البث الإعلامي الطائفي وطرق مواجهته

البث الإعلامي الطائفي وطرق مواجهته

البث الإعلامي الطائفي وطرق مواجهته


 ميســر سهيـل
الخبير الإعلامي

إن العالم يعيش الآن " عصر الإعلام " لما لوسائل الإعلام المختلفة المقروءة والمسموعة والمرئية من تأثير جماهيري واسع, بفضل " ثورة الاتصالات " التي حولت العالم إلى قرية واحدة في عصر العولمة، وما زاد من أهمية الإعلام في التأثير محليا ودوليا ظهور العديد من الأشكال الإعلامية الجديدة التي لا يمكن السيطرة عليها أو حصرها في حدود جغرافية أو مؤسساتية ومنها والإنترنيت، حيث تبرز في هذا السياق الفضائيات والمواقع الإلكترونية والمدونات وغيرها, والتي تبث على مدار الساعة آلاف الرسائل الإعلامية التي تؤثر في توجهات البشر وتغذي حاضنتهم الفكرية وتسهم في تحديد خياراتهم ومن ثم تلعب دورا أساسيا في واقع الأمن والاستقرار في العالم كله.
 وإن من الواضح تماماً أن الإنفاق الحكومي على الإعلام في كثير من دول العالم صار كبيراً جداً قد يساوي أو يفوق ما تنفقه بعض الدول على مشاريع التنمية الاقتصادية أو العسكرية، وهو إعلام موجه لخدمة مصالح تلك الدول أو بالأحرى مصالح من وراءهم من أصحاب القرار الذين يحركون الدمى على مسارح التنفيذ الحكومي. ومهمة الإعلام تزويد الناس بالأخبار الصحيحة والمعلومات السليمة والحقائق الثابتة التي تساعدهم على تكوين الرأي. وهذا يعني أن الإعلام نشاط اتصالي يتسم بالصدق والدقة والموضوعية، وهو ليس نشاطاً ذاتياً يعبر عن القائم بالاتصال فقط بل عن الجماهير التي يخاطبها ليكون مؤثراً في عقولهم ومستويات تفكيرهم وإدراكهم وترقية عواطفهم وتنوير الرأي العام والارتقاء به، وذلك بالشرح والتبسيط والتوضيح بما يتناسب مع المستويات المختلفة للجماهير.
لقد صار الإعلام السمة المميّزة للعصر وأضحى تأثيره في الحياة طاغياً لا يستطيع معه أيّ فرد في أيّ ركن من أركان الدنيا أن يتجنّبه، إنّه يؤثر في العقول ويحركها ويغيّر اتجاهات الأفراد ويوجّههم إلى حيث يشاء، بل هو يصنع الأحداث والأخبار، وبدأ يبرز دوره كسلطة رابعة في العالم. إنّه يخطو بالشعوب والدول ويتقدّم بها إلى الأمام وتلك هي مهمة الإعلام الرشيد، أما الذي يخطو بها إلى التخلف والتفكك والصراع المادي فهو ما يصنعه إعلام ظلامي غير مستنير.
إن الإعلام هو الذي يرسم اليوم ما يمكن أن نطلق عليه الخريطة الإدراكية الوجدانية للشعوب فتبرز بالتفاعل معه شعوب مستنيرة متكاملة الشخصية لها فعالياتها وتحقق ذاتيتها ووجودها، وأخرى تعاني من الخواء الوجداني والإدراكي أمام ضغوط توجهات إعلامية تسعى إلى تجريد الأفراد من هويتهم وانتماءاتهم وقيمهم ومعتقداتهم وثقافتهم الذاتية.
 فالإعلام الظلاميّ ينتهي بخطابه إلى إقناع الجماهير بالخضوع لقوىً خارجيّة أو داخلية تسعى وراء استغلال ثروات الشعوب وضمان أسواقٍ واسعةٍ لبيع وفرض إنتاجها، وهو الضياع الذي يفرضه لتحقيق (مصطلح المصالح)، كالمصالح الأمريكية والمصالح الإنكليزيّة والمصالح الفرنسيّة ومن أجلها تشتعل الحروب وتحاك المؤامرات والفتن.
ونحن لا نخالف الحقيقة إذا قلنا إنّ الإعلام بحد ذاته قد أصبح اليوم أداة بطشٍ جديدةٍ _ إذا جاز لنا التعبير _ وهو البطش بحريّة الشعوب ومقدّراتها، فأيّ وسيلة للبطش أكبر وأشد من وسائل البطش بالعقول وتجريدها من كلّ ما يحفظ لها مقوّمات وجودها باعتبار أن أساس هذا الوجود هو التفكير الحر المستنير لقد بدأت منذ أواخر القرن العشرين حرب المعلومات والمعلوماتية من خلال وسائل الإعلام حيث إنّها أساس وجود الإنسان المعاصر، وأصبحت الدولة الأقوى هي الأكثر معلوماتيّة وبصفة خاصّة المعلومات التكنولوجية المتقدّمة المعتمدة اعتماداً كاملاً على الإلكترونيات التي تكاد تكون محتكرة من دول تعمل بجهد على عدم تسرّبها إلى دول أخرى، خاصّة ما يتّصل بالصناعات العسكريّة الدقيقة والسيطرة على بنوك وقواعد ومراكز المعلومات، وهكذا يتأكّد أنّ الإعلام الظلامي يمكن أن يصير طاغية العصر المؤثر في حياة الشعوب سلباً أو إيجاباً وهو الحاضر دوماً في كلّ مشروع حضاري أو تنموي وفي كلّ خطّةٍ تنمويّةٍ أو توجّهٍ تنموي باعتبار التنمية هي أساس كل مشروع حضاري.
وبدل أن يكون الإعلام أداة إيجابية لخدمة أغراض التنمية والسلام الاجتماعي وتحقيق التقارب والتفاهم بين الناس على المستويين الداخلي والخارجي فإنه في الوقت نفسه، تحول إلى أداة هدامة تسيء إلى استقرار الدول والمجتمعات وتنشر الكراهية بين فئات المجتمع الواحد وأصحاب الديانات والثقافات المختلفة على المستوى الدولي وهذا ما يقوم به ما يمكن أن نطلق عليه " الإعلام الطائفي". وهذا البث الإعلامي الطائفي هو صورة من الصور الشاذة في العمل الإعلامي، مخالفة لمنطق الإعلام وقواعده العلمية التي يمكن تلخيصها بأنّها: تزويد الناس بالأخبار الصحيحة والمعلومات السليمة والحقائق الثابتة، بطريقة صادقة دون أي تحريف، لتكوين أكبر درجةٍ من الوعي لدى الجماهير.
بينما يقوم البث الطائفي على التحريف والتضليل الذي يهدم الوعي ويشتت الفكر بغرض إيجاد جو من التفرقة في المجتمعات لإضعافها، وذلك من أجل تحقيق أهداف السيطرة الماديّة واستغلال الثروات.
إنه حلقة من منهج قديم يقوم على إثارة نقاط الاختلاف لبثِّ الفتن، سواءٌ منها الدينية أو الاجتماعيّة أو السياسيّة، وقد مارسه اليهود في المدينة المنوّرة قبل الإسلام بين قبيلتي الأوس والخزرج فأوقع بين القبيلتين العربيتين حروباً طاحنةً حتّى أنقذهما الله سبحانه وتعالى بالإسلام.
واستمرّ بثّ الفتن الطائفيّة (عرقيةً وقبليّةً) بعد ظهور الإسلام، وتغلغل الخلاف في جسد الأمّة الإسلاميّة منذ ذلك الوقت بصورٍ اجتهاديةٍ ومذهبيّةٍ في ظاهرها، وسياسيّةٍ واجتماعيةٍ في جوهرها، وقد كان هذا المنهج الصهيوني المنشأ، يأخذ أشكالاً متعدّدةً في شحن أسس وعوامل التفرقةِ، إلى أن جاء عصر الإعلام الجماهيري فأخذ شكله الطائفي السلبي، فقد كان ينشط هذا الفكرُ الطائفي في الماضي من خلال الاتّصال الشخصي أو الجمعي، لكنّه وجد في وسائل الإعلام الجماهيري أرضاً خصبةً لتوسيع بثِّ أفكارهِ المنحرفة أو التي يبحث عنها ليقوم بتحريفها وتسويقها عبر الإعلام المقروء أو المسموع أو المرئي وحتى الإلكتروني، وقد استفادت الحركة الصهيونية من وسائل الإعلام الحديثة، حيث أدركت في وقتٍ مبكّرٍ قوّة تأثير هذه الوسائل، وخاصّة الفضائيّة منها، فأخذت تموّل وتدعم محطّات ناطقة باللغة العربيّة، لتتكلّم بما يريده الاستكبار الصهيوني الغربي وبما يخدم أغراضه الظاهرة والخفيّة، فلا عجب أنّ نجدَ في الخطاب السياسي لبعض الإعلام العربي أحياناً تطابقاً تامّاً مع الخطاب الصهيوني إن لم يزد عليه. وقد ابتليت المنطقة العربية خلال السنوات الأخيرة بهذا النوع من الوسائل الإعلامية التي تقوم برامجها وتوجهاتها على النبش في صراعات الماضي وإعادة إحياء القضايا السياسية والدينية والمذهبية الحساسة والمثيرة للكراهية والحقد بين أصحاب الديانات والمذاهب, فضلا عن الإساءة إلى المقدسات والمعتقدات.
ومن صور هذا الخطاب ما تبثّه بعض الفضائيّات عن التاريخ الديني وتجعلُ منه مدخلاً لتغذية الخلاف بين المذاهب والأعراق، كلّ ذلك للوصول إلى إحباطِ الأجيالِ الصاعدةِ في عالمنا العربي والإسلامي، وتيئيسها من قدرتها على بناء مستقبلٍ حرٍّ ومستقل ولإقناعها بتقبّلِ الأمر الواقع الذي تفرضه المخطّطات المعادية للأمّة العربية والإسلاميّة مستفيدةً من تشويه الصورة الدينية والتاريخيّة وربطها بالتخلّف والجهل. وقد كان الإعلام الطائفي خلال الفترة الأخيرة أحد أهم مصادر التوتر في أكثر من منطقة على الساحة العربية حيث يتم استخدامه لإثارة الصراعات بين أبناء الوطن الواحد أو بين أصحاب الأديان والمذاهب على مستوى المنطقة كلها, وهذا ما جعله يمثل خطرا حقيقيا يواجه مجتمعات المنطقة ويهدد سلمها الاجتماعي. وينبغي التمييز بين الطائفية، كرزمة من التعاليم السماوية والقيم الروحية والإنسانية، وظيفتُها التغذية الروحية وتمتين صلة الإنسان بالله عز وجل، وبين الطائفية كفعلٍ انغلاقي تعصبي، يتستر ببعض الشعارات الدينية لتحقيق أهداف سياسية.
 والأمر المهم والخطير أن هذا الإعلام الطائفي المدعوم صهيونيّاً بشكل مباشر أو غير مباشر، ما هو حلقة من سلسلةٍ متصلةِ، على مستوى حكومات ومنظّمات دولية يتسلّل من خلالها أفرادٌ مختارون بعنايةٍ إلى مواقع النفوذ، للقيام بكل ما من شأنه إيجاد شروخ وخلافات، أذكر منها على سبيل المثال على المستوى الحكومي:
1. صاحب كتاب الآيات الشيطانيّة التي تمخّض عنها فكره المنحرف، للإساءة إلى الإسلام والقرآن، فقد لاقى ذلك الشّخص دعماً وحمايةً وترويجاً لأفكارهِ واحتضاناً من قبل الحكومةِ البريطانيّة، التي وجدت في آياته الشيطانية عونا لتوجهها الشيطاني.
2. صاحب الرسوم المسيئة للرسول الأكرم محمد صلى الله عليه وسلّم، جرت حمايته والدفاعُ عنه في بعض الدول الأوروبيّة تحت شعار غير صادق وهو "حريّة التعبير"، بل إنّ أنجيلا ميركل الألمانية قامت بتكريمه رسميّاً، وكأنّها لم تجد في ألمانيا كلّها من العلماء والمفكّرين من يستحق التكريم أفضل من هذا الدانماركي الذي جلب البغضاء لنفسه ولبلده ولكلّ من يناصره، في نفوس ملايين المسلمين بسبب فعله الشنيع, الذي يخرج عن نطاق حرية الإعلام ليدخل في نطاق آخر هو " حرية التخريب " وهذا النوع من " الحرية " المدمرة يسيء إلى الإعلام مثلما يسيء إلى المجتمع.
والسؤال هو: من أين جاء هذا الرجل؟ إنّه لم يأتِ من فراغٍ حتماً، لقد جاء من رحمِ الحركة الصهيونيّة لزرع الفتنة بين المسلمين والمسيحيين.
3. الأمريكي المهووس الذي أراد ارتكاب جريمة حرق القرآن الكريم، لم تتّخذ منه الإدارة الأمريكية المتصهينة موقفاً حازماً لولا خوفها من انعكاس ذلك سلبيّاً على أرواح جنودها الغارقين بالفشل في أفغانستان والعراق، وهنا لابد من الإشارة بالتقدير والاحترام لعلماء الدين المسيحي في المنطقة العربية والإسلاميّة لمواقفهم المشرّفة باستنكارهم لفعلهِ الشنيع وتبرّؤ الكنيسة منه، إخماداً للفتنة.
4. أمّا على مستوى المنظّمات الدولية فنجد الأمم المتّحدة تتدخّل بشؤون المحكمة الدولية الخاصّة بلبنان، وتعمل على تسييسها والتأكيد على ضرورة استمرارها، لتأجيج الفتنة الطائفيّة في لبنان كلّما لاحت بوادر لإخماد هذه الفتنة والوصول إلى الوفاق الوطني، ولكن السؤال الذي يطرح نفسه بهذا الصدد : متى كانت أمريكا وأعوانها حريصين على أهل السنّة في لبنان؟ بل متى كانت حتّى حريصةً على المسيحيين فيها أيضاً ؟ ألم يهاجر آلاف المسيحيين من لبنان بسبب الأوضاع القلقة التي أوجدها المرتهنون للعجلة الأمريكية، حتّى تناقص عددهم بشكل كبير؟ وهل سَلِمَتْ المسيحيّة والمسيحيّون في ظل الاحتلال الصهيوني لفلسطين من الاضطّهاد والتهجير والاعتداءِ على الأنفس والأرواح والمقدّسات؟ وكم بقى من المسيحيين في العراق بعد الاحتلال الأمريكي لهذا القطر العربي الشقيق بعدما كانوا فيه من رغدِ العيش المشترك مع المسلمين بكافّة مذاهبهم على مدى حقب طويلة ؟.
كل هذا وأمثاله يأتي رافداً لإعلام التطرّف الطائفي والمذهبي والديني، وإنّ الحركة الصهيونيّة التي تسيطر على الإدارة الأمريكيّة هي ضدّ جميع الأديان والمذاهب، لأنّها حركةٌ عنصريّة فاشيّة، تلعب في المجتمعات بالسياسة وبإنتاج مثل هذه الحالات الفتنويّة، ثمّ يأتي البث الإعلامي الطائفي ويشحن النفوس بأفكارٍ تكفيريّة تزعم أنّ ما يمارسه الآخرون في إطار الدين هو خطأٌ في أحسن الأحوال، حتّى يصل الأمرُ إلى درجة التكفير واستخدام العنف كواجب ديني لتصحيحِ المسارِ حسب وجهة نظر طرف اتجاه طرف آخر، وهذا يقود إلى النزاعات الفكريّةِ الحادّة وصولاً إلى الصدامات المسلّحة.
وهنا يأتي دور الأفراد المستعملين لتفعيل هذا الصراع من خلال النشاط المحموم في المحطّات الناطقة بالعربيّة، سواءٌ يعلم هؤلاء الأفراد أو لا يعلمون أنّهم صاروا أدواتٍ لخدمة منهجٍ صهيونيٍ معادٍ لأمّتهم.
وأقرب مثالٍ للمحطّات المشبوهة والأشخاص المأجورين ذلك الرجل الذي ادّعى التشيّع وظهرَ في فضائية المستقلّة ببريطانيا وافترى الإفك والبهتان على أمّ المؤمنين السيدة عائشة رضي الله عنها بغرضِ إشعال الفتنة المذهبيّة بين السنّة والشيعة.
ولكن بفضل الله عزّ وجل وبنضوج الوعي الإسلامي لم يلتفت لافترائه أحد، وقد تبرّأت منه المراجع الشيعيّة كافة، وبادر سماحة الإمام علي الخامنئي دام ظلّه، وهو أعلى مرجع شيعي في العالم فأصدر الفتوى بتحريم الإساءة للسيدة عائشة وجميع أمّهات المؤمنين، بل ونساء جميع الأنبياء والرسل عليهم السلام، وكذلك بتحريم الإساءة إلى الصّحابة جميعاً رضوان الله عليهم.
وتقوم أموالٌ مشبوهة بدعم محطات البث الطائفي في العالم العربي وتُمِدُّ جميع الأطراف المتناقضة ليظهر على شاشاتها أشخاص متعصّبون يقومون بمهاجمة الآخرين، من مذاهب أو أئمة أوعلماء، كما ينبشون بطون الكتب القديمة ليجدوا عبارةً كُتبت في ظرف خاص وربما تحت تأثير مادي أو معنوي معين ليجعلوا منها قضية، وإن لم يجدوا ضالتهم ، قطعوا عبارة من سياقها، وسخروها لأغراضهم الدنيئة، وهؤلاء ينطبق عليهم قوله تعالى :(قل هل ننبئكم بالأخسرين أعمالا * الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا)
والمشكلة أنّ هذه المحطّات الناطقة باللغة العربية يُنْظَرُ إليها أنّها جزءٌ من الإعلام الإسلامي وهذا خطأٌ فادح فهذا مجرّد إعلامٍ مذهبي أو ديني أي الإعلام المتخصص مثل إعلام الرياضة أو الأطفال أو المسلسلات والأفلام ، ويصحّ على محطات البث الطائفي وصف الإعلام التخريبي من أي مكان بثت وإلى أي فريق انتسبت، وأمّا الإعلام الإسلامي فهو إعلامٌ مختلفٌ تماماً في منهجه عن هذه الصورة الضيّقة، وقد وضعت في كتابي الإعلام الإسلامي وقواعد تقويمه تعريفا دقيقا للإعلام الإسلامي ونظريةً الارتقائية التي تبيّن ماهيته الحقيقيّة، ولكن لا يتّسع المجال لشرحها الآن.
هذه هي الصورة بشكل مختصر للبث الطائفي الذي لابد من مواجهته بطرق عقلانية واعية أذكر أهمّها باختصار:
أوّلاً: أن يقوم العلماء من كافة المذاهب والطوائف بالتحذير من محطّات البث الطائفي، واعتبارها عملاً مخرّباً ينبغي عدم الالتفات إليه، بل ويجب التوهين من شأن الأشخاص الذين يظهرون من خلاله، واعتبارُهم مأجورين وجهلاء لا وزن لأفكارهم، سواءٌ كانت ضد هذا الفريق أو ذاك.
ويجب أن ندرك جميعاً "أفراداً وعلماء" أن أيَّ فكرةٍ تقود إلى هدم قواعد التواصل وأسس التفاهم، هي ليست من الدين ولا المذهب بشيء، وعمل صاحبها التخريبي، لا يفيد شريعةً ولا مذهباً ولو تراءى له ذلك، بل إنه يسئ إلى الجهة التي ينتمي إليها، لأنّ ضرر هذا العمل في تمزيق وحدة الأمّة يجعله شرّاً مطلقاً ينبغي منعه واجتثاثه.
ومن هنا ينبغي على علماء الدين جميعاً التأكيد على رفض كلٍّ مصدرٍ شخصيٍّ أو إعلامي يبث الفرقة والعداء، لأنّه يهدم وحدة الأمّة وهي أعظم نعمةٍ اجتماعيّة وإنسانيّة، قال تعالى : (واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا وأذكروا نعمت الله عليكم إذ كنتم أعداء فألف بيم قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخوانا وكنتم على شفا حفرة من النار فأنقذكم منها كذلك يبين الله لكم آياته لعلكم تهتدون) فالنعمة هي التأليف والأخوة، وأما حفرةُ النار: فهي التفرقة بين فئات الأمّة، وتمزيق وحدتها، التي قال عنها الرسول الأكرم صلى الله عليه وسلم (مثل المؤمنين في توادهم وتعاطفهم وتراحمهم كمثل الجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى)[1] والخائضون في حفرة النار والتفرقة، يُمزقون اللحمة الإنسانية، فما الناس في المجتمع إلاّ أخٌ لك في الدين أو أخٌ لك في الإنسانية قال تعالى (يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم إن الله عليم خبير)13 الحجرات
ثانياً: عدم الغلو في الخطاب الديني: والغلو هو الإفراط وتجاوز الحد بدافع الأنانية والأهواء، هذا الغلو الذي تكون وراءه أحياناً مصالح ذاتيّة وتعتريه الأهواء والنزوات الفكريّة، وأحياناً قد تكون دوافعه بريئةً لكن نتائجها سلبيّة تفرّق ولا تجمع وتؤجّج العداوات والتخاصم بدل الأخوّة والوحدة، وقد حذر الله سبحانه وتعالى من الغلو في الدين قال تعالى:(قل يا أهل الكتاب لا تغلو في دينكم غير الحق ولا تتبعوا أهواء قوم قد ضلوا من قبل وأضلوا كثيرا عن سواء السبيل) أي لا تبالغوا في مدح البشر والآراء والأفكار, مبالغة تتجاوزون بها الحق، ولا تتبعوا أهواء قوم وآراءهم النابعة من شهواتهم التي خرجوا بها عن طريق الاستقامة والاعتدال، وعن التمسك بحبل الله المتين والدين القويم إلى طريق الغواية والضلال.
كما ينبغي عدم الغلو في توصيف الأشخاص مهما علت مرتبتهم، وتجنّب إعطائهم أوصافاً قد تخلّ بالعقيدة أحياناً، وعدم المقارنة بين علماء الدين وتفضيل بعضهم على بعض، والتحزب لأفراد أو جماعات ضد جهات أخرى للإيقاع فيما بينهم، فالمسلمون أفرادهم وعلماؤهم وجماعاتهم، كلهم يدعون إلى الله عز وجل: (أولئك حزب الله ألا إن حزب الله هم الغالبون). فالحق أن نلتزم الاعتدال وألا نتبع الأهواء والعصبيات والتقليد الأعمى الموروث، وألا ننخدع بدعاة الفتنة والضلال وأصحاب المصالح المادية والدنيوية، ممن يركبون موجة العاطفة الإيمانية ثم ينحرفون بالناس عن سواء السبيل.
ثم إنّ القرآن الكريم أمرنا ألاّ نفرّق حتى بين الأنبياء والرسل، وأن ننظر إليهم جميعاً بالتقدير والاحترام قال تعالى:(آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه والمؤمنون كل آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله، لا نفرق بين أحد من رسله وقالوا سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا وإليك المصير) البقرة. وهذا يقتضي العودة إلى المفهوم الصحيح والأوسع لمعنى كلمة "إسلام" من خلال الشموليّة القرآنيّة كقوله تعالى:(ومن أحسن قولا ممن دعا إلى الله وعمل صالحا وقال إنني من المسلمين) ، وقوله تعالى: (ما كان إبراهيم يهوديا ولا نصرانيا ولكن كان حنيفا مسلما وما كان من الكشركين), وبإيضاح وفهم هذا الموضوع نحلّ كثيراً من أسباب التنابذ والتنافر الديني والمذهبي.
ثالثاً: العودة إلى الكتب الدينيّة القديمة وتنقيتها ممّا قد يكون ورد فيها من أفكارٍ وآراءٍ مسيئةٍ، ينتج عنها تفريق الجماعة وفصم عرى الوحدة في إطارٍ ديني أو مذهبي، وكذلك ما يثير الضرر الطائفي، لأن تلك العبارات والمسائل المسيئة ربما كانت زلة لسان أو جاءت تحت ضغط من سلطان أو بدافع الطمع المادي والمعنوي، بل أكثرها صادر عن جهل وعدم دراية وأفق ضيق، وهي في الأحوال جميعها لا فائدة منها ولا طائل اليوم وراءها، فينبغي حذف كل كلمة أو عبارة أو رأي يترتّب عليه الضرر والخلاف، ويفضي إلى الفتنة وفصم عرى وحدة الأمّة، فالبشر غير معصومين، وليس لكلماتهم قدسية تمنع من حذفها أو تصحيحها.
حتى إنني أتمنى أن ينبري المخلصون إلى إعادة النظر في الأفكار والآراء التي لم تعد مناسبة بسبب ما طرأ من تقدم علمي, والقيام بتعديل كثير من الأمثلة الواردة في المصنفات القديمة، حيث لا ينكر تغير الأحكام بتغير الأزمان.
أمّا تعدّد الاجتهاد مع احترام الرأي الآخر, فهذا أمرٌ مختلفٌ عما أشرت إليه، بل إن التعدد الفكري في مسألة من المسائل يزيد من إثراء العلم وإغنائه، خصوصاً وأنّ ذلك لا يأتي إلاّ في الفروع مع بقاء التوافق في أصول العقيدة والعبادة، وينبغي في هذا الإطار قبول الآخر واحترام رأيه ومناقشة مثل هذه الأمور في إطار العلماء المجتهدين.
واسمحوا لي أن أقتبس بهذا الصدد من كلام آية الله الشيخ محمد علي التسخيري حفظه الله تعالى إذ يقول: (الاختلاف سنة كونية أعطت للحياة ألوانا مختلفة من التفكير والسلوك، وجعلت التباين بين الناس في رؤاهم ونظرتهم للأشياء هو الأصل، بعد ما كانوا أمة واحدة، قال تعالى :(وما كان الناس إلا أمة واحدة فاختلفوا) يونس: ١٩ فمن غير الممكن في الواقع وجود شخصين متفقين في كل الأشياء بنسبة مئة بالمئة، كما لا وجود لشخصين مختلفين بنسبة مئة بالمئة،فالاختلاف والاتفاق قضيتان نسبيتان، ولكن هذا لا يعني عدم وجود حق مطلق ولكن هذا الحق المطلق هو الذي يحدده الله تعالى فقط, أو من يخولهم من عباده والأوصياء والملائكة، وكذلك تعتبر الفطرة نافذة إلهية لمعرفة الحق, كما لا يعطي هذا الاختلافُ حقوقاً متساوية لكل المختلفين في الانتساب للحق،, بل إن للاختلاف مرجعية مطلقة, (إلى الله مرجعكم جميعا فينبئكم بما كنتم فيه تختلفون)الزمر: ٣ فالحكم لله في مواطن الاختلاف والاجتهاد.
رابعاً: ينبغي بث الوعي الإعلامي لإدراك أهميّة الكلمة وخطرها في وسائل الإعلام الجماهيري سلباً أو إيجاباً حسب قوله تعالى: (ألم تر كيف ضرب الله مثلا كلمة طيبة كشجرة طيبة كشجرة طيبة أصلها ثابت وفرعها في السماء* تؤتي أكلها كل حين بإذن ربها ويضرب الله الأمثال للناس لعلهم يتذكرون * ومثل كلمة خبيثة كشجرة خبيثة اجتثت من فوق الأرض ما لها من قرار) إبراهيم، فالكلمة الطيبّة هي التي تمتّن عرى التضامن والوحدة بينما الكلمة الخبيثة هي التي تفرّق وتمزّق الشمل وتؤذي الأمّة في حاضرها ومستقبلها، لهذا قال النبي صلى الله عليه وسلّم محذراً من الكلمة الخبيثة: (إنّ الرجل ليتكلّم بالكلمة من سخط الله تعالى لا يلقي لها بالاً يهوي بها في النار سبعين خريفاً).
 هذا من جانب ومن جانب آخر لا بدّ من بثّ الوعي الإعلامي في الأمّة لإدراك الكمائن الإعلامية التي تُنصب لها، وتَوجيهِ الجيل خاصّةً بمحاضراتٍ إعلامية، ليتمكّنوا من التمييز بين ما هو في مصلحة الأمّة وبناء مستقبلها، وما هو لتمزيق الأمّة وضياع مستقبلها، وهنا أقدّم قاعدة قياسيّة بسيطة:
- كلّ بثٍّ إعلامي وكلّ قرارٍ أو تصرّفٍ عربي يَفرحُ به العدو ويهلل له ويمدح صانعه فهو ضدّ مصلحة الأمّة.
- وكلّ بثًّ إعلامي أو قرارٍ أو تصرّفٍ يزعج العدو ويجعله قلقاً وتثور أبواقه وأبواق عملائه ضدّه، فهو في مصلحة الأمّة.
وإنّني أثق بثقافة الجيل الصاعد وقدرته على التفهم والتفاهم، وكلّما ازدادت هذه الثقافة والمعرفة ازداد الجيل مناعةً ضد التشويه الإعلامي، واستطاع أن يدرك الحقائق، وأن يميّز بين الغثِّ والثمين، ويصير كعصا موسى عليه السلام يلقفُ ما صنعوا ولا يفلح الساحر حيث أتى.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته

-------------------------------
([1]) الشيخان.