الوسطية في الإسلام

الوسطية في الإسلام

الوسطية في الإسلام

 

الدكتور محمد عادل عزيزة

 

الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام  على سيدنا محمد وعلى آله الاطهار واصحابه الاخيار اجمعين اما بعد:
فان الإسلام دين الحق والاعتدال والسماحة والسلام، والسمو والرقيِّ، وكل ما صادم هذه المبادئ، واصطبغ بأضدادها، عُدَّ خارجاً  عن الإسلام·
وإن الميزة الاساسية  التي ميّز الله تعالى بها هذه الامة عن باقي الامم هي ميزة «الوسطية والاعتدال» فان تخلت عنها الأمة تخلت عن أبرز معالمها، وعن اجمل صورها، وقد مدح الله تعالى هذه الأمة بقوله: «وكذلك  جعلناكم امة وسطا لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيدا».  فالدين الإسلامي دين الوسطية والاعتدال فلا اسراف ولا تقتير، ولا بخل و لا تبذير، ولا تطرف  ولا غلو، ولا افراط ولا تفريط.
وسأتناول الوسطية من خلال المحاور التالية:
المحور الاول: جمال الوسطية في الإسلام:
لقد غدا الإسلام بوسطيته دين الحق الذي لا تفريط فيه، ودين العقيدة والايمان الذي يتطابق مع العقل والمنطق والواقع، ودين النظام لامثل الجامع بين مطالب النفس والمادة  والروح، وبين إصلاح الدنيا والآخرة، وتحقيق العسادة فيهما على السواء·
والإسلام هو دين الوسطية من بين جميع الفلسفات وانواع المذاهب المادية والفكرية الاخرى، فهو ميزانها السديد، وهو الوحيد الذي يحقق التوازن بين مصالح الفرد ومصالح الجماعة، من غير ان يطغى اتجاه على آخر وهو منهج الحق والعدل والورحمة والتسامح المنتد غير الشاذ، فالوسطية سمة هذه الأمة، وبها تعرف دون الامم·
ولا تنتقل الامة الإسلامية المعاصرة من المراهقة إلى الرشد، الا بتبني هذا الهدي القاصد وهذا المنهج الوسطي، الذي  لا طغيان فيه ولا اخسار·
المحور الثاني الوسطية تعريفها ودليلها·
الوسطية هي: الاخذ بوسط بين طرفين متضادين وكلمة «متطرف» هي الاخذ باطراف الامور لا بأوساطها، فالوسطية تأتي بمعنى: التوسط بين شيئين، وبمعنى العدل والخيار، والاجود، والافضل، وما بين الجيد والرديء، والمعتدل، وبمعنى الحسب والشرف، والوسطية هي منهج فكري وسلوك اخلاقي كما جاء في القرآن الكريم: «وابتغ فيما آتاك الله الدار الاخرة ولا تنس نصيبك من الدنيا» وهي حق بين باطلين واعتدال بين متطرفين وعدل بين ظلمين·
والوسطية ضد التطرف  والغلو، فديننا الإسلامي دين يسر ورحمة ولو لم يكن كذلك لما انتشر في اصقاع العالم بأسره· وأمتنا هي الامة الوسط بكل معاني الوسط سواء من الوساطة بمعنى الحسن والفضل، أو من الوسط بمعنى الاعتدال والقصد، أو من الوسط بمعناه المادي الحسي، والمسلمون هم في جملتهم العدول الخيار اهل التوسط والاعتدال في كل امور الدين، عقدية وعلما وعملا واخلاقا ومواقف· وسط بين الغلو والتقصير وبين التفريط والافراط في سائر الامور·
وقد جاءت الآيات القرآنية الكريمة والاحاديث النبوية الشريفة تشيد بالوسطية والاعتدال وتدعو إلى التيسير ورفع الحرج، قال تعالى: «وكذلك  جعلناكم امة وسطا لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيدا·» وقال تعالى: (يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر) واخرج  البزار ان رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «ان المنبت لا ظهر ابقى ولا ارضا قطع» والمنبت الذي عطب مركوبه من شدة السير·
وحادثة الرجال الثلاثة الذين جاؤوا إلى الرسول صلى الله عليه وسلم كما في البخاري ومسلم وكان احدهم يصوم الدهر ولا يفطر، واحدهم يقوم الليل ولا ينام، واحدهم لا يتزوج النساء، فنهاهم الرسول صلى الله عليه وسلم عن هذا وقال «اما أنا فإنني اصوبم وافطر، واقوم وارقد، واتزوج النساء، فمن رغب عن سنتي فليس مني»· وجاء في البخاري أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)   قال (خير الامور اوسطها، ان هذا الدين يسر، ولن يشاد الدين احد الا غلبه فسددوا وقاربوا وابشروا»· ويؤكده حديث آخر: «يا ايها الناس، خذوا  من الاعمال ما تطيقون، فان الله لا يمل حتى تملوا، وان احب الاعمال إلى الله مادام وان قل» وفي حديث البخاري ومسلم ان النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)  قال: «يسروا ولا تعسروا وبشروا ولا تنفرو» ونهى (صلى الله عليه وآله وسلم)   عن صوم الوصال  ووعن قيام الليل كله وعن الترهب وقال كما في حديث البخاري ومسلم: «والله، اني لاخشاكم لله، واتقاكم له، ولكني اصوم وافطر واصلي، وارقد واتزوج النساء، فمن رغب عن سنتي، فليس مني»·
المحور الثالث: الوسطية الإسلامية هي التي بوأت الامة الإسلامية حمل القوامة الشرعية في الدنيا والاخرة
الأمة الإسلامية هي الامة الوسط صاحبة الريادة والقوامة الشرعية التي تشهد على الناس جميعا فتقيم بينهم العدل والقسط، وتضع لهم الموازين والقيم؛ وتبدي فيهم رأيها فيكون هو الرأي المعتمد؛  وتزن قيمهم وتصوراتهم وتقاليدهم وشعاراتهم فتفصل في أمرها، وتقول: هذا حق منها وهذا باطل، وهي شهيدة على الناس يوم القيامة، وبينما هي تشهد على الناس هكذا، فان الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم)   هو الذي يشهد عليها فيقرر لها موازينها وقيمها؛ ويحكم على اعمالها وتقاليدها؛ ويزن ما يصدر عنها، ويقول فيها الكلمة الاخيرة· قال تعالى: «وكذلك جعلناكم امة وسطا لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيدا»·· وبهذا تتحدد حقيقة هذه الامة ووظيفتها·· لتعرفها، ولتشعر بضخامتها· ولتقدر دورها حق قدره، وتستعد له استعدادا لائقا·
وجعلها الله (امة وسطا) ·· في الزمان·· تنتهي عهد طفولة البشرية من قبلها؛ وتحرس عهد الرشد العقلي من بعدها· وتقف في الوسط تنفض عن البشرية ما علق بها من أوهام وخرافات من عهد طفولتها؛ وتصدها عن الفتنة بالعقل والهوى؛  وتزاوج بين تراثها الروحي من عهود الرسالات، ورصيدها العقلي المستمر في النماء؛ وتسير بها على الصراط السوي بين هذا وذاك·
وأمة تلك  وظيفتها وذلك دورها، خليقة بان تحتمل التبعة وتبذل التضحية، فللقيادة تكاليفها، وللقوامة تبعاتها، ولابد ان تقتن قبل  ذلك وتبتلى، ليتأكد خلوصها لله وتجردها، واستعدادها للطاعة المطلقة للقيادة الراشدة·
المحور الرابع: خطر البعد عن الوسطية:
ان الاعراض عن هذه الوسطية هو الهلاك بعينه، لانه الضياع في الدين والدنيا معا، وهو الافراط والتفريط، وقد صرح الحديث النبوي بأن الغلو في الدين كان سببا لهلاك كثير من الامم السابقة فقد قال (صلى الله عليه وآله وسلم): «اياكم والغلو فانما اهلك من كان قبلكم الغلو في الدين»· اخرجه البيقهي وقال (صلى الله عليه وآله وسلم): «هلك المتنطعون» قالها ثلاثاً· اخرجه احمد ومسلم وابو داود وهو لا يكرر الكلمة إلا لعظم خطر مضمونها· والمتنطعون: هم المتشددون والمتعمقون المبالغون في التزامهم بالدين بما يخرجهم عن الحد الوسط·
كما أن آفة الانحراف عن الوسطية او الشذوذ عنها يقود إلى التطرف والجهل والاستبداد، والتقليد الاعمى، والتصرفات المرتجلة  دون رؤية وتشاور وتقدير هادئ لعواقب الامور، ولذلك تعاني بعض المجتمعات الإسلامية من تفشي الغلو والتطرف في الدين بين صفوف المراهقين فكرياً، وذلك بمن خلال تطبيق ممارسات خاطئة بحجة التمسك بالدين، وفي الواقع هم أبعد ما يكونون عن الدين الإسلامي الحنيف دين الوسطية والاعتدال·
كما ان المبتعدين عن وسطية الإسلام يسلكون في حياتهم مسالك وعرة، منهجهم القهر والاكرا، وسفك الدماء والتخرب ومصادمة المشاعر، ونشر الذعر والخوف، واستباحة الدماء والاعراض والاموال، لاتصافهم بصفتين شاذتين وخطيرتين هما:
1 ـ الجهل باحكام الشريعة الإسلامية المقررة في القرآن والسنة، ولاسيما الاحكام العامة التي تمس الاخرين·
2 ـ التورط بتكفير المخالفين لهم لادنى تهمة او شبهة، واستباحة دمائهم، وهذا ظلم عظيم·
ولذلك لابد من توعية الامة بمخاطر التطرف والتشدد، والتاكيد على  مبدأ الإسلام الا وهو الوسطية والاعتدال وان الإسلام يقبل الاخر، وحوار الاديان مستمر عبر التاريخ مع جميع اصحاب الديانات الاخرى للتاكيد على نقاط الالتقاء وتعزيزها ونبذ الفرقة والتعصب·
ولابد من التنويه إلى ان المسلمين دعاة الحق ليسوا ارهابيين كما يصفهم بذلك اعداؤهم، وانما يدعون إلى الدين الوسط والى شريعة الاله السمحة السلمية والحضارية والاصلاحية  للعقائد والمعاملات والعلاقات الاجتماعية والاخقلا، فهم دعاة رحمة  وهداية وعلم ونور، وذلك لاختلاف الاتجاهين في المنهج والغاية والاسلوب·
وليس من الارهاب  ايضا المقاومة  المشروعة او حق الدفاع والجهاد  المشروع بضوابط مقررة في الإسلام، فالارهاب عمل غير مشروع في دوافعه ومناهجه واساليبه وغاياته·
واما المقاومة: فهي حق مشروع للدفاع عن الوجود والنفس والوطن والعرض والمال وسائر الحقوق الثابتة المقررة·
ولذلك نجد عندما تقهقرت روح الوسطية السمحة الميسرة في المجتمع المسلم، ظهر فكر العنات والمحنة· ولابد للأمة من التغلب على فكر المحنة، أو فكر الازمة لتنتقل إلى فكر العافية، ومن فكر (مدرسة الظواهر) إلى فكر (مدرسة المقاصد) ومن فكر الجنوح إلى الغلو والتسيب، الى: الفكر الوسطي المعتدل، المعبر عن وسطية الامة المسلمة، فالإسلام لا يقر التطرف والمغالاة والارهاب، ولاتعصب بانواعه المريضة المختلفة سواء كان تعصباً نفسياً او مذهبيا او عنصرياً أو قبلياً او قوميا، أو دينياً، أو سياسياً أو اقتصادياً، أو ثقافياً، ويلتزم مبدأ  تكريم الانسان أيا كانت جنسيته، والمحافظة على حقوقه العديدة، ويحافظ على معطيات المدنية والحضارة، فهو سلام وامان واستقرار وسعادة للمجتمع الانساني·
المحور الخامس: ضوابط الوسطية:
للوسطية ضوابط تقوم عليها، وجملة من الدعائم الفكرية تبرز ملامحها وتحدد معالمها ومنطلقاتها واهدافها ومن اهمها:
 ــ خامسا ـ  سادساـ الجهاد والإعداد للمعتدين الغزاة والمسالمة لمن جنحوا للسلم·
سابعاـ المحرو السادس: اهداف الوسطية:
المحور السابع: مجالات الوسطية:
الوسطية في الإسلام لا تنحصر في العبادات والطاعات الظاهرة فحسب، بل تتعدى اخص خصائص الانسان الداخلية بعلاقته مع الناس، وعلاقته مع مجتمعه، وعلاقته اهله واقاربه وزوجته وأبنائه، و(أن لكل حق، فأعط كل ذي حق حقه) حتى في اتخاذ القرار أيا كان، فانه يحتاج إلى وسطية واعتدال لئلا يكون بعده ندم وانتحاب، لذا علينا ان نعيد فهم الإسلام الحقيقي نائين به عن كل ما يخدش رونقه وروعته وصفاءه، وهذه هي اهم المجالات التي  تتبضع فيها الوسطية وفيها تتجذر·
أولا: الوسطية في العقيدة الموافقة للفطرة: والاهتمام ببيان اثر العقيدة على النفوس، واعتماد طريقتي المعرفة النقلية والعقلية في العقيدة لتقوية الصلة بالله سبحانه وتعالى·
ثانيا: الوسطية في الشعائر الدافعة لعمارة الكون: فالتكاليف ليست كثيرة ولا شاقة، كما أنها لا تتعارض مع  متطلبات الحياة من سعي لرزق وكدح لتأمين معاش·
ثالثاً: وسطية التجديد والاجتهاد: من خلال الارتباط بالاصل والاتصال بالعصر·
رابعاً: الوسطية في الفتوى: بالمقارنة بين الكليّ والجزئيّ، والموازنة بينا لمقاصد والفروع، والربط بين النصوص ومعتبرات المصالح في الفتاوى والآراء؛  فلا شطط ولا وكس· وقد وضعت ركائز اربعة تقوم عليها وسطية التفوى، وهي: قاعدة تغير الفتوى بتغير الزمان والمكان، وقاعدة العرف، وقاعدة النظر في المآلات، وقاعدة تحقيق المناطق في الاشخاص والانواع·
خامساً: وسطيةلا التعامل مع الآخر: فيجعل الحوار اساسا للتعامل مع الآخر، واعطاؤه  الحرية في ممارسة شعائره، والا يكون الخلاف دافعا للعداء او الاعتداء، بل العيش المشترك هو الجامع للتعاون، وأن المواطنة تقرب بين المختلفين، وتجعلهم يسعون للاشتراك في تحقيق المصالح المرجوة للجميع·
سادسا: وسطية الاحكام: وذلك من خلال تعظيم للاصول وتيسير في الفروع؛ دفعا للحرج، ورفعا للاغلال والآصار، وهو منهج نبوي قائم على مبدأ: ما خير (صلى الله عليه وآله وسلم)  بين امرين الا اختار ايسرهما، ما لم يكن اثما·
سابعاً: وسطية التفاعل الحضاري: من خلال الفاعلية الايجابية دون تقوقع او استلاب، والاعتزاز بلا استعلاء، والتسامح بلا هوان، فالمسلمون أمة قائمة برأسها تتمتع بخصائصها الذاتية المتميزة، فهم كما وصفهم رسولهم الكريم: «المؤمنون تتكافأ دماؤهم، ويسعى بذمتهم أدناهم، وهم يد على من سواهم»·
وفي الختام:
ان الوسطية ليست شيئاً هلامياً غير واضح المعالم، ولا هي مجرد ثقافة توضع لها الاطر، أو تقتصر على كونها غذاء عقل واشباع نفس فحسب، بل هي منهج تفكير وحياة، وكما هي مهمة للافراد والجماعات، فهي ايضا مهمة للحكومات، كما تمثل الوسطية سمة حضارية ترشد المسلمين إلى الاكمل والافضل في ميادين الحياة المختلفة؛ في الدعوة والحركة، والانتاج، والسياسة، والاقتصاد، وغيرها· والحمد لله رب العالمين·