( فلا تهنوا وتدعوا إلى السلم وأنتم الأعلون والله معكم ولن يتركم أعمالكم [ 35 ] ) الفاء للتفريع على ما تقرر في نفوس المؤمنين من خذل الله تعالى المشركين بما أخبر به من أنه أضل أعمالهم وقدر لهم التعس وبما ضرب لهم من مصائر أمثالهم من الذين من قبلهم دمرهم الله وأهلكم ولم يجدوا ناصرا وما وعد به المؤمنين من النصر عليهم وما أمرهم به من قتالهم وبتكلفه للمؤمنين بالولاية وما وعدهم من الجزاء في دار الخلد وبما أتبع ذلك من وصف كيد فريق المنافقين للمؤمنين وتعهدهم بإعانة المشركين وذلك مما يوجس منه المؤمنون خيفة إذ يعلمون أن أعداء لهم منبثون بين ظهرانيهم .
فعلى ذلك كله فرع نهيهم عن الوهن وعن الميل الى الدعة ووعدهم بأنهم المنتصرون وأن الله مؤيدهم .
ويجوز أن يجعل التفريع على أقرب الأخبار المتقدمة وهو قوله ( ولنبلونكم حتى نعلم المجاهدين منكم والصابرين ) .
وهذا النهي عن الوهن وعن الدعاء إلى السلم تحذير من أمر توفرت أسباب حصوله متهيئة للإقدام على الحرب عند الأمر بها وليس نهيا عن وهن حصل لهم ولا عن دعائهم إلى السلم لأن هذه السورة نزلت بعد غزوة بدر وقبل غزوة أحد في مدة لم يكن فيها قتال بين المسلمين والمشركين ولكن التحذير من أن يستوهنهم المنافقون عند توجه أمر القتال فيقولوا : لو سالمنا القوم مدة حتى نستعيد عدتنا ونسترجع قوتنا بعد يوم بدر وقد كان أبو سفيان ومن معه من المشركين لما رجعوا إلى مكة مفلولين بعد وقعة بدر يتربصون بالمسلمين فرصة يقاتلونهم فيها لما ضايقهم من تعرض المسلمين لهم في طريق تجارتهم إلى الشام مثل ما وقع في غزوة السويق وغزوة ذي قرد فلما كان في المدينة منافقون وكان عند أهل مكة رجال من أهل يثرب خرجوا منها مع أبي عامر الضبغي الملقب في الجاهلية بالراهب والذي غير النبي صلى الله عليه وسلم لقبه فلقبه الفاسق .
كان من المتوقع أن يكيد للمسلمين أعداؤهم من أهل يثرب فيظاهروا عليهم المشركين متسترين بعلة طلب السلم فحذرهم الله من أن يقعوا في هذه الحبالة .
والوهن : الضعف والعجز وهو هنا مجاز في طلب الدعة . ومعناه : النهي عن إسلام أنفسهم لخواطر الضعف والعمل بهذا النهي يكون باستحضار مساوي تلك الخواطر فإن الخواطر الشريرة إذا لم تقاومها همة الإنسان دبت في نفسه رويدا رويدا حتى تتمكن منها فتصبح ملكة وسجية . فالمعنى : ادفعوا عن أنفسكم خواطر الوهن واجتنبوا مظاهره وأولها الدعاء إلى السلم وهو المقصود بالنهي .
والنهي عن الوهن يقتضي أنهم لم يكونوا يومئذ في حال وهن .
A E وعطف ( وتدعوا ) على ( تهنوا ) فهو معمول لحرف النهي والمعنى : ولا تدعوا إلى السلم وهو عطف خاص على عام من وجه لأن الدعاء إلى المسلم مع المقدرة من طلب الدعة لغير مصلحة . وإنما خص بالذكر لئلا يظن أن فيه مصلحة استبقاء النفوس والعدة بالاستراحة من عدول العدو على المسلمين فإن المشركين يومئذ كانوا متكالبين على المسلمين فربما ظن المسلمون أنهم إن تداعوا معهم للسلم أمنوا منهم وجعلوا ذلك فرصة لينشوا الدعوة فعرفهم الله أن ذلك يعود عليهم بالمضرة لأنه يحط من شوكتهم في نظر المشركين فيحسبونهم طلبوا السلم عن ضعف فيزيدهم ذلك ضراوة عليهم وتستخف بهم قبائل العرب بعد أن أخذوا من قلوبهم مكان الحرمة وتوقع البأس .
ولهذا المقصد الدقيق جمع بين النهي عن الوهن والدعاء إلى السلم وأتبع بقوله ( وأنتم الأعلون ) .
فتحصل مما تقرر أن الدعاء إلى السلم المنهي عنه هو طلب المسألة من العدو في حال قدرة المسلمين وخوف العدو منهم فهو سلم مقيد بكون المسلمين داعين له وبكونه عن وهن في حال قوة . قال قتادة : أي لا تكونوا أول الطائفتين ضرعت إلى صاحبتها . فهذا لا ينافي السلم المأذون فيه بقوله ( وإن جنحوا للسلم فاجنح لها ) في سورة الأنفال فأنه سلم طلبه العدو فليست هذه الآية ناسخة لآية الأنفال ولا العكس ولكل حالة خاصة ومقيد بكون المسلمين في حالة قوة ومنعة وعدة بحيث يدعون إلى السلم رغبة في الدعة .
فإذا كان للمسلمين مصلحة في السلم أو كان أخف ضرا عليهم فلهم أن يبتدئوا إذا احتاجوا إليه وأن يجيبوا إليه إذا دعوا إليه