استئناف بياني إذ التقدير أن يسأل سائل عن مظهر تسويل الشيطان لهم الارتداد بعد أن تبين لهم الهدى فأجيب بأن الشيطان استدرجهم إلى الضلال عندما تبين لهم الهدى فسول لهم أن يوافقوا أهل الشرك والكفر في بعض الأمور مسولا إن تلك الموافقة في بعض الأمر لا تنقض اهتداءهم فلما وافقوهم وجدوا حلاوة ما ألفوه من الكفر فيما وافقوا فيه أهل الكفر فأخذوا يعودون إلى الكفر المألوف حتى ارتدوا على أدبارهم . وهذا شأن النفس في معاودة ما تحبه بعد الانقطاع عنه إن كان الانقطاع قريب العهد .
فمعنى ( قالوا ) : قالوا قولا عن اعتقاد ورأي وإنما قالوا ( في بعض الأمر ) احترازا لأنفسهم إذا لم يطيعوا في بعض .
و ( الذين كرهوا ما نزل الله ) هم الذين كرهوا القرآن وكفروا وهم : إما المشركون من أهل مكة قال تعالى فيهم ( ذلك بأنهم كرهوا ما أنزل الله فأحبط أعمالهم ) وقد كانت لهم صلة بأهل يثرب فلما هاجر النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة اشتد تعهد أهل مكة لأصحابهم من أهل يثرب ليتطلعوا أحوال المسلمين ولعلهم بعد يوم بدر كانوا يكيدون للمسلمين ويتأهبون للثأر منهم الذي أنجزوه يوم أحد .
وإما اليهود من قريظة والنضير فقد حكى الله عنهم في قوله ( ألم تر إلى الذين نافقوا يقولون لإخوانهم الذين كفروا من أهل الكتاب ) .
A E فالمراد ب ( بعض الأمر ) على الوجه الأول في محمل قوله ( إن الذين ارتدوا على أدبارهم ) إفشاء بعض أحوال المسلمين إليهم وإشعارهم بوفرة عدد المنافقين وإن كانوا لا يقاتلون لكراهتهم القتال .
والمراد ب ( بعض الأمر ) على الوجه الثاني بعض أمر القتال يعنون تلك المكيدة التي دبروها للانخزال عن جيش المسلمين .
والأمر هو : شأن الشرك وما يلائم أهله أي نطيعكم في بعض الكفر ولا نطيعكم في جميع الشؤون لأن ذلك يفضح نفاقهم أو المراد في بعض ما تأمروننا به من إطلاق المصدر وإرادة اسم المفعول كالخلق على المخلوق .
وأيا ما كان فهم قالوا ذلك للمشركين سرا فأطلع الله عليه نبيه صلى الله عليه وسلم ولذلك قال تعالى ( والله يعلم أسرارهم ) .
وقرأ الجمهور ( أسرارهم ) بفتح الهمزة جمع سر . وقرأه حمزة والكسائي وحفص عن عاصم وخلف بكسر الهمزة مصدر أسر .
( فكيف إذا توفتهم الملائكة يضربون وجوههم وأدبارهم [ 27 ] ) الفاء يجوز أن تكون للتفريع على جملة ( إن الذين ارتدوا على أدبارهم ) الآية وما بينهما متصل بقوله ( الشيطان سول لهم ) بناء على المحمل الأول للارتداد فيكون التفريع لبيان ما سيلحقهم من العذاب عند الموت وهو استهلال لما يتواصل من عذابهم عن مبدأ الموت إلى استقرارهم في العذاب الخالد .
ويجوز على المحمل الثاني وهو أن المراد الارتداد عن القتال وتكون الفاء فصيحة فيفيد : إذا كانوا فروا من القتال هلعا وخوفا فكيف إذا توفتهم الملائكة أي كيف هلعهم ووجلهم الذي ارتدوا بهما عن القتال . وهذا يقتضي شيئين : أولهما أنهم ميتون لا محالة وثانيهما أن موتتهم يصحبها تعذيب .
فالأول مأخوذ بدلالة الالتزام وهو في معنى قوله تعالى ( الذين قالوا لإخوانهم وقعدوا لو أطاعونا ما قتلوا قل فادرءوا عن أنفسكم الموت إن كنتم صادقين ) وقوله ( وقالوا لا تنفروا في الحر قل نار جهنم أشد حرا لو كانوا يفقهون ) .
والثاني هو صريح الكلام وهو وعيد لتعذيب في الدنيا عند الموت .
والمقصود : وعيدهم بأنهم سيعجل لهم العذاب من أول منازل الآخرة وهو حالة الموت .
ولما جعل هذا العذاب محققا وقوعه رتب عليه الاستفهام عن حالهم استفهاما مستعملا في معنى تعجيب المخاطب من حالهم عند الوفاة وهذا التعجيب مؤذن بأنها حالة فظيعة غير معتادة إذ لا يتعجب إلا من أمر غير معهود والسياق يدل على الفظاعة .
و ( إذا ) متعلق بمحذوف دل عليه اسم الاستفهام تقديره : كيف حالهم أو عملهم حين تتوفاهم الملائكة .
وكثر حذف متعلق ( كيف ) في أمثال هذا مقدرا مؤخرا عن ( كيف ) وعن ( إذا ) كقوله تعالى ( فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد ) . والتقدير : كيف يصنعون ويحتالون .
وجعل سيبوية ( كيف ) في مثله ظرفا وتبعه ابن الحاجب في الكافية . ولعله أراد الفرار من الحذف