والاستفهام مستعمل في التكذيب لما سيعتذرون به لانخزالهم ولذلك جيء فيه ب ( هل ) الدالة على التحقيق لأنها في الاستفهام بمنزلة ( قد ) في الخبر فالمعنى : أفيتحقق إن توليتم أنكم تفسدون في الأرض وتقطعون أرحامكم وأنتم تزعمون أنكم توليتم إبقاء على أنفسكم وعلى ذوي قرابة أنسابكم على نحو قوله تعالى ( قال هل عسيتم إن كتب عليكم القتال أن لا تقاتلوا ) وهذا توبيخ كقوله تعالى ( ثم أنتم هؤلاء تقتلون أنفسكم وتخرجون فريقا منكم من ديارهم ) . والمعنى : أنكم تقعون فيما زعمتم التفادي منه وذلك بتأييد الكفر وإحداث العداوة بينكم وبين قومكم من الأنصار .
فالتولي هنا هو الرجوع عن الوجهة التي خرجوا لها كما في قوله تعالى ( فلما كتب عليهم القتال تولوا إلا قليلا منهم ) وقوله ( أفرأيت الذي تولى ) وقوله ( فتولى فرعون فجمع كيده ثم أتى ) . وبمثله فسر ابن جريج وقتادة على تفاوت بين التفاسير . ومن المفسرين من حمل التولي على أنه مطاوع ولاه إذا أعطاه ولاية أي ولاية الحكم والإمارة على الناس وبه فسر أبو العالية والكلبي وكعب الأحبار . وهذا بعيد من اللفظ ومن النظم وفيه تفكيك لاتصال نظم الكلام وانتقال بدون مناسبة وتجاوز بعضهم ذلك فأخذ يدعي أنها نزلت في الحرورية ومنهم من جعلها فيما يحدث بين بني أمية وبني هاشم على عادة أهل الشيع والأهواء من تحميل كتاب الله ما لا يتحمله ومن قصر عموماته على بعض ما يراد منها .
A E وقرأ نافع وحده ( عسيتم ) بكسر السين . وقرأه بقية العشرة بفتح السين وهما لغتان في فعل عسى إذا اتصل به ضمير . قال أبو علي الفارسي : وجه الكسر أن فعله : عسي مثل رضي ولم ينطقوا به إلا إذا أسند هذا الفعل إلى ضمير وإسناده إلى الضمير لغة أهل الحجاز أما بنو تميم فلا يسندونه إلى الضمير البتة يقولون : عسى أن تفعلوا .
( أولئك الذين لعنهم الله فأصمهم وأعمى أبصارهم [ 23 ] ) الإشارة إلى الذين في قلوبهم مرض على أسلوب قوله آنفا ( أولئك الذين طبع الله على قلوبهم ) ولا يصح أن تكون الإشارة إلى ما يؤخذ من قوله ( أن تفسدوا في الأرض وتقطعوا أرحامكم ) لأن ذلك لا يستوجب اللعنة ولا أن مرتكبيه بمنزلة الصم على أن في صيغة المضي في أفعال : لعنهم وأصمهم وأعمى ما لا يلاقي قوله ( فهل عسيتم ) ولا ما في حرف ( إن ) من زمان الاستقبال .
واستعير الصمم لعدم الانتفاع بالمسموعات من آيات القرآن ومواعظ النبي صلى الله عليه وسلم كما استعير العمى هنا لعدم الفهم على طريقة التمثيل لأن حال الأعمى أن يكون مضطربا فيما يحيط به لا يدري نافعه من ضاره إلا بمعونة من يرشده وكثر أن يقال : أعمى الله بصره مرادا به أنه لم يهده وهذه هي النكتة في مجيء تركيب ( وأعمى أبصارهم ) مخالفا لتركيب ( فأصمهم ) إذ لم يقل : وأعمالهم .
وفي الآية إشعار بأن الفساد في الأرض وقطيعة الأرحام من شعار أهل الكفر فهما جرمان كبيران يجب على المؤمنين اجتنابهما .
( أفلا يتدبرون القرآن أم على قلوب أقفالها [ 24 ] ) تفريع على قوله ( فأصمهم وأعمى أبصارهم ) أي هلا تدبروا القرآن عوض شغل بالهم في مجلسك بتتبع أحوال المؤمنين أو تفريع على قوله ( فأصمهم وأعمى أبصارهم ) .
والمعنى : أن الله خلقهم بعقول غير منفعلة بمعاني الخير والصلاح فلا يتدبرون القرآن مع فهمه أو لا يفهمونه عند تلقيه وكلا الأمرين عجيب .
والاستفهام تعجيب من سوء علمهم بالقرآن ومن إعراضهم عن سماعه .
وحرف ( أم ) للإضراب الانتقالي . والمعنى : بل على قلوبهم أقفال وهذا الذي سلكه جمهور المفسرين وهو الجاري على كلام سيبويه في قوله تعالى ( أفلا تبصرون أم أنا خير من هذا الذي هو مهين ) في سورة الزخرف خلافا لما يوهمه أو توهمه ابن هشام في مغني اللبيب .
والتدبر : التفهم في دبر الأمر أي ما يخفى منه وهو مشتق من دبر الشيء أي خلفه .
والأقفال : جمع قفل وهو استعارة مكنية إذ شبهت القلوب أي العقول في عدم إدراكها المعاني بالأبواب أو الصناديق المغلقة والأقفال تخييل كالأظفار للمنية في قول أبي ذؤيب الهذلي : .
وإذا المنية أنشبت أظفارها ... ألفيت كل تميمة لا تنفع وتنكير ( قلوب ) للتنويع أو التبعيض أي على نوع من القلوب أقفال