وقد صالح النبي صلى الله عليه وسلم المشركين يوم الحديبية لمصلحة ظهرت فيما بعد وصالح المسلمون في غزوهم أفريقية أهلها وانكفأوا راجعين إلى مصر . وقال عمر ابن الخطاب في كلام له مع بعض أمراء الجيش " فقد آثرت سلامة المسلمين " . وأما الصلح على بعض الأرض مع فتحها فذلك لا ينافي قوة الفاتحين كما صالح أمراء أبي بكر نصف أهل دمشق وكما صالح أمراء عمر أهل سود العراق وكانوا أعلم بما فيه صلاحهم .
وقرأ الجمهور ( لى السلم ) بفتح السين . وقرأه أبو بكر عن عاصم وحمزة بكسر السين وهما لغتان .
وجملة ( وأنتم الأعلون ) عطف على النهي عطف الخبر على الإنشاء والخبر مستعمل في الوعد .
والأعلون : مبالغة في العلو . وهو هنا بمعنى الغلبة والنصر كقوله تعالى لموسى ( إنك أنت الأعلى ) أي والله جاعلكم غالبين .
( والله معكم ) عطف على الوعد . والمعية معية الرعاية والكلاءة أي والله حافظكم وراعيكم فلا يجعل الكافرين عليكم سبيلا . والمعنى : وأنتم الغالبون بعناية الله ونصره .
وصيغ كل من جملتي ( أنتم الأعلون والله معكم ) جملة اسمية للدلالة على ثبات الغلب لهم وثبات عناية الله بهم .
وقوله ( ولن يتركم أعمالكم ) وعد بتسديد الأعمال ونجاحها عكس قوله في أول السورة ( الذين كفروا وصدوا عن سبيل الله أضل أعمالهم ) فكني عن توفيق الأعمال ونجاحها بعدم وترها أي نقصها للعلم بأنه إذا كان لا ينقصها فبالحري أن لا يبطلها أي لا يخيبها وهو ما تقدم من قوله ( والذين قاتلوا في سبيل الله فلن يضل أعمالهم سيهديهم ويصلح بالهم ) .
يقال : وتره يتره وترا وترة كوعد إذا نقصه وفي حديث الموطأ " من فاتته صلاة العصر فكأنما وتر أهله وماله " .
ويجوز أيضا أن يراد منه صريحه أي ينقصكم ثوابكم على أعمالكم أي الجهاد المستفاد من قوله ( فلا تهنوا وتدعوا إلى السلم ) فيفيد التحريض على الجهاد بالوعد بأجره كاملا .
( إنما الحياة الدنيا لعب ولهو ) تعليل لمضمون قوله ( فلا تهنوا وتدعوا إلى السلم ) الآية وافتتاحها ب ( إن ) مغن عن افتتاحها بفاء التسبب على ما بينه في دلائل الإعجاز وليس اتصال ( إن ) ب ( ما ) الزائدة الكافة بمغير موقعها بدون ( ما ) لأن اتصالها بها زادها معنى الحصر .
والمراد ب ( الحياة ) أحوال مدة الحياة فهو على حذف مضافين .
واللعب : الفعل الذي يريد به فاعله الهزل دون اجتناء فائدة كأفعال الصبيان في مرحهم .
واللهو : العمل الذي يعمل لصرف العقل عن تعب الجد في الأمور فيلهو عن ما يهتم له ويكد عقله .
والإخبار عن الحياة بأنها لعب ولهو على معنى التشبيه البليغ شبهت أحوال الحياة الدنيا باللعب واللهو في عدم ترتب الفائدة عليها لأنها فانية منقضية والآخرة هي دار القرار .
A E وهذا تحذير من أن يحملهم حب لذائذ العيش على الزهادة في مقابلة العدو ويتلو إلى مسالمته فإن ذلك يغري العدو بهم .
وحب الفتى طول الحياة يذله ... وإن كان فيه نخوة وعزام ( وإن تؤمنوا وتتقوا يؤتكم أجوركم ولا يسألكم أموالكم [ 36 ] إن يسئلكموها فيحفكم تبخلوا ويخرج أضغانكم [ 37 ] ) الأشبه أن هذا عطف على قوله ( فلا تهنوا وتدعوا إلى السلم ) تذكيرا بأن امتثال هذا النهي هو التقوى المحمودة ولأن الدعاء إلى السلم قد يكون الباعث عليه حب إبقاء المال الذي ينفق في الغزو فذكروا هنا بالإيمان والتقوى ليخلعوا عن أنفسهم الوهن لأنهم نهوا عنه وعن الدعاء إلى السلم فكان الكف عن ذلك من التقوى وعطف عليه أن الله لا يسألهم أموالهم إلا لفائدتهم وإصلاح أمورهم ولذلك وقع بعده قوله ( ها أنتم هؤلاء تدعون لتنفقوا في سبيل الله ) إلى قوله ( عن نفسه ) على أن موقع هذه الجملة تعليل النهي المتقدم بقوله ( إنما الحياة الدنيا لعب ولهو ) مشيرا إلى أن الحياة الدنيا إذا عمرت بالإيمان والتقوى كانت سببا في الخير الدائم .
والأجور هنا : أجور الآخرة وهي ثواب الإيمان والتقوى .
فالخطاب للمسلمين المخاطبين بقوله ( فلا تهنو ) الآية