" قوامين بالقسط " مجتهدين في إقامة العدل حتى لا تجوروا " شهداء لله " تقيمون شهاداتكم لوجه الله كما أمرتم بإقامتها " ولو على أنفسكم " ولو كانت الشهادة على أنفسكم أو آبائكم أو أقاربكم . فإن قلت : الشهادة على الوالدين والأقربين أن تقول : أشهد أن لفلان على والدي كذا أو على أقاربي . فما معنى الشهادة على نفسه ؟ قلت : هي الإقرار على نفسه لأنه في معنى الشهادة عليها بإلزام الحق لها . ويجوز أن يكون المعنى : وإن كانت الشهادة وبالا على أنفسكم أو على آبائكم وأقاربكم وذلك أن يشهد على من يتوقع ضرره من سلطان ظالم أو غيره " إن يكن " إن يكن المشهود عليه " غنيا " فلا تمنع الشهاة عليه لغناه طلبا لرضاه " أو فقيرا " فلا تمنعها ترحما عليه " فالله أولى بهما " بالغني والفقير أي بالنظر لهما وإرادة مصلحتهما ولولا أن الشهادة عليهما مصلحة لهما لما شرعها لأنه أنظر لعباده من كل ناظر . فإن قلت : لم ثنى الضمير في أولى بهما وكان حقه أن يوحد لأن قوله : " إن يكن غنيا أو فقيرا " في معنى إن يكن أحد هذين ؟ قلت : قد رجع الضمير إلى ما دل عليه قوله : " إن يكن غنيا أو فقيرا " لا إلى المذكور فلذلك ثنى ولم يفرد وهو جنس الغني وجنس الفقير كأنه قيل : فالله أولى بجنسي الغني والفقير أي بالأغنياء والفقراء وفي قراءة أبي : فالله أولى بهم وهي شاهدة على ذلك . وقرأ عبد الله : إن يكن غني أو فقير على كان التامة " أن تعدلوا " يحتمل العدل والعدول كأنه قيل : فلا تتبعوا الهوى كراهة أنتعدلوا بين الناس أو إرادة أن تعدلوا عن الحق " وإن تلوا أو تعرضوا " وإن تلووا ألسنتكم عن شهادة الحق أو حكومة العدل أو تعرضوا عن الشهادة بما عندكم وتمنعوها . وقرئ : وإن تلوا أو تعرضوا بمعنى : وإن وليتم إقامة الشهادة أو أعرضتم عن إقامتها " فإن الله كان بما تعملون خبيرا " وبمجازاتكم عليه .
" يا أيها الذين آمنوا آمنوا بالله ورسوله والكتاب الذي نزل على رسوله والكتاب الذي أنزل من قبل ومن يكفر بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر فقد ضل ضلالا بعيدا " " يا أيها الذين آمنوا " خطاب للمسلمين . ومعنى " آمنوا " اثبتوا على الإيمان وداوموا عليه وازدادوه " والكتاب الذي أنزل من قبل " المراد به جنس ما أنزل على الأنبياء قبله من الكتب والدليل عليه قوله : " وكتبه " و قرئ : وكتابه على إرادة الجنس . وقرئ : نزل . وأنزل على البناء للفاعل . وقيل : الخطاب لأهل الكتاب لأنهم آمنوا ببعض الكتب والرسل وكفروا ببعض . وروي : أنه لعبد الله بن سلام وأسد وأسيد ابني كعب وثعلبة بن قيس وسلام بن أخت عبد الله بن سلام وسلمة ابن أخيه ويامين بن يامين أتوا رسول الله A وقالوا : يا رسول الله إنا نؤمن بك وبكتابك وموسى والتوراة وعزيز ونكفر بما سواه من الكتب والرسل فقال عليه السلام : " بل آمنوا بالله ورسوله محمد وكتابه القرآن وبكل كتاب كان قبله فقالوا : لا نفعل فنزلت فآمنوا كلهم . وقيل : هو للمنافقين كأنه قيل : يا أيها الذين آمنوا نفاقا آمنوا إخلاصا . فإن قلت : كيف قيل لأهل الكتاب " والكتاب الذي أنزل من قبل " وكانوا مؤمنين بالتوراة والإنجيل ؟ قلت : كانوا مؤمنين فحسب وما كانوا مؤمنين بكل ما أنزل من الكتب فأمروا أن يؤمنوا بالجنس كله ولأن إيمانهم ببعض الكتب لا يصح إيمانا به لأن طريق الإيمان به هو المعجزة ولا اختصاص لها ببعض الكتب دون بعض فلو كان إيمانهم بما آمنوا به لأجل المعجزة لآمنوا به كله فحين آمنوا ببعضه علم أنهم لم يعتبروا المعجزة فلم يكن إيمانهم إيمانا . وهذا الذي أراد D في قوله : " ويقولون نؤمن ببعض ونكفر ببعض ويريدون أن يتخذوا بين ذلك سبيلا أولئك هم الكافرون حقا " النساء : 150 . فإن قلت : لم قيل نزل على رسوله و أنزل من قبل ؟ قلت : لأن القرآن نزل مفرقا منجما في عشرين سنة بخلاف الكتب قبله ومعنى قوله : " ومن يكفر بالله " الآية ومن يكفر بشيء من ذلك " فقد ضل " لأن الكفر ببعضه كفر بكله . ألا ترى كيف قدم الأمر بالإيمان به جميعا .
" إن الذين آمنوا ثم كفروا ثم آمنوا ثم كفروا ثم ازدادوا كفرا لم يكن الله ليغفر لهم ولا ليهديهم سبيلا "