقال صلى الله عليه وسلم : ( الإمام ضامن ، والمؤذن مؤتمن ، اللهم أرشد الأئمة ، واغفر للمؤذنين ) رواه أبو داود والترمذي ، إلى غير ذلك من فضائل الأذان ، فقيل : مؤتمن على الوقت ، وقيل : مؤتمن على عورات البيوت عند الأذان ، فقد حث صلى الله عليه وسلم المؤذنين على الوضوء له كما في حديث : ( لا ينادي للصلاة إلا متوضىء ) وإن كان الحدث لا يبطله اتفاقاً . .
ولما كان بهذه المثابة كانت له آداب في حق المؤذنين . .
منها : أن يكونوا من خيار الناس ، كما عند أبي داود : ( ليؤذن لكم خياركم وليؤمكم أقرؤكم ) ، وعليه حذر صلى الله عليه وسلم من تولي الفسقة الأذان كما في حديث : ( الإمام ضامن والمؤذن مؤتمن ) المتقدم . فإن فيه زيادة عند البزار قالوا يا رسول الله . لقد تركتنا تتنافس في الأذان بعدك فقال : ( إنه يكون بعدي أو بعدكم قوم سفلتهم مؤذنوهم ) . .
ومنها : أنه يكره التغني فيه ، لأنه ذكر ودعاء إلى أفضل العبادات ، وقد جاء عن ابن عمر رضي الله عنه أن رجلاً قال له : إني أحبك في الله ، قال ابن عمر : لكني أبغضك في الله ، فقال : ولم ؟ قال لأنك تتغنى في أذانك . .
وفي المغني لابن قدامة : ولا يعتد بأذان صبي ولا فاسق ، أي ظاهر الفسق ، وعند المالكية : لا يحاكي في أذانه الفسقة . .
ومنها : ألا يلحن فيه لحناً بيناً ، قال في المغني : ويكره اللحن في الأذان ، فإنه ربما غيّر المعنى ، فإن من قال : أشهد أن محمداً رسول الله ونصب لام رسول . أخرجه عن كونه خبراً . .
ولا يمد لفظه أكبر لأنه يجعل فيها ألفاً فيصير جمع كبر ، وهو الطبل ، ولا يسقط الهاء من اسم الله والصلاة ولا الحاء من الفلاح ، لما روى أبو هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( لا يؤذن لكم من يدغم الهاء ) الحديث أخرجه الدارقطني . .
فأما إن كان ألثغ لا تتفاحش جاز أذانه ، فقد روي أن بلالاً كان يقول : أسهد بجعل الشين سينا ، نقله ابن قدامة ، ولكن لا أصل لهذا الأثر مع شهرته على ألسنة الناس ، كما في كشف الخلفاء ومزيل الإلباس . .
ومن هذا ينبغي تعهد المؤذنين في هذين الأمرين اللحن والتلحين وكذلك الفسق ، وصفة المؤذنين ولا سيما في بلاد الحرمين الشريفين مهبط الوحي ومصدر التأسي ، وموفد القادمين من كل مكان ليأخذوا آداب الأذان والمؤذنين ، عن أهل هذه البلاد المقدسة . * * * ألفاظ الأذان والإقامة والراجح منهامع بيان التثويب والترجيع .
مدار ألفاظ الأذان والإقامة في الأصل على حديثي عبد الله بن زيد بالمدينة ، وحديث أبي محذورة في مكة بعد الفتح . وما عداهما تبع لهما كحديث بلال وغيره ، رضي الله عنهم . .
وحديث عبد الله موجود في السنن أي فيما عدا البخاري ومسلم . وهو متقدم من حيث الزمن كما تقدم ذلك في مبحث مشروعية الأذان وأنه كان ابتداء في المدينة أول مقدمة صلى الله عليه وسلم إليها . .
وحديث أبي محذورة موجود في السنن وفي صحيح مسلم . ولم يذكر البخاري واحداً منهما ، وإنما ذكر قصة سبب المشروعية ، وحديث ( أمر بلال أن يشفع الأذان ويوتر الإقامة ) على ما سيأتي إن شاء الله . .
وعليه سنقدم حديث عبد الله لتقدمه في الزمن : وألفاظه كما تقدم في بدء المشروعية هي : الله أكبر الله أكبر . الله أكبر الله أكبر أشهد أن لا إلاه إلا الله . أشهد أن لا إلاه إلا الله . أشهد أن محمداً رسول الله ، أشهد أن محمداً رسول الله ، حي على الصلاة ، حي على الصلاة ، حي على الفلاح حي على الفلاح . الله أكبر الله أكبر . لا إله إلا الله . .
ومجموعه خمسة عشرة كلمة أي جملة . ففيه تربيع التكبير في أوله وتثنية باقيه ، وإفراد آخره . وفيه الإقامة بتثنية التكبير في أوله في كلمة وإفراد باقيها إلا لفظ الإقامة ، ولفظها : الله أكبر الله أكبر . أشهد أن لا إلاه إلا الله . أشهد أن محمداً رسول الله . حي على الصلاة ، حي على الفلاح . قد قامت الصلاة قد قامت الصلاة . الله أكبر الله أكبر . لا إله إلا الله . .
قال الشوكاني : رواه أحمد وأبو داود ، وقال عنه الترمذي : حسن صحيح . وذكر له عدة طرق . ومنها عند الحاكم وابن خزيمة وابن حبان في صحيحهما والبيهقي وابن ماجه . .
حديث أبي محذورة : وحديث أبي محذورة كان بعد الفتح كما في السنن أنه خرج في نفر فلقي النَّبي صلى الله عليه وسلم مقدمه من حنين ، وأذن مؤذنه صلى الله عليه وسلم ، فظل أبو محذورة في نفره يحكونه استهزاء به ، فسمعهم صلى الله عليه وسلم فأحضرهم فقال : ( أيكم الذي سمعت صوته قد ارتفع ؟ فأشاروا إلى أبي محذورة ، فحبسه وأرسلهم ، ثم قال له قم فأذن بالصلاة فعلمه ) . .
أما ألفاظه : فعند مسلم بتثنية التكبير في أوله : والباقي كحديث عبد الله بن زيد مع زيادة ذكر الترجيع . وقد ساقه مسلم في ثلاثة مواضع وبلفظ التكبير مرتين فقط . .
الموضع الأول : عن أبي محذورة نفسه ، أن النَّبي صلى الله عليه وسلم علمه الأذان : الله أكبر الله أكبر . أشهد أن لا إلاه إلا الله ، أشهد أن لا إلاه إلا الله . أشهد أن محمداً رسول الله ، أشهد أن محمداً رسول الله . حي على الصلاة ، حي على الصلاة . حي على الفلاح ، حي على الفلاح ، الله أكبر الله أكبر ، لا إلاه إلا الله . .
والموضع الثاني : في قصة الإغارة أنه ( كان صلى الله عليه وسلم يغير إذا طلع الفجر ، وكان يستمع الأذان فإذا سمع أذاناً أمسك وإلا أغار . فسمع رجلاً يقول : الله أكبر الله أكبر . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : على الفطرة . ثم قال : أشهد أن لا إلاه إلا الله . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : خرجت من النار ) . الحديث . .
والموضع الثالث : عن عمر رضي الله عنه ، أن النَّبي صلى الله عليه وسلم قال : ( إذا قال المؤذن : الله أكبر الله أكبر فقال أحدكم : الله أكبر الله أكبر ، ثم قال : أشهد أن لا إلاه إلا الله ، قال : أشهد أن لا إله إلا الله ) الحديث ، فهذه كلها ألفاظ مسلم لأذان أبي محذورة ، ولم يذكر مسلم عن الإقامة إلا حديث أنس ، أمر بلال أن يشفع الأذان ويوتر الإقامة ، وعند غير مسلم جاء حديث أبي محذورة بتربيع التكبير في أوله ، كحديث عبد الله بن زيد ، وبالترجيع والتثويب في الفجر ، وفيها أن الترجيع يكون أولاً بصوت منخفض . ثم يرجع ويمد بهما أي بالشهادتين صوته ، وذلك عند أحمد وأبي داود والترمذي والنسائي ، أما الإقامة فجاءت عن أبي محذورة روايتان : الأولى قال : وعلمني النَّبي صلى الله عليه وسلم الإقامة مرتين مرتين : الله أكبر الله أكبر ، أشهد أن لا إلاه إلا الله ، أشهد أن لا إلاه إلا الله ، أشهد أن محمداً رسول الله أشهد أن محمداً رسول الله ، حي على الصلاة حي على الصلاة ، حي على الفلاح حي على الفلاح ، قد قامت الصلاة قد قامت الصلاة ، الله أكبر الله أكبر ، لا إلاه إلا الله . .
الثانية : مثل الأذان تماماً بتربيع التكبير ، وبدون ترجيع ، وتثنية الإقامة أي : الله أكبر الله أكبر . الله أكبر الله أكبر ، أشهد أن لا إلاه إلا الله أشهد أن لا إلاه إلا الله ، أشهد أن محمداً رسول الله أشهد أن محمداً رسول الله ، حي على الصلاة حي على الصلاة ، حي على الفلاح حي على الفلاح ، قد قامت الصلاة قد قامت الصلاة ، الله أكبر الله أكبر ، لا إله إلا الله . .
فالأولى كالأذان في رواية مسلم ، والثانية كرواية الأذان عند غيره بدون ترجيع ولا تثويب ، وإضافة لفظ الإقامة مرتين . .
هذا مجموع ما جاء في أصول ألفاظ الأذان من حديثي عبد الله بن زيد وأبي محذورة . .
وبالنظر في حديث عبد الله بن زيد نجده لم تختلف ألفاظه لا في الأذان ولا في الإقامة . وهو بتربيع التكبير في الأذان وبدون تثويب ولا ترجيع ، وبإفراد الإقامة إلا لفظ الإقامة ، أما حديث أبي محذورة فجاء بعدة صور في الأذان وفي الإقامة . .
أما الأذان فعند مسلم بتثنية التكبير في أوله وعند غيره بتربيعه ، وعند الجميع إثبات الترجيع في الشهادتين ، وأن الأولى منخفضة ، والثانية مرتفعة ، كبقية ألفاظ الأذان ، وأما الإقامة فجاءت مرتين مرتين ، وجاءت مثل الأذان تماماً عند غير مسلم سوى الترجيع والتثويب مع تثنية الإقامة ، فكان الفرق بين الحديثين كالآتي : .
في ألفاظ الأذان ثلاث نقاط : .
أولاً : ذكر الترجيع . .
ثانياً : التثويب . .
ثالثاً : عدد التكبير في أوله . .
أما الترجيع فيجب أن يؤخذ به ، لأنه متأخر بعد الفتح ، ولا معارضة فيه ، لأنه زيادة بيان وبسند صحيح . .
وأما التثويب ، فقد ثبت من حديث بلال ، وكان أيضاً متأخراً عن حديث عبد الله قطعاً ، وقد ثبت أن بلالاً أذن للصبح فقيل له : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم نائم فصرخ بلال بأعلى صوته : ( الصلاة خير من النوم ) . .
قال سعيد بن المسيب : فأدخلت هذه الكلمة في التأذين صلاة الفجر . أي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له : ( اجعل ذلك في أذانك ) فاختصت بالفجر . .
وذكر ابن قدامة رحمه الله في المغني عن بلال : ( أن النَّبي صلى الله عليه وسلم نهاه أن يثوب في العشاء ) رواه ابن ماجه ، وقال : دخل ابن عمر رضي الله عنهما مسجداً يصلي فيه ، فسمع رجلاً يثوب في أذان الظهر فخرج فقيل له : أين ؟ فقال : أخرجتني البدعة ، فلزم بهذا كله الأخذ بها في صلاة الفجر خاصة . .
أما التكبير في أول الأذان ، ففي رواية مسلم لأبي محذورة مرتين في كلمة فاختلف مع حديث عبد الله بن زيد ، وعند غير مسلم بتربيع التكبير . وبالنظر إلى سند مسلم فهو أصح سنداً ، وبالنظر إلى ما عند غيره ، تجد فيه زيادة صحيحة ، وهي تربيع التكبير ، فوجب العمل بها كما وجب العمل بالتثويب والترجيع ، لأن الرواية المتفقة مع الحديث الآخر أولى من المختلفة معها . .
أما الإقامة : ففي حديث عبد الله لم تختلف كما تقدم ، ولكنها في حديث أبي محذورة قد جاءت متعددة ولم تتفق صورة من صورها مع حديث عبد الله ، حيث إن فيها مرتين مرتين في جميع الكلمات ، ومنها كالأذان مع لفظ الإقامة مرتين ، وسند الجميع سواء . .
فهل نأخذ في الإقامة بحديث عبد الله أم بحديث أبي محذورة ؟ من حيث الصناعة كل منهما في السند سواء . .
وفي حديث أبي محذورة زيادة وهي تشبيهها بالأذان ، فلو كان الأمر قاصراً على ذلك لكان العمل بحديث أبي محذورة في الإقامة أولى ، لأنه متأخر وفيه زيادة صحيحة ، ولكن وجدنا حديث بلال في الصحيح ، وعند مسلم أيضاً وهو أمر بلال أن يشفع الأذان وأن يوتر بالإقامة . وحديث عبد الله بن عمر رضي الله عنه قال : ( كان الأذان على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم مرتين ، والإقامة مرة ، مرة غير أنه كان يقول : قد قامت الصلاة قد قامت الصلاة ) رواه أبو داود والنسائي . .
وبهذين الحديثين يمكن الترجيح بين حديثي عبد الله وأبي محذورة في كل من الأذان والإقامة . .
فمن حديث بلال : نشفع الأذان ، ولكنهم يختلفون في تحقيق المناط في المراد بالشفع من حيث التكبير لأن الشفع يصدق على اثنين وأربع ، وعند في الأذان إما مرتان وإما أربع ، وكلاهما يصدق عليه معنى الشفع . ولكن إذا اعتبرنا أن كل تكبيرتين جملة واحدة ، كان تحقق الشفع بجملتين ، فيأتي أربع تكبيرات . وإذا اعتبرنا كل تكبيرة كلمة وجد الشفع في جملة واحدة لاشتمالها على كلمتين ، ولهذا وقع الخلاف . .
ولكن الأذان لم تعد عباراته بالكلمات المفردة بل بالجمل ، لأننا نعد قولنا : حي على الصلاة ، وهي في الواقع جملة تشتمل على عدة كلمات مفردة ، وعليه فقولنا : الله أكبر الله أكبر كلمة ، وعلى هذا يكون الشفع بتكرارها ، فيأتي أربع تكبيرات : وهذا يتفق مع رواية الحديثين ، وحديث عبد الله تماماً . .
وقال النووي في شرح مسلم : قال القاضي عياض : إن حديث أبي محذورة جاء في نسخة الفاسي لمسلم بأربع تكبيرات ا ه . .
وبهذا تتفق الروايات كلها في تربيع التكبير في الأذان . .
أما الإقامة فحديث بلال نص في إيثار الإقامة إلا لفظ الإقامة وهو عين نص الإقامة في حديث عبد الله ، وعين النص في حديث عبد الله بن عمر ، والإقامة مرة مرة إلا الإقامة ، أي فهي مرتين ، وعلى هذا العرض وبهذه المناقشة يكون الراجح هو العمل بحديث عبد الله بن زيد في الأذان والإقامة ، مع أخذ الترجيع والتثويب من حديث أبي محذورة للأذان . .
ثم نسوق ما أخذ به فقهاء الأمصار من هذا كله مع بيان النتيجة من جواز العمل بالجميع إن شاء الله . .
قال ابن رشد في البداية ما نصه : اختلف العلماء في الأذان على أربع صفات مشهورة . إحداهما : تثنية التكبير وتربيع الشهادتين وباقيه مثنى ، وهو مذهب أهل المدينة مالك وغيره ، واختار المتأخرون من أصحاب مالك الترجيع في الشهادتين بصوت أخفض من الأذان . .
والصفة الثانية : أذان المكيين ، وبه قال الشافعي ، وهو تربيع التكبير الأول والشهادتين ، وتثنية باقي الأذان . .
والصفة الثالثة : أذان الكوفيين ، وهو تربيع التكبير الأول وتثنية باقي الأذان ، وبه قال أبو حنيفة . .
والصفة الرابعة : أذان البصريين ، وهو تربيع التكبير الأول وتثليث الشهادتين ، وحي على الصلاة وحي على الفلاح ، يبدأ بأشهد أن لا إلاه إلا الله حتى يصل إلى حي على الفلاح ، ثم يعيد كذلك مرة ثانية أعني الأربع كلمات تبعاً ثم يعيدهن ثالثة . وبه قال الحسن البصري وابن سيرين . .
والسبب في اختلاف كل واحد من هؤلاء الفرق الأربع اختلاف الآثار في ذلك ، واختلاف اتصال العمل عند كل واحد منهم ، وذلك أن المدنيين يحتجون لمذهبهم بالعمل المتصل بذلك في المدينة ، والمكيون كذلك أيضاً يحتجون بالعمل المتصل عندهم بذلك ، وكذلك الكوفيون والبصريون ، ولكل واحد منهم آثار تشهد لقوله ا ه . .
ثم ساق نصوص كل فريق من النصوص التي أوردناها سابقاً ، ولم يورد نصاً لمذهب البصريين الذي فيه التثليث المذكور ، وقد وجد في مصنف عبد الرزاق بسند جيد مجلد ( 1 ) ص 564 وجاء مروياً عن بعض الصحابة في المصنف المذكور . .
وقال في الإقامة : أما صفتها فإنها عند مالك والشافعي بتثنية التكبير في أولها ، وبإفراد باقيها إلا لفظ الإقامة ، فعند الشافعي مرتين وعند أبي حنيفة ، فهي مثنى مثنى ، وأما أحمد فقد خير بين الأفراد والتثنية فيها ا ه . .
تلك هي خلاصة أقوال أئمة الأمصار في ألفاظ الأذان والإقامة ، وقد أجملها العلامة ابن القيم رحمه الله في زاد المعاد تحت عنوان : فصل مؤذنيه صلى الله عليه وسلم قال ما نصه : .
وكان أبو محذورة يرجع الأذان ويثني الإقامة وبلال لا يرجع ويفرد الإقامة ، فأخذ الشافعي وأهل مكة بأذان أبي محذورة ، وإقامة بلال ، ويعني بأذان أبي محذورة على رواية تربيع التكبير ، وأخذ أبو حنيفة وأهل العراق بأذان بلال وإقامة أبي محذورة ، وأخذ أحمد وأهل الحديث وأهل المدينة بأذان بلال وإقامته ، أي بتربيع التكبير وبدون ترجيع ، وبإفراد الإقامة إلى لفظ الإقامة ، قال : وخالف مالك في الموضعين إعادة التكبير وتثنية لفظ الإقامة ، فإنه لا يكررها ا ه . .
ومراده بمخالفة مالك هنا لأهل الأمصار ، وإلا فهو متفق مع بعض الصور المتقدمة . أما في عدم إعادة التكبير ، فعلى حديث أبي محذورة عند مسلم ، وعدم تكريره للفظ الإقامة ، فعلى بعض روايات حديث بلال أن يوتر الإقامة أي على هذا الإطلاق ، وبهذا مرة أخرى يظهر لك أن تلك الصفات كلها صحيحة ، وأنها من باب اختلاف التنوع وكل ذهب إلى ما هو صحيح وراجح عنده ، ولا تعارض مطلقاً إلا قول الحسن البصري وابن سيرين بالتثليث ولم يقل به أحد من الأئمة الأربعة . .
وقال ابن تيمية رحمه الله تعالى كلمة فصل في ذلك : في المجموع ح 22 ص 66 بعد ذكر هذه المسألة ما نصه : فإذا كان كذلك فالصواب مذهب أهل الحديث ومن وافقهم تسويغ كل ما ثبت في ذلك عن النَّبي صلى الله عليه وسلم لا يكرهون شيئاً من ذلك ، إذ تنوع صفة الأذان الإقامة كتنوع صفة القراءات والتشهدات ونحو ذلك ، وليس لأحد أن يكره ما سنه رسول الله صلى الله عليه وسلم لأمته ا ه . .
وقال ابن القيم رحمه الله في زاد المعاد في موضع آخر : مما لا ينبغي الخلاف فيه ما نصه : وهذا من الاختلاف المباح الذي لا يعنف فيه من فعله ولا من تركه . .
وهذا كرفع اليدين في الصلاة وتركه ، وكالخلاف في أنواع التشهدات وأنواع الأذان والإقامة ، وأنواع النسك من الإفراد والتمتع والقرآن . .
تنبيه .
قد جاء في التثويب بعض الآثار عن عمر وبعض الأمراء ، والصحيح أنه مرفوع ، كما في قصة بلال المتقدمة ، ولا يبعد أن ما جاء عن عمر أو غيره يكون تكراراً لما سبق أن جاء عن بلال مع النَّبي صلى الله عليه وسلم ، وقيل فيها هل هو خاص بالفجر أو عام في كل صلاة يكون الإمام نائماً فيها ؟ والصحيح أنه خاص بالفجر وفي الأذان لا عند باب الأمير أو الإمام . وتقدم أثر عبد الله بن عمر فيمن ثوب في أذان الظهر أنَّه اعتبره بدعة وخرج من المسجد . كيفية أداء الأذان .
يؤدي الأذان بترسل وتمهل ، لأنه إعلان للبعيد ، والإقامة حدراً لأنها للحاضر القريب ، أما النطق بالأذان فيكون جزماً غير معرب . .
قال في المغني : ذكر أبو عبد الله بن بطة ، أنه حال ترسله ودرجه أي في الأذان والإقامة . لا يصل الكلام بعضه ببعض ، بل جزماً . وحكاه عن ابن الأنباري عن أهل اللغة ، وقال : وروي عن إبراهيم النخعي قال : شيئان مجزومان كانوا لا يعربونهما الأذان والإقامة ، قال : وهذا إشارة إلى إجماعهم . حكم الأذان والإقامة .
قال ابن رشد : واختلف العلماء في حكم الأذان هل هو واجب أو سنة مؤكدة ؟ وإن كان واجباً فهل هو من فروض الأعيان أو من فروض الكفاية ؟ ا ه . .
فتراه يدور حكمه بين فرض العين والسنة المؤكدة ، والسبب في هذا الاختلاف ، اختلافهم في وجهة النظر في الغرض من الأذان هل هو من حق الوقت للإعلام بدخوله أو من حق الصلاة ، كذكر من أذكارها أو هو شعار للمسلمين يميزهم عن غيرهم ؟ .
وسنجمل أقوال الأئمة رحمهم الله مع الإشارة إلى مأخذ كل منهم ثم بيان الراجح إن شاء الله . .
أولاً : اتفق الشافعي وأبو حنيفة على أنه سنة على ما رجحه النووي عن الشافعي في المجموع أنه سنة في حق الجميع المنفرد والجماعة في الحضر وفي السفر ، أي أنه لا تتعلق به صحة الصلاة . .
وحكي عنه أنه فرض كفاية أي للجماعة أو للجمعة خاصة ، والدليل لهم في ذلك حديث المسيء صلاته ، لأن النَّبي صلى الله عليه وسلم علمه معها الوضوء واستقبال القبلة ، ولم يعلمه أمر الأذان ولا الإقامة . .
ثانياً : مالك جاء عنه أنه فرض على المساجد التي للجماعة وليس على المنفرد فرضاً ولا سنة . وعنه : أنه سنة مؤكدة على مساجد الجماعة ، ففرق مالك بين المنفرد ومساجد الجماعة . وفي متن خليل عندهم أنه سنة لجماعة تطلب غيرها في فرض وقتي ، ولو جمعة أي وما عدا ذلك فليس بسنة . فلم يجعله على المنفرد أصلاً . واختلف القول عنه في مساجد الجماعة ما بين الفرض والسنة المؤكدة ، واستدل بحديث ابن عمر رضي الله عنه : كان لا يزيد على الإقامة في السفر إلا في الصبح ، وكان يقول إنما الأذان للإمام الذي يجتمع له الناس . رواه مالك . .
وكذلك أثر ابن مسعود وعلقمة : صلوا بغير أذان ولا إقامة قال سفيان ، كفتهم إقامة المصر ، وقال ابن مسعود : إقامة المصر تكفي ، رواهما الطبراني في الكبير بلين . .
ثالثاً : وعند الحنابلة : قال الخرقي : هو سنة أي كالشافعي وأبي حنيفة ، وغير الخرقي قال كقول مالك . .
رابعاً : عند الظاهرية فرض على الأعيان ، ويستدلون بحديث مالك بن الحويرث وصاحبه ، قال لهما صلى الله عليه وسلم : ( إذا كنتما في سفر فأذنا وأقيما وليؤمكما أكبركما ) . متفق عليه . .
فحملوا الأمر على الوجوب . .
هذا موجز أقوال الأئمة رحمهم الله مع الإشارة إلى أدلتهم في الجملة ، وحكمه كما رأيت دائر بين السنة عموماً عند الشافعي وأبي حنيفة ، والوجوب عند الظاهرية .