وجملة ( يضربون وجوههم وأدبارهم ) حال من ( الملائكة ) . والمقصود من هذه الحال : وعيدهم بهذه الميتة الفظيعة التي قدرها الله لهم وجعل الملائكة تضرب وجوههم وأدبارهم أي يضربون وجوههم التي وقوها من ضرب السيف حين فروا من الجهاد فإن الوجوه مما يقصد بالضرب بالسيوف عند القتال قال الحريش القريعي أو العباس بن مرداس : .
نعرض للسيوف إذا التقينا ... وجوها لا تعرض للنظام ويضربون أدبارهم التي كانت محل الضرب لو قاتلوا وهذا تعريض بأنهم لو قاتلوا لفروا فلا يقع الضرب إلا في أدبارهم .
( ذلك بأنهم اتبعوا ما أسخط الله وكرهوا رضوانه فأحبط أعمالهم [ 28 ] ) الإشارة بذلك إلى الموت الفظيع الذي دل عليه قوله ( فكيف إذا توفتهم الملائكة ) كما تقدم آنفا .
واتباعهم ما أسخط الله : هو اتباعهم الشرك .
والسخط مستعار لعدم الرضى بالفعل .
وكراهتهم رضوان الله : كراهتهم أسباب رضوانه وهو الإسلام .
وفي ذكر اتباع ما أسخط الله وكراهة رضوانه محسن الطباق مرتين للمضادة بين السخط والرضوان والاتباع والكراهية .
والجمع بين الإخبار عنهم باتباعهم ما أسخط الله وكراهتهم رضوانه مع إمكان الاجتزاء بأحدهما عن الآخر للإيماء إلى أن ضرب الملائكة وجوه هؤلاء مناسب لإقبالهم على ما أسخط الله وأن ضربهم أدبارهم مناسب لكراهتهم رضوانه لأن الكراهة تستلزم الإعراض والإدبار ففي الكلام أيضا محسن اللف والنشر المرتب .
A E فكان ذلك التعذيب مناسبا لحالي توقيهم في الفرار من القتال وللسببين الباعثين على ذلك التوقي .
وفرع على اتباعهم ما أسخط الله وكراهتهم رضوانه قال ( فأحبط أعمالهم ) فكان اتباعهم ما أسخط الله وكراهتهم رضوانه سببا في الأمرين : ضرب الملائكة وجوههم وأدبارهم عند الوفاة وإحباط أعمالهم .
والإحباط : إبطال العمل أي أبطل انتفاعهم بأعمالهم التي عملوها مع المؤمنين من قول كلمة التوحيد ومن الصلاة والزكاة وغير ذلك . وتقدم ما هو بمعناه في أول السورة .
( أم حسب الذين في قلوبهم مرض أن لن يخرج الله أضغانهم [ 29 ] ) انتقال من التهديد والوعيد إلى الإنذار بأن الله مطلع رسوله صلى الله عليه وسلم على ما يضمره المنافقون من الكفر والمكر والكيد ليعلموا أن أسرارهم غير خافية فيوقنوا أنهم يكدون عقولهم في ترتيب المكائد بلا طائل وذلك خيبة لآمالهم .
و ( أم ) منقطعة في معنى ( بل ) للإضراب الانتقالي والاستفهام المقدر بعد ( أم ) للإنكار .
وحرف ( لن ) لتأييد النفي أي لا يحسبون انتفاء إظهار أضغانهم في المستقبل كما انتفى ذلك فيما مضى فلعل الله أن يفضح نفاقهم .
واستعير المرض إلى الكفر بجامع الإضرار بصاحبه ولكون الكفر مقره العقل المعبر عنه بالقلب كان ذكر القلوب مع المرض ترشيحا للاستعارة لأن القلب مما يناسب المرض الخفي إذ هو عضو باطن فناسب المرض الخفي .
والإخراج أطلق على الإظهار والإبراز على وجه الاستعارة لأن الإخراج استلال شيء من مكمنه فاستعير بخبر خفي .
والأضغان : جمع ضغن بكسر الضاد المعجمة وسكون الغين المعجمة وهو الحقد والعداوة .
والمعنى أنه يخرجها من قلوبهم وكان العرب يجعلون القلوب مقر الأضغان قال الشاعر وهو من شواهد المفتاح للسكاكي ولا يعرف قائله : .
الضاربين بكل أبيض مخذم ... والطاعنين مجامع الأضغان ( ولو نشاء لأريناكهم فلعرفتهم بسيماهم ) كان مرض قلوبهم خفيا لأنهم يبالغون في كتمانه وتمويهه بالتظاهر بالإيمان فذكر الله لنبيه صلى الله عليه وسلم أنه لو شاء لأطلعه عليهم واحدا واحدا فيعرف ذواتهم بعلاماتهم .
والسيمى بالقصر : العلامة الملازمة أصله : وسمى بوزن فعلى من الوسم وهو جعل سمة للشيء وهو بكسر أوله . فهو من المثال الواوي الفاء حولت الواو من موضع فاء الكلمة فوضعت في مكان عين الكلمة وحولت عين الكلمة إلى موضع الفاء فصارت سومى فانقلبت الواو ياء لسكونها وانكسار ما قبلها وتقدم عند قوله تعالى ( تعرفهم بسيماهم ) في سورة البقرة