الدراسات المقارنة ودورها في التقريب بين المذاهب الإسلامية

الدراسات المقارنة ودورها في التقريب بين المذاهب الإسلامية

الدراسات المقارنة
ودورها في التقريب بين المذاهب الإسلامية

 

الأستاذ محمد تهامي ذكير
باحث إسلامي وإعلامي

 

((العلم بالخلاف ومواقعه طريق الفلاح))
المنهج المقارن: لمحة تاريخية:
المنهج المقارن، منهج قديم قدم الفكر الإنساني، وقد استعمل كأداة معرفية يتم من خلالها تحديد أو إبراز أوجه الإختلاف أو الإئتلاف والتشابه بين موضوعين أو ظاهرتين أو شيئين متماثلين، وهذا يعني استحالة عقد مقارنة بين شيئين متناقضين تماما، لأننا سنكون أمام ما اصطلح على تسميته بالمقابلة وليس المقارنة ([1]).
وقد استخدم هذا المنهج في الدراسات السياسية والاجتماعية والقانونية، وكان أول من استخدمه – حسب بعض الدراسات- الفيلسوف اليوناني أرسطو الذي قام بتطبيقه في أبحاثه السياسية (كتابه: السياسية)، عندما تعرض لدراسة ومناقشة حوالي (158) دستورا ونظاما سياسيا في اليونان القديمة.
أما في الأزمنة الحديثة والمعاصرة ـ فقد اشتهرت العلوم الإنسانية باستعمالها لهذا المنهج، وخصوصا الدراسات الاجتماعية، فعلماء الاجتماع – مثل دوركايم وغيره- اعتبروا المنهج المقارن بمثابة التجربة في الدراسات العلمية، لأنه يستطيع أن يحدد بدقة علمية وموضوعية، أوجه الشبه والإختلاف وحجم الفوارق بين النظم الاجتماعية، كما باستطاعته اكتشاف المحاسن والعيوب والسلبيات والإيجابيات في الظواهر الاجتماعية.
أما علاقة القانون بالمنهج المقارن، فقد عرف القانون تطورا مهما خلال القرن (19) بتأسيس جمعية التشريع المقارن بباريس سنة 1869م، للإهتمام بدراسة القانون المقارن، عن طريق مقارنة الأنظمة القانونية لبلدان مختلفة، لأجل معرفة أوجه الشبه وأوجه الإختلاف بين هاته القوانين، والعمل على تفسير مختلف فروع القانون..

المنهج المقارن في التراث الفقهي الإسلامي:
إكتشف المسلمون المنهج المقارن مبكرا، واستعملوه في أكثر من حقل معرفي: في الفقه والكلام والفلسفة..إلخ. وحسب عدد من الباحثين المعاصرين، فإن المفكرين المسلمين الذين كتبوا في الفقه المقارن أو(علم الخلاف أو الخلافيات) كما يسميه القدماء، لم يتعرفوا على هذا المنهج عن طريق تراث الحضارات السابقة، وإنما جاء استجابة لتطور فكريٍ حدث على أرض الواقع، وثمرة لنضج البيئة الفكرية الإسلامية. حيث نشطت حركة التأليف والكتابة والتأسيس للعلوم الإسلامية، وخصوصا علوم الفقه والتفسير والحديث والكلام والفلسفة..
لقد اختلف صحابة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بعده، في الإفتاء والرأي، واختلفت الروايات والأحاديث المنقولة عنهم، كما اختلفت تفسيراتهم للقرآن وتطبيقاتهم لبعض الأحكام، فنقل التابعون هذه الأقوال والأفعال والمواقف والآراء المتنوعة والمختلفة عنهم وحفظوها..
وبعد انطلاق حركة التأسيس والإجتهاد مع الأئمة الأوائل المؤسسين للمذاهب الفقهية والكلامية، وما تبع ذلك من تصنيف وتأليف وتقييد للعلم، أصبح بين يدي العلماء والفقهاء وطلبة العلم الديني مادة مهمة، من الآراء المتعددة والإجتهادات المتنوعة، مشفوعة بأدلتها وأصول استنباطها وتفريعاتها..
ومع تأسيس المذاهب والمدارس الفقهية واشتعال نار المنافسة والخصومة والمناظرات بين المقلدين لهذه المذاهب من طلبة وعلماء، كان لا بد من الإنخراط في الدفاع عن الإختيارات المذهبية واجتهادات الأئمة، ومواجهة الآراء المخالفة، وبيان ضعف أدلتها، فكان أن ظهر ما أطلق عليه المسلمون (علم الخلاف) أو (علم الخلافيات)، أي الفقه المقارن بالاصطلاح الحديث والمعاصر..
وقد نشطت حركة التأليف في هذا العلم لبيان أسباب اختلاف الفقهاء والمجتهدين وأدلة كل مجتهد حسب مبانيه الأصولية والإجتهادية..

علم الخلاف وأهدافه:
عرف الأستاذ حاجي خليفة علم الخلاف بانه: ((علم يعرف به كيفية إيراد الحجج الشرعية، ودفع الشبهة وقواعد الأدلة الخلافية بإيراد البراهين القطعية)) ([2]).
 كما عرف بأنه ((علم بالآراء المختلفة في حكم المسألة الشرعية ودليل كل رأي فيه وبيان الحق منها بالبرهان)).
أما ابن خلدون فيرى أان الغاية من علم الخلاف هي ((بيان مآخذ الأئمة ومثارات اختلافهم ومواقع اجتهادهم)).
من خلال هذه التعاريف يتبين لنا موضوع هذا العلم والهدف من التأليف فيه، وثمرة هذا العلم وما يترتب عن هذا العرض للآراء الإجتهادية من نتائج..
فموضوعه البحث في المسائل و الأحكام الشرعية(الفقهية) والآراء المتعددة للمجتهدين، فيها، ثم بيان أدلة كل مجتهد من: قرآن ٍ أو سنة أو إجماع ٍ أو قياس أو عقل أو استصحاب...إلخ.
وهذا العرض لأقوال الأئمة وآرائهم يقتضي بالضرورة الموازنة والمقارنة بين هذه الآراء والأقوال، وكذلك المقارنة بين الأدلة والبراهين. أما ما يترتب عليه من نتائج فأهمها:
1-  التعرف على أسباب اختلاف الفقهاء والمجتهدين.
2-  التعرف على أدلة كل مجتهد حسب مدرسته الأصولية..
3-  إمكانية المقارنة والموازنة والترجيح حسب قوة الدليل والبرهان..

حركة التأليف في علم الخلاف:
نشطت حركة التأليف في علم الخلاف خصوصا مع اتساع الخصومة بين أتباع مدرستي الحديث والرأي في الفقه، واكتمال بنيان المذاهب الفقهية الأربعة المشهورة، فحسب صاحب (أبجد العلوم) يعتبر أبو زيد الدبوسي الحنفي (ت 432هـ) أول من ألف في علمٍ الخلاف (بكتابيه: تأسيس النظر، والتعليقة في مسائل الخلاف بين الأمة). لكن كتابات الإمام الشافعي وغيره، تؤكد أن الدبوسي الحنفي لم يكن أول من كتب في علم الخلاف. فللشافعي رسائل في الخلاف، كتبها وألحقها بكتابه (الأم) مثل: اختلاف أبي حنيفة وابن أبي ليلى ، واختلاف الشافعي مع مالك..
وبعيدا عن من كان له فضل السبق إلى التأليف في هذا العلم، فقد ظهرت كتب كثيرة في علم الخلاف نذكر منها:
- تذكرة الخلاف والنكت، لأبي إسحاق الشيرازي.
- أحيلة العلماء في اختلاف الفقهاء، لأبي بكر الشاسي الشافعي.
- عيون الأدلة، لأبي الحسن بن القصار المالكي.
- الإشراف على مذاهب الأشراف، لأبي هبيرة الحنبلي.
- مغيث الخلق في اختيار الأحق، لإمام الحرمين الجويني.
- ٍكتاب المجموع،(وهو شرح المهذب للشيرازي في الفقه الشافعي) وهو شبه موسوعة في الفقه المقارن، عرضت فيه مجمل الآراء الفقهية بأدلتها مع ترجيح بعض الآراء ولو خالفت المذهب الشافعي.
- اختلاف الأئمة العلماء، للوزير أبو المظفر الشيباني.
- المحلى، لإبن حزم الظاهري الأندلسي، وهو موسوعة فقهية استعرض فيها آراء الفقهاء ورد بعض الآراء بشدته المعهودة، وكشف أن بعض الآراء والفتاوى لا أصل لها في القرآن أو السنة. كما قارن بين أقوال الشافعي ومالك وأبي حنيفة وأحمد.
-  بداية المجتهد ونهاية المقتصد، لابن رشد المالكي الأندلسي.
-  زبدة الأحكام في مذاهب الأئمة الأربعة الأعلام، لسراج الدين عمر بن أسحاق الهندي، قاضي قضاة الحنفية في القاهرة (ت 704هـ)، وهو كتاب يعرض باختصار ما اتفق عليه وما ختلف فيه الأئمة، وهو بذلك يقدم لطالب العلم معرفة لماساحات الاختلاف والإتفاق بين المذاهب الأربعة..
- وهذه الكتب جميعها لأهل السنة ولمقلدي المذاهب الأربعة المشهورة، وتستعرض آراء هذه المذاهب وتقارن وتوازن بينها..
أما بالنسبة للشيعة الإمامية، فقد اهتم عدد من الفقهاء منهم بعلم الخلاف، وألفوا فيه كتبا مهمة، نذكرمنها:
-  الإنتصار، والناصريات، للسيد الشريف علم الهدى.
-  الخلاف في الأحكام، لأبي جعفر محمد بن الحسن الطوسي، المعروف بشيخ الطوسي.
-  تذكرة الفقهاء، للعلامة الحلي.
ورغم أهمية جميع الكتب التي ألفت في هذا العلم، فقد اشتهر من بينها كتابان: الأول: بداية المجتهد ونهاية المقتصد، لابن رشد المالكي، والثاني، كتاب الخلاف للشيخ الطوسي.

بين إبن رشد والطوسي:
يعتبر ابن رشد الأنـدلسي المالكي بكتابه: (بداية المجتهد ونهاية المقتصد) رائد مدرسة الفقه المقارن، كما يرى الشيخ واعظ زاده الخراساني، الذي يقول عنه: إننا لا نعرف بين المتقدمين والمتأخرين من يوازيه في الفقه المقارن بمعناه الصحيح، سوى ما نلمسه في بعض الموسوعات الفقهية الحديثة..
وما يميز إبن رشد – حسب الشيخ واعظ – أنه كان إبن الدليل فيما يعرضه من آراء، لذلك قد يقف إلى جانب الرأي النادر أمام رأي الجمهور لقوة دليله وضعف أدلتهم([3]).
لقد استعرض ابن رشد أقوال أئمة الإجتهاد في المذاهب الأربعة، بالإضافة إلى آراء المذهب الظاهري، ولم يكن هدفه إبطال مذهب أو الإنتصار لآخر، وإنما منهجه عرض الأقوال بأمانة علمية، ليتمكن من التعرف على أسباب اختلاف اللأئمة والمجتهدين، وبيان دليل كل واحد منهم، ثم بعد ذلك يتسنى له أن يرجح الرأي الراجح لقوة الدليل.
وهذا ما أشار إليه في مقدمة الكتاب بقوله: إن غرضي في هذا الكتاب أن أثبت فيه لنفسي على جهة التذكرة من مسائل الأحكام المتفق عليها والمختلف فيها بأدلتها، والتنبيه على نكت الخلاف فيها..
وهذا بالفعل ما جعل كتابه من أهم الكتب في الفقه المقارن، وإن كان ينقصه الرأي الشيعي الإمامي والزيدي([4])، لكن قد يكون معذورا لبعده عن المشرق حيث يتواجد الشيعة وتنتشر كتبهم. أما في الأندلس فتداول الكتب الشيعية كان نادرا ..
أما كتاب الشيخ الطوسي، فهو كذلك من أهم كتب الفقه المقارن لدى الشيعة الإمامية، وقد ستعرض فيه الشيخ أقوال وآراء أئمة وفقهاء المذاهب السنية الأربعة، ثم عرض القول الإمامي وأدلته، وفي ذلك يقول:((وذكر مذهب كل مخالف على التعيين، وبيان الصحيح منه وما ينبغي أن يعتقد، وأن أقرن كل سألة بدليل نحتج به على من خالفنا ، موجب للعلم من ظاهر قرآن أوسنة مقطوع بها أو إجماع أو دليل خطاب أو استصحاب حال – على ما يذهب إليه كثير من أصحابنا – أو دلالة أصل أو محتوى خطاب..)) ([5]).
 وقد كشف الطوسي في كتابه (الخلاف في الأحكام) عن معرفة عميقة بالمذاهب الفقهية وتفريعاتها الإجتهادية، لأنه كان قد تفقه في بداية تحصيله العلمي في بغداد على جميع المذاهب الفقهية، وخصوصا مذهب الشافعي، فقد كان عالما بأقوال أصحابه واختلافاتهم، وقد اهتم بأقوال الشافعية في كتابه الاختلاف، ما جعل تقي الدين السبكي، في كتابه طبقات الشافعية الكبرى ، يشتبه في مذهبه، فأرخ له باعتباره فقيها شافعيا([6]).
لقد استفاد كل من ابن رشد والطوسي من أجواء الإنفتاح وتضعضع السلطة السياسية آنذاك وتراجع الدعم السياسي للتعصب المذهبي، فكتبا في الفقه المقارن واستعرضا آراء الفقهاء المتنوعة في المسألة الواحدة، بحياد وأمانة وتحرر من التعصيب المذهبي. وما يميز (الخلاف) عن (بداية المجتهد) هو وجود الرأي الإمامي وأدلته التفصيلية ومقارنتها بآراء المذاهب السنية الأربعة، وإقامة الحجة على اختيارات الإمامية والدفاع عنها..
 وبالتالي فابن رشد المالكي والطوسي الشيعي الإمامي، يمكن اعتبارهما بحق نموذجا يحتذى في تبني المنهج المقارن وممارسته وتطبيقه في الدراسات الفقهية.

 المنهج المقارن في الدراسات الفقهية المعاصرة:
 في القرن الماضي ومع عودة الحيوية والنشاط لفكر الإسلامي، - ونتيجة لدعوات الإصلاح والتجديد، ومحاولات فتح باب الإجتهاد لمواكبة العصر ومستجداته ونوازله، وزخم الصحوة الإسلامية التي دعت إلى العودة إلى الدين والشريعة – نشطت الأبحاث والدراسات المقارنة في الفقه الإسلامي، دراسات كان الهدف منها أولا: تقديم الفقه الإسلامي في حلة جديدة بالاستفادة من تراث المذاهب الفقهية المشهورة، ثانيا: القيام بدراسات مقارنة بين أحكام الشريعة والقوانين الوضعية الغربية، لبيان صلاحية الشريعة الإسلامية لكل زمان ومكان، وتفوقها وانسجامها مع الفطرة الإنسانية..
فكان أن ظهرت كتابات مهمة في الفقه المقارن، توجت بظهور موسوعات مهمة في الفقه المقارن مثل:
-  موسوعة عبد الناصر الفقهية أو (موسوعة الفقه الإسلامي)، وقد صدر أول جزء منها سنة 1381هـ وقد بلغت أجزاؤها (24) جزءا. ولا تزال في مصطلحات الهمزة.
-  الموسوعة الفقهية الكويتية، وقد بلغت (45) جزءا.
-  الفقه على المذاهب الأربعة للجزيري([7]).
-  فقه السنة، للسيد سابق.
-  موسوعة الفقه الإسلامي وأدلته، للدكتور وهبة الزحيلي، في (10) أجزاء.
-  أما الدر اسات المقارنة الخاصة بموضوع معين، فهي أكثر من أن تحصى، فقد أنجزت المئات بل الآلاف من الدراسات المقارنة، كرسائل ماجستير ودكتوراه في الجامعات العربية والإسلامية، على مدى نصف القرن الماضي.
- أما ما يميز هذه الموسوعات الفقهية المقارنة – باستثناء موسوعة عبد الناصر الفقهية – فهو اقتصارها على المذاهب الأربعة فقط، وفيما سلك السيد سابق والجزيري الترجيح بين الأقوال والإختيار بين الآرء، وتجاوز بعض الآراء القديمة - وكذلك فعل الدكتور وهبة الزحيلي – فإن الموسوعة الكويتية ابتعدت عن الترجيح والمناقشة واكتفت بعرض الأقوال والإختلافات حتى داخل المذهب الواحد إن وجد، لأن ذلك متروك لكتب الخلاف والشروح في كل مذهب..
-  وكذلك سلكت موسوعة عبد الناصر الفقهية المنهج نفسه أي جمع الأحكام الفقهية وترتيبها ونقلها بدقة وأمانة – مع تجاوز الأقوال الشاذة – والابتعاد عن الموازنة بين المذاهب واختيارات الأئمة الإجتهادية، إلا أنها لم تقتصر على المذاهب الأربعة، وإنما أضافت إليها آراء الشيعة الإمامية والزيدية والظاهرية والإباضية.
-  وعلى أهمية هذه الموسوعات الفقهية المقارنة، إلا انها لم تتجاوز المرحلة الأولى في منهج المقارنة، وهي مرحلة جمع وعرض الآراء الفقهية المتعددة والمختلفة في المسألة الواحدة، وتجنبت عرض الأدلة وإجراء المقارنة والموازنة والمقابلة بينها، ومناقشة الأدلة مناقشة علمية، للوصول إلى أقوى الأقوال دليلا وأحسنها وأقربها إلى روح الشريعة ومقاصدها، وترجيحها على غيرها من الأقوال، وهذه هي المرحلة الثانية والمهمة والمطلوبة في منهج المقارنة.
-  كما أن تطبيق المنهج المقارن يظل ناقصا دون توسيع دائرة هذه المقارنة لتشمل جميع المذاهب الإسلامية، بل جميع الآراء الفقهية التي يحتضنها التراث الفقهي الإسلامي، وأن تتحرر المقارنة والموازنة ومناقشة الأدلة من كل تعصب مذهبي، وإنما قوة الدليل والبرهان هي ميزان الترجيح والإختيار.
-  اما بالنسبة للكتابات والدراسات الفقهية المقارنة الحديثة والمعاصرة لدى الشيعة الإمامية، فإنها على أهميتها إلا أنها تعاني أولا من محدودية هذه الدراسات، وثانيا عدم شموليتها لجميع أبواب الفقه في موسوعة جامعة على غرار موسوعة عبد الناصر الفقهية أو الموسوعة الكويتية، - وقد سمعت أن أكثر من موسوعة هي قيد الإنجاز الآن في معاهد مدينة قم بالجمهورية الإسلامية الإيرانية – وإنما اقتصرت المقارنة على أبواب معينة، والسبب في ذلك – في نظرنا- هو كون هذه الكتابات عبارة عن جهود فردية..
-  من هذه الكتابات نذكر:
-  الفقه على المذاهب الخمسة (العبادات، الأحوال الشخصية)، للشيخ محمد جواد مغنية.
وقد أشار في المقدمة إلى الأسباب التي دفعته لكتابة هذا اللكتاب ونهجه فيه قائلا: وعلى أساس التمهيد للتخيير من جميع المذاهب، عزمت على وضع هذا الكتاب، ملخصا فيه أقوال المذاهب الخمسة: الجعفري والحنفي والمالكي والشافعي والحنبلي، من مصادرهما. وكما في أقوال المذاهب ما يتفق مع الحياة، ويحقق العدالة، فإن فيها ما يجب ستره و الإعراض عنه.. ([8])
كما خصص الشيخ حبيب آل ابراهيم (من علماء جبل لبنان (1304- 1385هـ)) الجزء الثاني من كتابه: الحقائق في الجوامع والفوراق،/ للمقارنة بين الفقهين الشيعي الإمامي والسني، مقتصرا على باب العبادات (الطهارة والصلاة).
وقد أشار في مقدمة كتابه أن الهدف من كتابته هو التقريب بين السنة والشيعة، عندما يتبن للقارىء أن الإختلاف بينهما كالإختلاف بين الحنفية والشافعية والمالكية، بل لا تكاد توجد مسألة للشيعة فيها حكم إلا ولهم من أهل السنة فيها موافق([9]).
-  كتاب العبادات (الطهارة، الصلاة، اللصوم، الحج، الزكاة) على المذاهب الإسلامية: مذهب أهل البيت (ع) ومذاهب الأئمة الأربعة: الحنفية والمالكية والشافعية والحنابلة. للسيد محمد الغروي.
يقول المؤلف في المقدمة: إن الهدف من هذا التأليف هو التقريب بين نظرة المسلمين بعضهم إلى الآخر من خلال تعريف كل منهم على الآخر، لكي يعرفوا أن الرب واحد والنبي واحد والمعاد واحد والقرآن واحد وأركان الإسلام واحدة. لكن الفرق قد حصل في أمور ثانوية.. ([10]).
بالإضافة إلى كتابات تحقيقية عديدة، أضافت الرأي الإمامي إلى بعض الكتابات السنية المقارنة المنجزة، - والتي كان ينقصها فعلا الرأي الشيعي -، مثل: إضافة الرأي الشيعي الإمامي في كتاب بداية المجتهد ونهاية المقتصد لابن رشد المالكي، وطبعه من جديد مع هذه الإضافة ([11]).
 وكذلك أعيد طبع كتاب: التشريع الجنائي الإسلامي للشهيد عبد القادر عودة المصري، بإضافة الرأي الإمامي في الهامش.. وغيرها من الكتابات والدراسات.
وما يلاحظ على هذه الكتابات الشيعية الإمامية المقارنة هو الرغبة في تعريف القارىء السني بالرأي الشيعي الإمامي، ومحاولة التقريب بين أتباع المذاهب عن طريق هذا التعارف المذهبي، ليتبين أن الرأي الشيعي كغيره من الآراء الأخرى له أدلته وبراهينه المعتبرة، التي قد يشترك فيها مع غيره من المذاهب الأخرى، وبالتالي فلا شرعية للتكفير أو التضليل أو محاولة إخراج المذهب الشيعي من الدائرة الإسلامية. فلا بد إذن من أخذ رأيه بعين الإعتبار، فقد يكون راحجا حسب أدلته إذا ما تجاوزنا حواجز الجهل والتعصب المذهبي، وكان الهدف هو مصلحة الإسلام والبحث عن الحقيقة. وهذا ما اكتشفه عدد من الفقهاء والعلماء من أهل السنة المعاصرين،- مثل شيخ الأزهر الشيخ محمود شلتوت - بعد اطلاعهم على الرأي الشيعي الإمامي في بعض الأحكام الفقهية..

الأزهر الشريف والفقه المقارن:
من أهم إنجازات شيوخ الأزهر الشريف الذين اشتهروا بجهودهم الإصلاحية و التجديدية خلال القرن الماضي، إدخال مادة الفقه المقارن في مناهج التدريس بالأزهر الشريف، فقد أصدر الشيخ مصطفى المراغي (تولى مشيخة الأزهر سنة 1928م) أمره بتدريس الفقه المقارن. لكن المقارنة اقتصرت على المذاهب الأربعة فقط، ثم جاء بعده الشيخ محمود شلتوت فعمل على تدريس الفقه المقارن في كلية الشريعة على المذاهب الفقهية المعروفة الأصول البينة المعالم والتي من بينها دون شك مذاهب الشيعة الإمامية والزيدية.. وقد لاقت هذه الخطوة في مجال الإنفتاح على الفقه الإسلامي لدى جميع المذاهب تأييدا كبيرا من طرف عدد من العلماء والفقهاء آنذاك، فالشيخ محمد أبو زهرة دعا إلى دراسة الثروة الفقهية الإسلامية ككل دون تجزئة، ومن ضمنها الفقه الشيعي، لأنه في نظره جزء لا يتجزأ من التراث الفقهي الإسلامي، وأن يكون المنهج العلمي للتعاطي مع آراء واجتهادات الفقهاء، المتنوعة والمتعددة، هو اختيار أجود الأقوال والإجتهادات دون الإلتفات إلى من القائل أو مذهبه الفقهي الذي ينتمي إليه..
كما دعم هذا الإتجاه نحو تدريس الفقه المقارن كل من الشيخ محمد المدني ، عميد كلية الشريعة في الأزهر آنذاك والأستاذ الباحث أحمد إبراهيم الذي أنجز بعض الدراسات المقارنة دون التمييز بين الشيعة والسنة..
وجهود الشيخ محمود شلتوت لم تقتصر على تأسيس كرسي للفقه المقارن بالأزهر، بل كان الرجل مولعا بالدراسة الفقهية المقارنة ، ظهر ذلك جليا في كتاباته حيث نجده يستعرض الآراء والإجتهادات المتعددة في المسألة الواحدة دون أن يقيد نفسه بأي انتماء مذهبي بل كان ديدنه اختيار الرأي الراجح والأفضل والأقوى دليلا، وقد بلغ اهتمامه بالمنهج المقارن أن ألف بالإشتراك مع الشيخ محمد علي السايس كتاب (مقارنة المذاهب في الفقه)، وقد اعتمد للتدريس في كلية الشريعة بجامعة الأزهر. وفي هذا الصدد يقول الشيخ محمود شلتوت: وهاهو ذا الأزهر الشريف ينزل على حكم هذا المبدأ، مبدأ التقريب بين أرباب المذاهب المختلفة، فيقرر دراسة فقه المذاهب الإسلامية، سنييها وشيعيها، دراسة تعتمد على الدليل والبرهان، خالية من التعصب.. ([12]).
ولم تتوقف جهود الشيخ شلتوت في مجال التقريب على تأسيس كرسي للفقه المقارن بالأزهر ، وإنما قام بتدريس مادة الفقه المقارن، وكتب أغلب كتبه وفقا لهذا المنهج، فتراه يستعرض الأقوال المتعددة في أي مسألة ثم يختار القول الراجح وما يراه الأقرب إلى روح الشريعة ومقاصدها والأكثر انسجاما مع الواقع الحالي، وفي ذلك يقول: لا أنسى أني قمت بتدريس التطبيق والمقارنة بين المذاهب في كلية الشريعة، وكنت أعرض آراء المذاهب في المسألة الواحدة، ومن بينها أعرض رأي مذهب الشيعة، وفي أحيان كثيرة أنتخب رأي المذهب الشيعي، لأني أتبع الدليل أينما وجد، وأيضا لا يمحى من ذاكرتي أني أفتيت في كثير من المسائل طبقا لرأي الشيعة، منها ما يخص القوانين المرتبطة بالأحوال الشخصية وكذلك بعض المسائل منها حكم الطلاق ثلاثا والطلاق المعلق ومسألة الرضاع.. ([13]).
وأخيرا وصل الأمر بالشيخ شلتوت ـ وبعد الإطلاع على المذهب الشيعي ـ إلى إعلان فتواه الشهيرة بجواز التعبد وتقليد المذهب الشيعي الإثنا عشري، وقد توجت هذه الفتوى جهود الشيخ شلتوت التقريبية، وكشفت عن إخلاصه في تبني مشروع التقريب بين المذاهب، وهذه الفتوى هي من ثمار الفقه المقارن المباركة، فلولى اطلاع الشيخ شلتوت على الفقه الجعفري وأدلته في إطار المنهج المقارن لما تسنى له أن يفتى – عن قناعة – بجواز التعبد بالمذهب الشيعي الجعفري، وهو على رأس أهم مؤسسة علمية – دينية لأهل السنة في العصر الحاضر..

المنهج المقارن ودوره في التقريب بين المذاهب الإسلامية:
بعد هذه الجولة السريعة والتي تعرفنا من خلالها على أسباب ظهور علم الخلاف وأهدافه وأهم الكتب في هذا العلم، والجهود الـتأليفية الحديثة والمعاصرة في مجال الفقه المقارن، نتحدث عن أهمية الدراسات الفقهية المقارنة في التقريب بين المذاهب الإسلامية، من خلال مجموعة من العناوين.
1- المنهج المقارن ودوره في التعارف المذهبي:
يعتبر الجهل المتبادل بين المذاهب الإسلامية من أهم أسباب التنافر بين أتباعها ومقلديها – سواء أكانوا علماء أو عامة – لذلك فالدراسات والكتابات المقارنة - وخصوصا الموسوعية - تقدم معرفة جيدة بآراء المذاهب وأدلتها ومعتمد علمائها ومجتهديها في أي اختيار أو اجتهاد فقهي، وهذا التعارف والتعرف على الآخر المذهبي المخالف، يكشف عن مبانيه الإجتهادية وأصوله الإستتنباطية المعتبرة، بحيث قد يكون الصواب إلى جانبه عند النظر العلمي والتدقيق الموضوعي..
وبذلك تتراجع دعاوى التكفير والتضليل والتبديع وإخراج الآخر المذهبي من الملة والدين وتكفيره، بل الدعوة لقتله واستباحة ماله ودمه وعرضه ، ويحل محلها الإيمان بشرعية التعدد وواقعية الإختلاف، وهذا منطلق وأساس أي تقيرب بين المذاهب...
2- التعرف على التراث الفقهي الإسلامي:
لا يكمن لأي باحث أو مجتهد أن يدعي أن ما يقوله او يراه مذهبه الذي يقلده هو رأي الإسلام، خصوصا إذا كان الأمر يتعلق بنظرية إسلامية، دون أن يكون مطلعا على جميع المذاهب وعالما بالآراء المعتبرة في التراث الفقهي الإسلامي. لذلك قال الشاطبي في كتابه الموافقات: ((جعل الناس العلم معرفة الإختلاف))، والمنهج المقارن لا يمكنه من التعرف على مختلف الآراء في القضية أو المسألة فقط، وإنما يفتح أمامه الطريق للموازنة والمناقشة ومقارنة الأدلة، مما يساعده على اختيار أحسن وأفضل الأقوال لترجيحها ، وهذا يحقق مصلحة للاسلام وللمكلف المقلد..
3- المنهج المقارن يكشف أسباب اختلاف الفقهاء:
من أهم ثمار ونتائج ممارسة المنهج المقارن في الفقه ، هو تمكن الباحث أو المجتهد من التعرف بشكل دقيق وعلمي على أسباب اختلاف المجتهدين وأهل الرأي، سواء تعلق الأمر باختلاف الفهم والتفسير أو التأويل، أو مصادر الإستنباط، وهذا ما أكده إبن خلدون في مقدمته عندما قال يصف علم الخلاف: علم جليل الفائدة في معرفة مآخذ الأئمة وأدلتهم، ومران المطلعين له على الإستدلال..
وكذلك يتم التعرف من خلال هذا المنهج على الرأي الراجح في أي مذهب، مما يسهل عملية المقارنة والموازنة العامة.. لذلك نجد أن أغلب من كتب واشتغل بعلم الخلاف أو الفقه المقارن تمكن من اكتشاف أسباب اختلاف الفقهاء... الأصول الخمسة للتعامل مع القرآن، يأتي مثلها في التعامل مع السنة النبوية، وبعد هذه الأصول العشرة يأتي الإجماع، ثم القياس، ثم عمل أهل المدينة، ثم الاستحسان، ثم الحكم بسد الذرائع، ثم المصالح المرسلة، ثم قول الصحابي، إن صح سنده وكان من الأعلام، ثم مراعاة الخلاف إذا قوى دليل المخالف، ثم الاستصحاب، ثم شرع من قبلنا.
وفي مذهب الإمام الشافعي: كان التميّز لقواعد النظر وأصول المنهج، فالأصل: القرآن والسنة، فإن لم يكن فقياس عليهما، وإذا اتصل الحديث برسول اللَّه صلى الله عليه و سلم، وصح الإسناد به فهو المُنْتَهى، والإجماع أكبر من الخبر المفرد، والحديث على ظاهره، وإذا احتمل المعاني فما أشبه منها ظاهره أولاها به، وإذا تكافأت الأحاديث، فأصحها إسناداً أولاها، وليس المنقطع بشيء ما عدا منقطع ابن المسيب، ولا يقاس أصل على أصل، ولا يقال للأصل: لم ؟ وكيف ؟ وإنما يقال للفرع: لم ؟ فإذا صح قياسه على الأصل صح، وقامت به الحجة.
وقواعد مذهب الإمام أحمد بن حنبل، هي:
أولاً: النصوص: من القرآن والسنة، فإذا وجدها لم يلتفت إلى سواها، ولا يقدم على الحديث الصحيح المرفوع شيئاً من عمل أهل المدينة، أو الرأي، أو القياس، أو قول الصحابي، أو الإجماع القائم على عدم العلم بالمخالف.
ثانياً: فإن لم يجد في المسألة نصّاً انتقل إلى فتوى الصحابة، فإذا وجد قولاً لصحابي لا يعلم له مخالفاً من الصحابة لم يَعْدُه إلى غيره، ولم يقدم عليه عملاً ولا رأياً ولا قياساً.
ثالثاً: فإذا اختلف الصحابة تخيّر من أقوالهم أقربها إلى الكتاب والسنة، ولم يخرج عن أقوالهم. فإن لم يتضح له الأ قرب إلى الكتاب أو السنة حكى الخلاف ولم يجزم بقول منها.
رابعاً: يأخذ بالحديث المرسل والضعيف إذا لم يجد أثراً يدفعه أو قول صحابي أو إجماعاً يخالفه، ويقدمه على القياس.
خامساً: القياس عنده دليل ضرورة، يُلْجَأ إليه حين لا يجد واحداً من الأدلة المتقدمة.
سادساً: يأخذ بسد الذرائع.
أما أبرز أصول المذهب الظاهري فهي: التمسك بظواهر آيات القرآن الكريم والسنة، وتقديمها على مراعاة المعاني والحِكَم والمصالح التي يظن لأجلها أنها شرعت، ولا يعمل بالقياس عندهم ما لم تكن العلة منصوصة في المحل الأول ـ المقيس عليه ـ ومقطوعاً بوجوبها في المحل الثاني ـ المقيس ـ بحيث ينزل الحكم منزلة (تحقيق المناط). كما يحرم العمل بالاستحسان، ويستدل بالإجماع الواقع في عصر الصحابة فقط، ولا يعمل بالمرسل والمنقطع، خلافاً للمالكية والحنفية والحــنابلة. ولا يُـعـمل بشــرع مــن قبلـنا. ولا يحل لأحد العمل بالرأي ؛ لقوله تعالى: ((مَّا فَرَّطْنَا في الكِتَابِ من شَيْءٍ)). وتعدية الحكم المنصوص عليه إلى غيره، تَعَدٍّ لحدود اللَّه تعالى. ولا يحل لأحد القول بالمفهوم المخالف. والتقليد حرام على العامي كما هو حرام على العالم، وعلى كل مكلف جهده الذي يقدر عليه من الاجتهاد... ([14])  .
وهكذا، يثبت المنهج المقارن أن المذاهب لم تختلف على الأصول، ولا على تقديمها.. وإنما كان التمايز والاختلاف بينها في مناهج النظر في هذه الأصول، وفي قواعد الاستنباط للأحكام من هذه الأصول،
وتشخيص هذه الأسباب مقدمة إما لمناقشتها لمعرفة الحق والصواب فيها ، أو إيجاد العذر للمخالف، وكلى الأمرين يقربان بين المذاهب الإسلامية..
4- المنهج المقارن ومعرفة مساحات الإتفاق والإختلاف بين المذاهب:
بالمنهج المقارن يستطيع الباحث تحديد مساحات الإتفاق والإختلاف بين المذاهب الفقهية، كما يكشف أن مسائل الشريعة ليست كلها عرضة للخلاف، بل فيها ما هو قطعي لا يدخله الخلاف أصلا، وفيها كليات الشريعة التي تضافرت على معناها النصوص واتفقت عليها الأمة قاطبة، وفيها الجزئيات المنصوصة التي لا يتعدد الفهم فيها لورودها في أقصى درجات الوضوح، وهي التي يقول فيها الفقهاء: لا اجتهاد مع النص، أولا اجتهاد في مورد النص، وأما ما كان بخلاف ذلك فهوما يدخله الخلاف.. ([15]).
مثال على ذلك ما يقوله الشيخ المفيد في كتابه (المقنعة) في باب الحج وهو يتحدث عن إجماعات الشيعة في مقابل إجماعات أهل السنة: ((لم يجمع العامة في هذا الباب على خلاف ما تفقت الإمامية عليه إلا في مسألة واحدة.. وأما ما سواها من أحكام الحج فليس للإمامية على الإطباق فيه قول، إلا وكافة العامة توافقهم عليه أو بعضهم حسب ما قدمناه..)) ويقول في باب أحكام البيوع: ((وليس في أحكام البيوع اتفاق على شيء، في خلافه إجماع من العامة فأذكره على التفصيل، وكل مسألة اتفق أهل الإمامية عليها على قول فيها أو اختلفوا، ففيها إجماع من العامة أو اختلاف..)). وكذلك تمكن الدكتور وهبه الزحيلي في موسوعته الفقهية من تحديد المسائل المختلف فيها بين السنة والشيعة وذكرها في مقدمة الموسوعة..
وبالتأكيد، فتحديد مساحات الإتفاق والإختلاف هي مقدمة ضرورية للتقريب، خصوصا عندما تكشف الدراسات المقارنة أن حجم الإتفاق بين المذاهب أكبر من حجم الإختلاف، وهذه حقيقة يمكن أن يتسلح بها دعاة التقريب في مواجهة دعاة التفرقة والتحارب بين المذاهب الإسلامية..
5- كتب الفقه المقارن وأهميتها للمفتي:
لا بد لأي مفتي قبل الإفتاء من أن يطلع على الآراء المتعددة والمختلفة في أي مسألة ، وكتب الفقه المقارن توفر للمفتي هذا الإطلاع والمعرفة. لذلك نقل ابن عبد البر في كتابه (جامع بيان العلم وفضله)عن عثمان بن عطاء عن أبيه قال: ((لا ينبغي لأحد أن يفتي الناس حتى يكون عالما باختلاف الناس، فإنه إن لم يكن كذلك رد من العلم ما هو أوثق من الذي في يديه..)) وعن يحيى بن سلام: ((لا ينبغي لمن لا يعرف الاختلاف أن يفتي، ولا يجوز لمن لا يعلم الأقاويل أن يقول: هذا أحب إلي)). ([16]).
6- الفقه المقارن وعلاقته بالاجتهاد.
عندما سمى ابن رشد المالكي كتابه في علم الخلاف (بداية المجتهد) كان يعرف أن الإطلاع على آراء المجتهدين وأدلتهم فيما يختارونه من أقوال، هو مقدمة لأي اجتهاد، كما أن أي عملية للترجيح بين الأقوال ومناقشة الأدلة والموازنة بينها ، واختيار أحسنها وأفضلها، إن لم يكن اجتهادا مطلقا،- كما يقول الشيخ مغنية - فإنه على كل حال ضرب من الإجتهاد([17]). وبذلك تكون الدراسات المقارنة مقدمة للاجتهاد.
وفتح باب الإجتهاد على مصراعيه، وخصوصا لدى أهل السنة، سيؤدي إلى ظهور مذاهب اجتهادية جديدة، وتجاوز المذاهب القديمة ، وهذا سيفتح المجال أمام التقريب بين المذاهب الاسلامية بتجاوز مسائل الخلاف القديمة وإعادة النظر فيها.
7- الفقه المقارن وإعادة النظر في فتاوى القدامى:
عن طريق الفقه المقارن يستطيع الباحث أو المجتهد المعاصر أن يعيد النظر في عدد من الفتاوى القديمة، إما لضعف دليلها، أو لتاريخيتها وارتباطها بظروف تغيرت ولم يعد لها موضوع، أو لعدم انسجامها مع الواقع. وهذا العمل له أهميته الآن والإسلام يتعرض للهجوم والنقد بسبب تشبث البعض بالعمل ببعض الفتاوى القديمة التي كانت مقبولة اجتماعيا في الماضي. وكذلك إعادة النظر في عدد من المسائل الفقهية التي تعتبر مسائل مختلف فيها بين المذاهب السنية فيما بينها، وبين السنة والشيعة كذلك..
8- المنهج المقارن والتخفيف من حدة التعصب المذهبي:
مما لا شك فيه أن الاطلاع على كتب الخلاف وكتب الفقه المقارن، يخفف من حدة التعصب المذهبي، لأن المقلد يكتشف أن المذهب المخالف له أدلته وبراهينه، المعتبرة، وأن المسألة فيها نظر وتأمل، وليس مقطوع فيها. وقد تدفعه قوة الدليل إلى الأخذ به، والتحرر من تقليد مذهبه في هذا الرأي، لذلك فالمنهج المقارن، كما يقول الشيخ مغنية يجعلنا: ندع التقليد لمذهب خاص، وقول معين، ونختار من اجتهادات جميع المذاهب ما يتفق مع تطور الحياة، ويسر الشريعة.. ([18]).
9- المنهج المقارن ورفع الحرج على المكلف:
هناك عدد من الآراء الإجتهادات فيها حرج وتشدد ظاهر وشذوذ، مع الفقه المقارن وعلم الخلاف نكتشف آراء اجتهادية أقل تشددا، وقد نهج فيها الأئمة نهج التسامح لما تذوقوه من مقاصد الشريعة ورغبتها في التساهل في هذه المسائل، وعدم إحراج المكلف بالتشدد فيها..خصوصا عندما يصل الإختلاف في بعض المسائل إلى أن يحلل مذهب ويحرم آخر..فهاهنا لا بد من التعرف على الأدلة وقوتها والترجيح بين الأقوال، وتجاوز الأقوال الشاذة أو التي أصبحت شاذة بفعل تغير الأزمنة والواقع..
10- المنهج المقارن ودعم جهود تقنين الشريعة:
هناك الآن جهود لتقنين الشريعة في العالم الإسلامي، والفقه المقارن يمكنه أن يلعب دورا مهما في دعم هذه الجهود، وتيسير عملية التقنين، بمساعدة الفقهاء والمقننين على اختيار أفضل الأقوال وأكثرها انسجاما مع العصر، بعيدا عن الإلتزام بمذهب معين لأسباب تاريخية فقط..
وهذا التقنين يفترض فيه أن يستفيد من التراث الفقهي لجميع المذاهب الفقهية بدون استثناء.. وهذه بدورها خطوة جادة نحو التقريب بين المذاهب الإسلامية..
11- المنهج المقارن وبناء النظريات الإسلامية في جميع المجالات:
لا يمكن بناء نظرية إسلامية متكاملة تمثل الإسلام فعلا، بالإقتصار على التراث الفقهي والكلامي لمذهب معين، بل لابد من إشراك جميع المذاهب في عملية بناء النظريات الإسلامية في جميع المجالات. والفقه المقارن وكذلك علم الكلام المقارن يمكنه أن يساعد كثيرا في هذا المجال، لأن كتب الخلاف وكتب وموسوعات الفقه المقارن يمكن ان تضع بين يدي الباحث والمفكر المادة الكاملة والشاملة لآراء المذاهب والعلماء والمجتهدين حول أي موضوع.. وبالتالي يتمكن من الإختيار بحرية من الأقوال والفتاوى والإجتهادات ما يساعده فعلا على بناء نظرية متكاملة في مجال ما.. لذلك قيل إن الشهيد السيد محمد باقر الصدر، في كتابه اقتصادنا استفاد من جميع المذاهب الإسلامية ولم يقتصر على المذهب الشيعي الإمامي، حتى تسنى له وضع نظرية إسلامية في مجال الإقتصاد..
 وهذه الجهود بمجملها تصب - مما لاشك فيه -، في التقريب بين المذاهب الإسلامية، وهذا التقريب هو الخطوة الأولى في سبيل تحقيق الوحدة الإسلامية المنشودة..
-------------------------------
([1])أنظر تعريف المنهج المقارن في: د. قباري محمد إسماعيل، مناهج البحث في علم الإجتماع، منشأة المعارف بالأسكندرية (د. ت).
([2])انظر : كشف الظنون عن أسامي الكتب والفنون، دار إحياء التراث العربي.ج1 مادة علم الخلاف، ص 721.
([3])أنظر: إبن رشد: الفقيه المالكي والفقه المقارن، ورقة مقدمة لندوة ابن رشد التي نظمتها المنظمة الإسلامية للعلوم الطبية، الكويت في 21-23 شعبان 1415هـ، موقع مؤسسة الصدرين للدراسات الإستراتيجية على الإنترنت.
([4]) قام المجمع العالمي للتقريب بين المذاهب بتحقيقه وإعادة طبعه مع إضافة الرأي الشيعي الإمامي، وقد طبع الكتاب سنة 2010م..
([5]) أنظر: كتاب الإختلاف، المقدمة.
([6]) أنظر: الطبقات، الجزء الثالث، ص 51 ترجمة (محمد بن الحسن بن علي).
([7]) يقال هو للشيخ المراغي شيخ الأزهر، ولكن نسب خطأ للجزيري.
([8]) الفقه على المذاهب الخمسة، دار الجواد، بيروت، ط8- 1984م، ص 9.
([9]) أنظر: الحقائق في الجوامع والفوارق، مطبعة العرفان، صيدا، لبنان، ط1- 1938م ج1- ص10.
([10]) دار التعارف للمطبوعات، ط1- 2007م، ص 18-19.
([11]) أنجز تحت إشراف المجمع العالمي للتقريب، وقد صدر سنة 2010م.
([12]) علي أحمدي، الشيخ شلتوت، سلسلة رواد التقريب، الناشر المجمع العالمي للتقريب بين المذاهب في طهران، ص85.
([13]) أنظر: رأي الشيعة في هذه المسائل في المصدر نفسه، ص 86 وما فوق.
([14]) يراجع كتاب: استراتيجية التقريب بين المذاهب الإسلا مية، الصادر عن منظمة الإيسيسكو في الرباط – المغرب.
([15]) مجلة الأمة الوسط، دراسة لأبي أمامة نوار بن الشلي، مناهج الفقهاء في التعامل مع الخلاف ومعالم المنهج الوسط، ص274.
([16]) أنظر هذه الأقوال في: ابن عبد البر، طبعة مؤسسة الريان، ج2، ص95-105 .
([17]) الفقه على المذاهب الخمسة، مصدر سابق، ص9.
([18]) المصدر نفسه.. نظر الطبقات، الجزء الثالث، ص 51 (محمد بن الحسن بن علي).