أتاه اليقين وهو مجاهد في سبيله مضح بنفسه ونفيسه ولقد بلغ الأمر إلى حد أن الرسول كان يرد بعض من يتطوع بالجندية من الشباب لحداثة أسنانهم وكان كثير من ذوي الأعذار يؤلمهم التخلف عن الغزو حتى يضطر الرسول أن يتخلف معهم جبرا لخاطرهم ويرسل سراياه وبعوثه بعد أن ينظمها ويزودها بما تحتاجه ولا يخرج معهم روى مالك والشيخان أن رسول الله قال والذي نفس محمد بيده لولا أن أشق على المسلمين ما قعدت خلاف سرية تغزو في سبيل الله أبدا ولكن لا أجد سعة فأحملهم ولا يجدون سعة ويشق عليهم أن يتخلفوا عني والذي نفس محمد بيده لوددت أن أغزو في سبيل الله فأقتل ثم أغزو فأقتل ثم أغزو فأقتل .
المظهر الرابع ذلك النجاح الباهر الذي أحرزه القرآن في هداية العالم فقد وجد قبل النبي أنبياء ومصلحون وعلماء ومشترعون وفلاسفة وأخلاقيون وحكام ومتحكمون فما تسنى لأحد من هؤلاء بل ما تسنى لجميعهم أن يحدثوا مثل هذه النهضة الرائعة التي أحدثها محمد في العقائد والأخلاق وفي العبادات والمعاملات وفي السياسة والإدارة وفي كافة نواحي الإصلاح الإنساني وما كان لمحمد ولا لألف رجل غير محمد أن يأتوا بمثل هذا الدستور الصالح الذي أحيا موات الأمة العربية في أقل من عشرين سنة ثم نفخ فيهم من روحه فهبوا بعد وفاته ينقذون العالم ففتحوا ملك كسر وقيصر ووضعوا رجلا في الشرق ورجلا في الغرب وخفقت رايتهم على نصف المعمور في أقل من قرن ونصف قرن من الزمان .
أفسحر هذا أم هو برهان عقلي لمحه المنصفون من الباحثين فاكتفوا من محمد بهذا النجاح الباهر دليلا على أنه رسول من رب العالمين .
هذا فيلسوف من فلاسفة فرنسا يذكر في كتاب له ما زعمه دعاة النصرانية من أن محمدا لم يأت بآية على نبوته كآيات موسى وعيسى ثم يفند هذا الزعم ويقول إن محمدا كان يقرأ القرآن خاشعا أواها متألها فتفعل قراءته في جذب الناس إلى الإيمان به ما لم تفعله جميع آيات الأنبياء الأولين .
أجل لقد صدق الرجل فإن فعل القرآن في نفوس العرب كان أشد وأرقى وأبلغ مما فعلت معجزات جميع الأنبياء وإن شئت مقارنة بسيطة فهذا موسى عليه السلام قد أتى بني إسرائيل بآيات باهرة من عصا يلقيها فإذا هي ثعبان مبين ومن يد يخرجها فإذا هي بيضاء للناظرين ومن انفلاق البحر فإذا هو طريق يابسة يمشون فيها ناجين آمنين إلى غير ذلك من الآيات الكثيرة في مصر وفي طور سينا مدة التيه فهل تعلم مدى تأثير هذه الهدايات في إيمانهم بالله ووحدانيته وإخلاصهم لدينه ونصرة رسوله إنهم ما كادوا