| مقال | بقلم: عبد الحميد منصوري
أول النصر .. هدنة
إن رضوخ المحتل للهدنة مقابل بعض أسراه بعد رفضها مرارا، إعلان لانتصار الدم على الميركافا، وهزيمة مخرز الفهد أمام عين “الياسين”.
بقلم: عبد الحميد منصوري*
"كانت المجزرة رهيبة، المساكن والخيام والأزقة والطرقات مليئة بجثث الموتى، أحصي أكثر من 2300 قتيل بين رجال ونساء وأطفال. لقد كان هذا الهلوكوست لزاما على فرنسا لتثبت عظمتها للقبائل المحاربة في الصحراء"؛ كان هذا كلام المجرم الجنرال "بليسييه" (Pélissier 1794- 1864) قائد الحملة الفرنسية على الأغواط سنة 1852، الذي أباد بالغاز ثلثي سكانها الذين وقفوا شوكة في حلق الاستعمار، الأغواط تلك البلدة الهادئة بواحات الجزائر التي لم يكن يتجاوز عدد سكانها حينها الثلاثة آلاف إلا بقليل، أباد بليسييه و جنوده أهلها ونُكبت وتحولت سنة المقتلة الوحشية إلى عام “الخَلية” أي الطامة والمهلكة.
فما أشبه الليلة بالبارحة، و ما أشبه جزاري فرنسا بالأمس بسفاحي إسرائيل اليوم الذين قتلوا الأطفال و النساء بغزة، وكما أزهق الاستعمار الفرنسي من الجزائريين بالأمس مليون ونصف مليون روح من الشهداء، ودمَّر مدنا وقرى ومداشر، وهَدَّم المساجد على الركع و البيوت على رؤوس أصحابها، هاهي جحافل المحتل الاسرائيلي وأرتاله وطائراته تفعل اليوم كذلك بغزة وأهلها كل شنيع، تريق آلافا من الأرواح قاربت 14 ألف روح حتى اليوم، وتجرح أكثر من 30 ألفا من الضحايا، وتدمر البيوت على ساكنيها والمستشفيات على المرضى والمدارس على التلاميذ في سعيها لزرع الرهبة في قلوب المقاومين ولكسر إرادتهم و هزيمة عزائمهم . وما يكون النصر إن لم يكن فرضا للإرادة؟!
ومثلما فرض الشعب الجزائري إرادته في يوليو/جويلية 1962 على المستعمر الفرنسي رغم الدم والجراح وأعلن استقلاله ونصره الذي سبقه صبر على الأذى وعلى البطش وثبات للأقدام والعزائم، فإن الشعب الفلسطيني أثبت سيره على نفس طريق النصر المحفوف بمكاره المقاومة، والمليء بأشواك الصبر التي لا يُلَقَّاها إلا من جعل حظه من الكرامة و العزة وافرا؛ وهاهي نتائج الصبر تتجلى في كسر عدوان إسرائيل على غزة في هدنة يطلق فيها الأسرى من سجون المحتل ويهنأ الغزيون فيها ولو أياما من ظلمه ونيرانه العمياء التي طالت كل حي وحجر و شجر.
إن رضوخ المحتل للهدنة مقابل بعض أسراه بعد رفضها مرارا إعلان لانتصار الدم على الميركافا، وهزيمة مخرز الفهد أمام عين “الياسين”.
وإن ثبات الغزيين وصبرهم ومقاومتهم الباسلة وقفت ضد الطغاة فكان أول النصر هدنة، وأول الغيث تحرير الأسيرات المقهورات في سجون العدو، وافتكاك لحرية الأطفال الذين اختطفتهم عصابة صهيونية غاشمة فحرموا حضن آباءهم وأمهاتهم مقابل استرجاعه لبعض أسراه، مع ترسيخ هدنة لمدة 4 أيام قابلة للتمديد تقف معها كافة أشكال الأعمال العسكرية، يوقف خلالها المحتل حركة طائراته وآلياته المتوغلة في كل مناطق غزة، يترافق ذلك مع دخول المؤن والإغاثات الصحية والوقود من المعبر الحدودي لكافة القطاع.
إن الهدنة التي إنتزعتها المقاومة من فم الوحش الصهيوني، تدل على مؤشرات للنصر وتؤدي إليه؛ نعدد ثمانية منها :
– أولا : إن مجرد التفاوض مع قادة المقاومة هزيمة منكرة لاسرائيل؛ والخضوع لإرادتها ولطرح السنوار وهنية ومشعل هزيمة مدوية ثانية تضاف إلى العار الذي ألصقته هجمات 7 تشرين الأول/ أكتوبر بالكيان الاسرائيلي.
– ثانيا : تعد الهدنة إقرارا بفشل قادة إسرائيل في تحقيق هدفهم المعلن المتمثل في القضاء النهائي على المقاومة، و سقوط وعودهم بقتل قادتها أو أسرهم و تدمير أنفاقها و مقراتها و بنيتها التحتية بعد أن لقنتهم دروسا في البسالة والإقدام، ملحقة العار برابع جيش في العالم كان يدعي أنه لا يقهر، فدمرت دبابة “الميركافا”، وأحرقت ” ناقلة النمر” وتناثرت أشلاء جنوده على أرض غزة المجاهدة.
– ثالثا : تعد الهدنة كذلك إقرارا بإخفاق إسرائيل في فرض معادلاتها على الأرض أثناء الحرب و بعد انتهائها ، بعد أن كرر نتنياهو بعنجهيته المعتادة حديثه عن مستقبل و شكل حكم غزة ما بعد الحرب، وكان كل مرة يعرض سيناريو ويرشح طرفا لحكمها، فمن محمود عباس الى الأوروبيين إلى الأمم المتحدة تعددت مجاملاته وهرطقاته و غرقت كلها في رمال غزة العصية المتحركة.
– رابعا : إن اختيار المقاومة تبادل الإفراج عن النساء والأطفال قبل المقاتلين، يعد تقديما لدرس قيمي وترسيخا لصورة أخلاقية راقية تقابل الصورة التي رسخت في الضمير الجمعي العالمي لجيش الاحتلال الإسرائيلي كمتوحش وكقاتل للنساء والأطفال ومحاصر ومدمر للمستشفيات والمدارس.
– خامسا : يعد الرضوخ للهدنة من المحتل إقرارا بصدق خطابات “أبو عبيدة” التي تحدثت عن الانتصارات المقاومة و ما تكبدته قوات الصهاينة من خسائر، مقابل تأكيد لأراجيف الثلاثي “نتنياهو” و”غالانت” و“غانتس” وأكاذيبهم وفبركاتهم الممجوجة و المضحكة في بعض الأحيان، وتشكيك في وهم انتصاراتهم التي لم تثبت على الأرض.
– سادسا : تثبت الهدنة أنه رغم الدماء الغزيرة و الخسائر البشرية العالية التي لحقت بسكان غزة و الدمار الشامل الذي أصاب قطاعهم إلا أن إسرائيل لم تنجح في استعدائهم على المقاومة، و لم تسقط إرادة الشعب المكلوم في وهدة التذمر ولا اتهام مقاومته في التسبب في أذاه، و لكن صبر و صابر و احتسب ذلك ضريبة للحرية، و كان صبره دليلا على رضاه و قبوله بمواصلة طريق النضال و الجهاد حتى يقرر مصيره.
– سابعا : أثبت إرغام الاحتلال على وقف القتال المؤقت على نجاح استراتيجية وحدة الساحات وأن الشعب الفلسطيني لم يبق وحيدا بل آزرته قوى المقاومة في لبنان واليمن والعراق.
– ثامنا : إن الضغوط التي مورست على المحتل الصهيوني من قبل حلفائه كانت بسبب انتقال التذمر والتململ والاحتجاجات على المجازر المروعة إلى ساحاته و انتشار المظاهرات في كل مدن الغرب، و تزايد حرب المقاطعة التي بدأت تؤتي أكلها، فقد قررت الشعوب العربية و المسلمة أن لا تشتري ممن يدفع المال لقتل أبنائها.
بعد هذا الاستعراض لبعض ما يوحيه رضوخ المحتل للهدنة ولتبادل الأسرى، والذي يعد بحق نصرا للمقاومة، فإننا نعتقد مثلما كانت الهدنة أول النصر فإن آخره سيكون تحرير الأقصى، وإن لعنة الدم المراق من أطفال غزة ومستضعفيها ستكون وبالا على المحتلين، و سيوقِّع حينها أبناء أحمد ياسين “بالياسين 105 ” نصرا غاليا مؤزرا يرسمونه مجدًا سيبقى تليدا مادام الدهر بعد أن تفلس بنوك أهداف الصهاينة وتسقط أحلام قادتهم السفاحين الفشلة وداعميهم القتلة في بئر المقاومة السحيق.
نهاية المقال
- * كاتب و ناشط سياسي جزائري