ثقافة التقريب خطوات عملية لتحقيق هذه الثقافة

ثقافة التقريب  خطوات عملية لتحقيق هذه  الثقافة

ثقافة التقريب  خطوات عملية
لتحقيق هذه  الثقافة

 

الأستاذ الدكتور محمد بن علي الهرفي
الكاتب الصحفي المملكة العربية السعودية


بسم الله الرحمن الرحيم

مقدمة:
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسولنا محمد وعلى آله وصحبه رضي الله عنهم وأرضاهم، فقد حمل هؤلاء جميعاً لواء الإسلام في أشد الظروف صعوبة، وتحملوا في سبيله الشيء الكثير ؛ قدموا من أجله أرواحهم وممتلكاتهم طيبة بها نفوسهم، كل ذلك طاعة لله ولرسوله، وابتغاء المثوبة والمقام الرفيع في الدار الآخرة..
من هؤلاء الطيبين الطاهرين الإمام علي (عليه السلام) الذي وصفه ضرار بن ضمرة بقوله: »كان والله بعيد المدى، شديد القوى، يقول فصلاً ويحكم عدلاً، يتفجر العلم من جوانبه ومن نواحيه، يستوحش من الدنيا وزهرتها، ويستأنس بالليل وظلمته، كان والله غزير الدمعة، طويل الفكرة، يقلب كفه ويخاطب نفسه، يعجبه من اللباس ما خشن ومن الطعام ما جشب«([1]).
ومع هذا فقد كان (عليه السلام) حسن الوجه، ضحوك السن، خفيف المشي على الأرض«([2]).
ورضي الله عن ابنه الحسن الذي وصفه أبو هريرة بقوله: » ما رأيت الحسن قط إلاّ فاضت عيناي دموعاً، وذلك أنه أتى يوماً حتى قعد في حجر رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فجعل يقول بيديه هكذا في لحية رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، ورسول الله يفتح فمه ثم يدخل فمه في فمه ويقول: »اللهم إني أحبه فأحببه« ثلاث مرات([3]).
ورضي الله عن أخيه الحسين الذي سمعه رسولنا الكريم يبكي فتأثر كثيراً من بكائه فقال لأمه: »ألم تعلمي أن بكاءه يؤذيني« أخرجه الطبراني.
هذه الروايات وغيرها كثير يصعب حصره مما رواه أعلام أهل السنة عن مكانة الإمام علي (عليه السلام) وآل بيته الكرام تؤكد حبهم وتعظيمهم لهم، وهي تشير بالتالي إلى أهمية نبذ كل أنواع الخلافات التي حدثت أو قد تحدث مستقبلاً بدعوى أن أهل السنة لا يحبون علياً وآل بيته...
وهذا البحث المختصر يحاول التأكيد على أن سلفنا الصالح –على اختلاف مذاهبهم- كانوا يعملون يداً واحدة، يجمعهم حب الله ورسوله وأهل بيته الكرام، ومعرفتهم أن وحدة المسلمين هي الأساس الذي قام عليه هذا الدين، وأن الفرقة هي أول طريق الضياع، ومن أجل ذلك كانوا يعملون معاً فيما اتفقوا عليه، كما كان يعذر بعضهم بعضاً فيما اختلفوا فيه.
والأمل أن يكون المسلمون اليوم على ما كان عليه أسلافهم. والله الهادي إلى سواء السبيل.

الإسلام يوحد بين أتباعه:
كان النظام الاجتماعي في جزيرة العرب يفرق بين الناس بحسب ألوانهم وأجناسهم ومعتقداتهم ؛ فهذا رقيق وهذا سيد، وذاك أصيل النسب والآخر هجينه، وذاك رجل والأخرى امرأة، وأما الفوارق بين الأبيض والأسود فحدث عنها ولا حرج.
في هذه الأجواء القاتمة نزل الإسلام الواحد ليقول لكل المسلمين بعبارة واضحة صريحة: » ولا فرق بين عربي وأعجمي ولا أبيض وأسود إلاّ بالتقوى «.
ثم خطا رسولنا الكريم (صلى الله عليه وآله وسلم) خطوة متقدمة في وضع آلية قوية لتآخي المسلمين وذلك عندما هاجر إلى المدينة حيث آخى بين المهاجرين والأنصار في السرّاء والضرّاء، فتشاركوا في المال، كما تشاركوا في عبء النهوض بالدعوة الإسلامية والقتال في سبيل الله.
إن تلاحم المسلمين جزء من طبيعة الإسلام » وركنه الذي تقوم عليه دعوته الدينية العامة الموجهة إلى الناس أجمعين. وقد استجاب لها المسلمون في أول عهدهم فأكسبتهم قوة وعزة وغلبة، فانتشرت الدعوة الدينية، وانتصرت، وصدت من عارضها، فتفتحت أمامها الطرق، واتسع الأفق، وعمت بلاد من كان يعارضها ويدفعها، ويقف في طريقها« ([4]).
علمنا الإسلام أن نحافظ على هذه الوحدة بكل ما نملك، وأن نبتعد على الخصومة والنزاع وكل ما يؤدي إليهما.
ونظراً لأهمية التقارب بين المسلمين والبعد عن الفرقة فقد جعله الله مما امتن به على عباده.
ونحن نعرف أن الإسلام ساوى بين أتباعه في الحقوق والواجبات، فالمسلمون كلهم سواسية، يقول رسولنا الكريم: »المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يحقره، وكونوا عباد الله إخوانا«.
هذه الأخوة يجب أن تظهر واضحة على كل المسلمين في أقوالهم وأفعالهم وفي جميع أحوالهم، والتفرقة المنبوذة هنا ما كانت مذهبية، أو سياسية أو عصبية للجنس أو البلد أو كل ما قد يسيء للمسلم الآخر.
المذاهب الإسلامية متقاربة:- يجمع فقهاء السنة والشيعة على أن أصول مذهبيهما الفقهية متقاربة إلى حد بعيد، كما يثبت التاريخ أن هناك علاقات علمية قوية بين فقهاء كلا المذهبين، وأن بعضهم تتلمذ على البعض الآخر في الفقه والعقائد والسلوك وغيره من سائر العلوم الأخرى.
إن ما كتبه الشيخ حسن الصفار في هذا الباب يعد رائداً في مجاله فقد تحدث عن الجذور الفقهية بين المذهبين فأفاد وأجاد، وكان مما قاله في كتابه »التعددية والحرية في الإسلام« »ولو قمنا بدارسة تفصيلية لتحديد مساحات الاتفاق والافتراق بين المذاهب الإسلامية عقائدياً وفقهياً لوجدنا أن الاختلاف هو الأضيق مساحة والأقل شأناً، بينما يشمل الاتفاق أغلب المسائل وأهمها. لكن مشكلة المسلمين تكمن في وجود من يثير ويضخم مسائل الاختلاف لأهداف مغرضة مشبوهة«. ونقل عن الشيخ محمد الحسين كاشف الغطاء قوله: »إن المسلمين جميعاً مهما اختلفوا في أشياء من الأصول والفروع فإنهم قد اتفقوا على مضمون الأحاديث المقطوع عندهم بصحتها من أن من شهد الشهادتين واتخذ الإسلام ديناً له فقد حرم دمه وماله وعرضه، والمسلم أخو المسلم، وأن من صلى على قبلتنا، وأكل ذبيحتنا، ولم يتدين بغير ديننا فهو منّا له ما لنا وعليه ما علينا«([5]) .
وقد نقل في كتابه مجموعة من أقوال كبار علماء الشيعة والسنة بعدم جواز تكفير أحد من المسلمين.
ومن المؤسف أن يتبادل أفراد من أتباع المذهبين تهم تكفير بعضهم للبعض الآخر بحجة أن البعض يناصب أهل البيت العداء أو أن الطرف الآخر يكفر السنة جملةً وتفصيلاً لأسباب ذكروها..
ولو أن هؤلاء أدركوا خطورة ما يقومون به كما أدركوا أن أسلافهم العظام حاربوا ظاهرة التكفير وحذّروا منها كثيراً حتى في أحلك الظروف وأقساها لعرفوا كم هم مخطئون وواهمون..
ولو عرف هؤلاء قوة العلاقة بين أسلافهم وحب بعضهم للبعض الآخر، ودفاع بعضهم عن بعض لغيروا مسارهم بالكلية، ولوضعوا أيديهم في أيدي بعض ليتعاونوا مثل أسلافهم على بناء دولة إسلامية قوية، يكون لكل واحد منهم فيها شأن مثله مثل غيره من أبناء البلاد سواء بسواء.
إن الإمام علياً (عليه السلام) وبعدما ضربه ابن ملجم، وكان قريباً من الله، كانت وصيته لأمته قوله: » عليكم بالتواصل والتباذل، وإياكم والتدابر والتقاطع والتفرق، وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان. واتقوا الله إن الله شديد العقاب «([6]).
فانظروا كيف كان همه الأكبر أن لا يختلف المسلمون على الإطلاق، بل أمرهم بالتواصل والتعاون على كل أمورهم.
ومن المعروف أن الإمام مالك كان وثيق الصلة بالإمام جعفر الصادق، وكان بينهما مودة نادرة المثال، يقول مالك عن الإمام جعفر: » كنت آتي جعفر بن محمد وكان كثير التبسم فإذا ذكر عنده النبي اخضر واصفر، وقد اختلفت إليه زماناً فما كنت أراه إلاّ على إحدى ثلاث خصال: إمّا مصلياً وإما صائماً وإما يقرأ القرآن.
وما رأيته قط يحدث عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) إلا على طهارة، ولا يتكلم فيما لا يعنيه، وكان من العباد الزهّاد الذين يخشون الله «([7]).
وأتساءل: هل من كانت هذه حالهم يصح أن يختلف أتباعهم فيهم إلى حد التكفير؟!.، وهل يصح أن يتباعد بعضهم عن البعض الآخر لأتفه الأسباب؟!
الإمام جعفر الصادق هو الذي يقول: » ولدني أبو بكر الصديق مرتين « الأولى عن طريق والدة الإمام جعفر الصادق أم فروة بنت القاسم بن محمد بن أبي بكر الصديق، والولاة الثانية: عن طريق جدة الإمام جعفر أسماء بنت عبد الرحمن بن أبي بكر الصديق([8]).
وقد جاء في كتاب »صفة الصفوة« عن عروة بن عبدالله قال: سألت أبا جعفر محمد ابن علي عن حلية السيوف، قال: لا بأس به، قد حلّى أبو بكر الصديق (رضي الله عنه) سيفه.
قال: قلت: وتقول الصديق ؟! فوثب وثبة واستقبل القبلة ثم قال: »نعم الصديق فمن لم يقل الصديق فلا صدّق الله له قولاً في الدنيا والآخرة «([9]).
وممّا يؤكد حب أسلافنا العظام لبعضهم أن الإمام علياً (عليه السلام) كان له من الأبناء عمر الأكبر وعمر الأصغر وأبو بكر وعثمان الأكبر، وقد زوج ابنته أم كلثوم من عمر بن الخطاب.
ومن أولاد الحسن (عليه السلام) أبو بكر وعمر وقد استشهدا مع عمها الحسين (عليه السلام) في واقعة كربلاء.

ومن أولاد الحسين: أبو بكر وعمر.
إن هذا الواقع يدل على أن علاقة الجميع كانت في أحسن أحوالها وأنهم لم يكونوا متباعدين لا حساً ولا معنى، ولو أردت أن أستعرض أحداث التاريخ وطبيعة العلاقة بين الإمام علي (عليه السلام) وأبنائه وبين أبي بكر وعمر وعثمان وأبنائهم لأوردت مئات الأمثال على متانة العلاقة وحب بعضهم لبعض.
ومرة أخرى... هل من المعقول أن يختلف المسلمون من بعدهم إلى حد المقاطعة والعداوة ؟!
إن الواجب الشرعي والعقلي أن يتكاتف الجميع بكل قوة كما تكاتف الأسلاف من قبل في سائر أحوالهم ليؤكدوا بحق أنهم أتباعهم وعلى سنتهم..
إن بعض الإساءات التي تصدر من هذا الفريق أو ذاك تترك آثاراً سلبية مدمرة، وقد تنسف كثيراً من جهود المخلصين الذين يعملون على قضايا التقريب وحصر الاختلاف في أضيق دائرة.
ومن أمثلة ذلك ما فعله "ياسر الحبيب" من الإساءة الشديدة لأم المؤمنين عائشة – ك -، وكيف كان تأثير ما فعله مدمراً على حسن العلاقة بين السنة والشيعة.
وقد سرني كما سر غيري الموقف الذي اتخذه سماحة آية الله العظمى السيد الخامنئي من ذلك القول القبيح، وقد فعل مثله مجموعة كبيرة من أفاضل علماء الشيعة مثل سماحة الشيخ قاسم نعيم نائب أمين عام حزب الله الذي قال: إن التعرض لزوجات الرسول -ص - يهدف إلى زيادة التوتر المذهبي وهو مرفوض بشدة، أمَّا الشيخ راضي الحبيب وهو من علماء الكويت فقال عن ياسر: "هذا الشخص دسيسة على الشيعة وما قاله عن أم المؤمنين لا يمت إلى التشيع بصلة والروايات التي أوردها مدسوسة على المذهب وساقطة " كما أن كثيراً من مثقفي الكويت استنكروا ذلك الفعل عبر بيانات أو تصريحات منشورة في الصحف.
ومعروف أن مجموعة من علماء السعودية فعلوا الشيء نفسه، ومنهم سماحة الشيخ حسن الصفار، ومجموعة من علماء ومثقفي الشيعة في المملكة العربية السعودية.
وبالمقابل لعلي أذكر أن أحد المحسوبين على علماء السعودية وهو الشيخ "محمد العريفي " عندما أساء إلى السيد السيستاني قام بالرد عليه عدد كبير من مثقفي السعودية وقد نشرت هذه الردود في معظم الصحف السعودية آنذاك.
ولعلي أذكر السادة الحضور أن المسارعة في إطفاء نيران الفتنة يقلل من آثارها على المجتمع المسلم بكافة طوائفه.
ولعله مما يطمئن الخاطر كثرة الحديث عن التقارب بين أتباع المذاهب الإسلامية، لأن هذا الحديث عندما ينتشر يسهل الوصول إلى النتائج التي نتطلع إليها، ومما قرأته عن هذا الموضوع المقال الذي كتبه الدكتور عبد العزيز التويجري المدير العام للمنظمة الإسلامية للتربية والثقافة والعلوم. والذي نشره في صحيفة الحياة (الأربعاء 13 يناير/ 2010م) حيث أكد فيه على أن التطرف الديني قضية مقلقة لكل المسلمين لأنها تشكل تهديداً قوياً لوحدتهم، ونبه إلى أن حل الخلافات يتطلب شجاعة من كلا الطرفين وذلك بطرح القضايا التي يجب بحثها من كلا الطرفين.
 أيها الإخوة علينا أن نتدبر قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ فَتَبَيَّنُواْ وَلاَ تَقُولُواْ لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلاَمَ لَسْتَ مُؤْمِنًا تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَعِندَ اللّهِ مَغَانِمُ كَثِيرَةٌ كَذَلِكَ كُنتُم مِّن قَبْلُ فَمَنَّ اللّهُ عَلَيْكُمْ فَتَبَيَّنُواْ إِنَّ اللّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا) (النساء: 94).
وكذلك قول رسوله الكريم: »من رمى مؤمناً بكفر فهو كقتله« وقوله: »إذا قال الرجل لأخيه: يا كافر، فقد باء بها أحدهما«.
والأحاديث في هذا المعنى كثيرة وذلك بسبب النتائج الخطيرة التي تترتب على تكفير المسلم مثل إباحة دمه وماله وعدم الصلاة عليه، وغير ذلك من الأمور الشرعية المترتبة على التكفير.
وقد نفى الإمام أبو حامد الغزالي الكفر عن كل طوائف المسلمين فقال: »هؤلاء أمرهم في محل الاجتهاد، والذي ينبغي الاحتراز عن التكفير ما وجد إليه سبيلا فإن استباحة الدماء والأموال من المصلين إلى القبلة المصرحين بالتوحيد خطأ. والخطأ في ترك ألف كافر في الحياة أهون من الخطأ في سفك دم مسلم.
وقول الإمام أبو حامد الغزالي يقترب كثيراً من قول الإمام الشيخ محمد حسين كاشف الغطاء الذي أوردته سابقاً.
ويقول بعض فقهاء الأحناف: إن في تكفير المسلم مخاطر ومفاسد كبيرة. وقالوا: إن المسألة المتعلقة بالكفر إذا كان لها تسع وتسعون احتمالاً للكفر واحتمال واحد لنفيه فالأولى للمفتي والقاضي أن يعملا باحتمال النفي([10]). وأنه لا يفتي بتكفير مسلم أمكن حمل كلامه على محمل حسن أو كان في تكفيره اختلاف ولو رواية ضعيفة([11]).
إن موقف عامة الصحابة والمسلمين بعدهم من الخوارج الذين استحلوا المحرمات، وقتلوا المسلمين، دليل واضح على موقفهم من التكفير، فهم لم يكفّروا الخوارج، حتى أن الإمام علياً الذي قاتله هؤلاء وكفّروه لم يحكم عليهم بالكفر ولم يعاملهم معاملة الكفار لأنه عرف أنهم متأوّلون فقاتلهم دفعاً لبغيهم«([12]) .
وفي عقائد الإمامية للشيخ محمد رضا المظفر نجد حديثاً جيداً عن أهمية الإخوة بين المسلمين جميعاً، وضرورة التسامح والتآخي بين جميع أصحاب المذاهب الإسلامية، وقد أورد الشيخ أقوالاً في غاية الأهمية للإمام جعفر الصادق عن الأخوة ومكانتها بين عموم المسلمين([13]).
وفي هذا السياق الذي أتحدث فيه عن أهمية التقارب بين المسلمين جميعاً أجد من اللازم أن أتحدث عن رسالة في غاية الأهمية واللطف أرسلها سماحة الإمام موسى الصدر إلى سماحة مفتي جمهورية لبنان الشيخ حسن خالد، وقد نشرت هذه الرسالة في جريدة المحرر اللبنانية في 9/10/69 وفي »منبر ومحراب« في 31/8/1981م. وقد جاء في هذه الرسالة:
سماحة الأخ الجليل الشيخ حسن خالد مفتي الجمهورية اللبنانية الموقر..
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.. تحية الإسلام الطيبة.. وبعد.
»في هذه الأيام العصيبة التي تلفّ الأمة بالقلق، وبين يدّي هذه الأخطار المحدِقة التي تجعل المنطقة كلها (حاضرها ومستقبلها) في مضرب الطوفان: تبدو لنا بوضوح أكثر فأكثر حاجة المسلمين الملحة إلى وحدة شاملة متلاحمة لجمع ما تفرّق من صفوفهم وتوحيد ما تبعثر من جهودهم، وذلك حتى تتبين لهم مواقع أقدامهم وتعود الثقة إلى أنفسهم وهم في طريقهم إلى المستقبل وأمام بناء تاريخهم وأداء مسؤولياتهم.
إنّ جمع الكلمة وتوحيد الطاقات وتنمية الكفاءات ليس موجبها كونها من أشرف الغايات الدينية ووصية نبينا العظيم فحسب، ولكنها أيضاً تتصل بوجودنا وكرامتنا وبمقوّمات وجود أجيالنا، إنها مسألة حياتية.
ووحدة الكلمة هذه لا ينبغي أن تظل شعاراً مرفوعاً أو كلمة مكتوبة، بل يجب أن تكون ومضة الفكر وخفقة القلب ودرب السلوك، إنها البُعد الأساسي للمستقبل.
ولا يكون ذلك إلا ببذل عناية فكرية خارقة وإيلائها اهتماماً وجدانياً خاصاً والسعي والسهر من أجل تكريسها، عندئذٍ تصبح الوحدة حقيقة قائمة ونموذجاً عليه يحتذى، ومثلاً به يقتدى«.
وقال في رسالته: »وهنا نحن نضع تجربتنا المتواضعة بين أيديكم، وكان قد سبق وعرضت في أول لقاء بيننا في دار الإفتاء الإسلامية منذ أربعة أشهر أن توحيد كلمة المسلمين وعقولهم وقلوبهم، وبتعبير أدق: إنّ تعميق وحدة المسلمين وجعلها على ركائز فكرية وعاطفية متينة يتحقق بطريقين:
1-توحيد الفقه:
فالصرح الإسلامي الواحد في الأساس، والأمة الواحدة في العقيدة والكتاب والمبدأ والمنتهى: بحاجة إلى وحدة في التفاصيل أيضاً.
وتوحيد هذه التفاصيل المختلفة أو تقريبها أمر لم يفت رؤيا سلفنا الصالح من علمائنا الأبرار قدس الله أسرارهم.
فقد رأينا الشيخ أبو جعفر محمد بن الحسن الطوسي وضع كتابه »الخلاف« منذ ما يزيد على ألف سنة في الفقه المقارن، وتبعه العلامة الحلي حسن بن يوسف بن المطهر في كتاب »التذكرة«، والفقه المقارن هو النواة الصالحة لاستنبات الوحدة الفقهية ولاكتمال وحدة الشريعة.
وفي أيامنا ومنذ ثلاثين عاماً: أسّست نخبة فاضلة ومجاهدة من كبار علماء المسلمين دار التقريب بين المذاهب الإسلامية في القاهرة، ومن بينهم المغفور له الأستاذ الكبير شيخ الأزهر الشيخ عبد المجيد سليم، والمغفور له الأستاذ المجدد الشيخ محمود شلتوت، والمغفور له عميد كلية الشريعة بالأزهر الشريف محمد المدني، وكبار علماء المسلمين في لبنان وإيران والعراق: مثل الإمام السيد عبد الحسين شرف الدين، والمغفور له المرجع الأعلى للطائفة الإسلامية الشيعية في العالم السيد حسين البروجردي، والأستاذ العلامة الجليل الشيخ محمد تقي القمي (سكرتير دار التقريب الدائم).
وقد تبنَّت مؤسسة التقريب هذه (عدا خدماتها الواسعة) مشروعاً وضع خطوطه الأولى وبدأ بتنفيذه والدنا المغفور له السيد صدر الدين الصدر في كتاب »لواء الحمد«، وهو محاولة لجمع كل ما رواه المسلمون في مختلف فرقهم عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في سائر حقول العقيدة والشريعة، ليكون مرجعاً للمسلمين بعد القرآن الكريم، وبتعبير أدق: سعى لتوحيد السنَّة النبوية المطهرة.
وقد وضع خلال هذه الفترة بعض هؤلاء الأعلام وغيرهم أبحاثاً وكتباً حول الفقه والمذاهب الإسلامية.
ثم جاء دور الموسوعات الفقهية، وبدأت جامعة دمشق بوضع الموسوعة الفقهية، وبدأت جامعة الأزهر بتأليف »موسوعة عبد الناصر للفقه الإسلامي«، والآن تجري في جامعة الكويت نشاطات كبيرة حول إكمال »الموسوعة الفقهية«.
وألف الأستاذ الكبير عميد كلية الفقه في النجف الأشرف: السيد محمد تقي الحكيم كتاباً جليلاً حول المبادئ العامة للفقه المقارن.
إنَّ هذه المساعي البنَّاءة بدأت تعطي ثمارها في فتاوى فقهاء المسلمين، وتؤكد أننا أصبحنا على مقربة من وحدة الفقه بإذن الله.
2- طريق المساعي المشتركة:
وهذا الطريق يبدو في الظروف الاستثنائية مثل ظروفنا في لبنان: أكثر ملائمة وأسرع إنتاجاً، ويتمثل بحشد جهود مشتركة لتحقيق أهداف متنوعة، ويُعد بحد ذاته كسباً وحدوياً، ويؤدي السعي المشترك إلى تلاقي العاملين في ميدان واحد كرفاق سلاح، وبالتالي تشيع الثقة وترتاح النفوس حيث تتجلى وحدة العقيدة والمشاعر.
وعلى سبيل المثال لا الحصر: نذكر بعض هذه الأهداف..
أ/ الأهداف الشرعية المحضة: مثل توحيد الأعياد والشعائر الدينية وصيغ بعض العبادات كالأذان والجماعة وغيرها. فبالإمكان درس اقتراح يرمي إلى الاعتماد على الطرق العلمية الحديثة لاكتشاف وجود الهلال في الأفق في زاوية الرؤية توصلاً إلى معرفة العيد بصورة دقيقة لكي يمكن للمسلمين في العالم اعتباره في يوم واحد، ولكي يوفر لهم المتاعب التي تحصل لهم ولكل من يريد مشاركتهم بزيارة أو عطلة أو خلافه..
وبالإمكان درس صيغة مقبولة للأذان لدى الجميع.
ب/ الأهداف الاجتماعية: وتبدو صورة هذه الجهود المشتركة في المساعي الرامية إلى مكافحة الأمية والتشرد ورعاية الأيتام ورفع مستوى حياة الكادحين.
ومن السهل تأسيس مؤسسات لهذه الغايات السامية، ويُدعم الموجود برعاية أوسع وتأييد أمنع.
ج/ الأهداف الوطنية: وهل هناك ريب في وحدة مشاعرنا الوطنية ؟ فهناك وجوب المشاركة الفعلية لتحرير فلسطين، وواجب حماية لبنان من مطامع العدو الغادر، وواجب دعم المقاومة الفلسطينية المقدسة، وضرورة الاستعداد التام والتعاون الكامل مع الدول العربية الشقيقة لمواجهة العدوان المحتمل في كل لحظة، وموضوع تحصين الجنوب بصورة خاصة وكل لبنان بصورة عامة ليصبح قلعة تنكسر عليها قرون إسرائيل وتتبدد مطامع الاستعمار.
كل هذه أهداف ليس عليها أدنى اختلاف، ولكنها كلها بحاجة ملحة إلى وضع دراسات دقيقة لتنفيذها ولتحديد المسؤوليات فيها، و(بحاجة ملحة) إلى تنسيق جهود جميع أبناء هذا البلد فيما بينهم ومع المسؤولين ومع الدول العربية، و(بحاجة ملحة) لتجنيد طاقات المسلمين في العالم وأصحاب الضمائر الحية والنوايا الحسنة في كل مكان.
ولأجل المشاركة الحقيقية في هذه الواجبات (أي: بذل جميع ما في الوسع) علينا أن ندرس هذه الأمور وبرامجها وأساليبها بصورة مشتركة تسهّل تنسيق النشاطات ومضاعفتها.
هذه نماذج نعرضها على سماحتكم على أمل دراسة الموضوع من كل جوانبه وتكليف ذوي الاختصاص لتكوين لجان مشتركة والشروع في العمل فوراً.
وقال في آخر رسالته:
وقبل أن أوقع هذه الرسالة: نلفت نظر سماحتكم إلى أنّ شهر رمضان المبارك أصبح قريباً، ورمضان المبارك فرصة فريدة كما تعلمون لخلق جو روحي وبطولي يعيش فيه المسلم ذكرياته الخالدة لكي تنعكس تلك المواقف العظيمة على حياته في هذه الأيام.
ولذلك نرجو الإسراع بتكليف المسؤولين عن هذا الشأن بدار الإفتاء الإسلامية للاجتماع بأعضاء لجنة النشر والإعلام في المجلس الإسلامي الشيعي الأعلى بحضور وتعاون بعض الناشطين من المؤمنين الاختصاصيين في دوائر الإعلام الرسمية لوضع برامج متكاملة تساعد على خلق الأجواء المناسبة لهذا الشهر العظيم، وتذكّي في نفوس المسلمين جذوة الخير والحق والبطولات.
دمتم صاحب السماحة للإسلام وللخير كله ولإخوانكم أعضاء المجلس الإسلامي الشيعي الأعلى، ولأخيكم المخلص موسى الصدر.
وقد أكدت لي هذه الرسالة أن السيد موسى الصدر كان واسع الأفق شديد الإخلاص لأمته متقدماً على عصره بكثير، لقد دعا إلى توحيد الأعياد والمشاعر الدينية وصيغ بعض العبارات مثل الآذان والجماعة وغيرها.
ولابد في نهاية المطاف أن أشير إلى أهم النقاط التي يجب أن نتخذها جميعاً لكي نقلل نقاط الاختلاف، ونجعلها في حجمها الطبيعي، لكي نجعل مسيرتنا تمضي في طريقها الصحيح الذي أراده الله لها.
أقول: إن هناك فضائيات تبث الكراهية بين الطائفتين، وهذه الفضائيات يمكن تقليلها حينما يقتنع الذين يمولونها أنها لا تخدم الإسلام بل أعداءه، بالإضافة إلى قيام العلماء والمثقفين بواجباتهم في إقناع الناس بالإعراض عنها، وعندها سيكتب عليها الموت البطيء.
وهناك كتب تحث على الكراهية، وتكفر المسلمين، وتثير الفتن، هذا النوع من الكتب يؤثر على وحدة المسلمين ويضعف قدراتهم، ومن أجل ذلك يجب التنبيه على خطرها..
ومثل الكتب المواقع الإلكترونية التي تقوم بالدور نفسه في تكفير المسلمين ورموزهم، وبث الكراهية بينهم، فهذه يجب الامتناع عن دعمها ومحاصرتها بكل الوسائل الممكنة.
في الجانب الآخر أعتقد أنه من المفترض على العقلاء أن يكثروا من الحديث عن الأشياء المتفق عليها والتقليل من الحديث عن المختلف فيه، لأن ذلك أدعى إلى التقارب والوحدة وحب البعض للبعض الآخر.
وأعتقد أن من أهم الوسائل العملية للتقريب بين السنة والشيعة كثرة التزاور بينهم، ومناقشة كل الأمور التي تهمهم بصورة واضحة وصريحة.
ومن تجاربي العملية بهذا الخصوص المحاولات التي بذلتها -ولا زلت- مع طلابي وهم من أتباع المذهبين أن يحرصوا على اللقاءات خارج أسوار الجامعة، ليتباحثوا في كل القضايا التي يعتقد بعضهم أنها سبب في تباعدهم. وقد كانت النتائج مدهشة ومفرحة ؛ قال بعضهم: كنت أعتقد أن السنة يكرهون آل البيت ثم تبين لي أنهم يترضون عنهم في كل صلاة يصلونها، وأنهم يحملون لهم من المحبة والتقدير الشيء الكثير.
وقال آخرون: كنت لا أشك أن الشيعة يكفرون السنة، وأن لهم قرآناً يختلف عما نعرفه، ثم تبين لي أنني كنت واهماً، وأن ما كنت أسمعه إشاعات واهية لا قيمة لها.
وسمعت أشياء كثيرة من هذا الطرف أو ذاك، وبدأ الجليد يذوب، وأصبح التقارب يزداد شيئاً فشيئاً، وبدأ بعضهم يعرف الآخر على حقيقته بصورة أفضل.
تحدثت معهم عن دور الإعلام في تحقيق التقارب، وما يجب عليهم فعله في هذا الاتجاه، وكان التجاوب مفرحاً.
كنت أعرف أن دور الشباب كبير في تحقيق التقارب، ولعلّ كل الإخوة يدركون هذه الحقيقة فيعملون على إشراك الشباب في التقريب بين أتباع المذهبين.
إنني أدعو المسلمين جميعاً أن يتدبروا حال أمتهم في مشارق الأرض ومغاربها ليروا كيف تفرق أبناؤها. وكيف عادى بعضهم بعضاً دون أدنى مبرر.
انظروا ماذا حصل في السودان، وماذا قد يحدث فيها في المستقبل، وانظروا إلى الاحتراب الهائل بين الإخوة في العراق وكيف أصبح حالهم.. وتابعوا دعوات الإنفصال في هذا البلد أو ذاك، وابحثوا عن الأسباب التي أدت إلى هذا الواقع المرير..
أيها الإخوة:
إن أعداءنا يعملون بكل قوة على بث الفرقة بين أبناء المجتمعات الإسلامية لأنهم يعرفون أن الطريق الذي يجعلهم يتحكمون في مقدرات تلك الشعوب هو تفرقها وضعفها.
وبسبب ذلك الضعف الذي نراه حالياً، وبسبب تمكن أعدائنا من بث الكراهية بيننا نسي بعضنا من هو عدوه الأول وبدأت بوصلته تتجه إلى المكان الخطأ. وهذا يجعل من الأهمية القصوى محاصرة هذه الدعوات المضللة الهدامة.
لقد بات من المهم أن يتكاتف المسلمون جميعاً -سنة وشيعة- لكي يوحدوا جهودهم ومواقفهم في سبيل إعلاء شأن أمتهم وبلادهم. وإن في فقهنا وتاريخنا ومواقف علمائنا ما يجعلنا نقترب من بعضنا كثيراً وندرك زيف كل الأقوال التي تفرق بيننا وتبني سدوداً وهمية بين كل طائفة وأخرى.
والعلماء -وهم ورثة الأنبياء- عليهم المسئولية العظمى، وإذا تقاعسوا عن أدائها حل الطوفان بالجميع، وتمكن أعداؤنا منا، ونلنا غضب الله وسخطه في الآخرة . فهل ندرك هذه الحقيقة.. آمل ذلك.

 

المراجع
---------------------
1- البداية والنهاية، ابن كثير.
2- حلية الأولياء، الحافظ أبي نعيم.
3- كشف الغمة في معرفة الأئمة، علي بن عيسى الأربيلي، طبع دار الأضواء، بيروت.
4- صفة الصفوة، ابن الجوزي.
5- البحر الرائق، ابن نجيم، دار المعرفة – بيروت.
6- شرح الفقه الأكبر، ملا علي القاري، دار الحلبي، القاهرة.
7- المغني، ابن قدامة، بيروت، دار الكتاب العربي.
8- فتاوى ابن تيمية، طبع الرياض، دار الإفتاء.
9- المرتضى، أبو الحسن الندوي، دار القلم، بيروت.
10-  موقع الوحدة الإسلامية، الشيخ علي الخفيف. مقال منشور بتاريخ 10/2/2003م.
11-  التعددية والحرية في الإسلام. حسن الصفار، بيروت.
12-  علي إمام المتقين، عبدالرحمن الشرقاوي، القاهرة.
الإمام الصادق، محمد أبو زهرة، دار الندوة الجديدة، بيروت.


الهوامش
-------------------------------------
([1]) المرتضى، أبو الحسن الندوي، دار القلم، بيروت، ص 177.
([2])البداية والنهاية، ابن كثير، 7/223.
([3])حلية الأولياء، الحافظ أبي نعيم، 1/35.
([4])الشيخ على الخفيف / مقال منشور في موقع الوحدة الإسلامية، 10/2/2003 م.
([5])ص 169.
([6])علي إمام المتقين، عبدالرحمن الشرقاوي، 2/394.
([7])الإمام الصادق، محمد أبو زهرة، ص 77، دار الندوة الجديدة، بيروت.
([8])تم توثيق هذه الرواية في كثير من الكتب منها: كتاب كشف الغمة للأربيلي، طبع دار الأضواء – بيروت.
([9])صفة الصفوة 2/55.
([10])ملا علي القاري: شرح الفقه الأكبر، ط الجلبي، القاهرة، ص 162.
([11])ابن نجيم، البحر الرائق ط دار المعرفة – بيروت، 5/134.
([12])المغني. ابن قدامة ط5 10/85، بيروت، دار الكتاب العربي.
([13])انظر ص 144 وما بعدها.